Tuesday, October 13, 2015

(آخر السلاطين )مغامرة (منصور الصويم) الكبري هل هي رواية أم سيرة ام تاريخ؟ دراسة/ صلاح الدين سر الختم علي



الكاتب زاوج بين الاقتباس المباشرلنصوص تاريخية  وبين الابتداع فجاء النص هجينا بين الرواية والتاريخ والسيرة
بناء الشخصيات تعثر بسبب التمسك بتاريخية الاحداث المروية وبالشخصيات والوقائع كما هي
مدخل مهم: (آخر السلاطين) لها حبل سري مع (تخوم الرماد):
خاض الكاتب منصور الصويم في روايته الاخيرة (آخر السلاطين) تجربة محفوفة بالمخاطر حين اختار مغازلة التاريخ روائيا، والمتتبع لتجربة الصويم لايندهش لذلك الإختيار فمشروع الصويم الثقافي والفكري لم يكن بعيداً عن ذلك ففي كل رواياته نجده مولعا بالحفر والتنقيب في تاريخ وجذور المجتمع السوداني بشكل ملفت، الجديد في هذه الرواية هو اختيار شخصية من قلب التاريخ من اقليم دارفور بينما كانت الشخوص في روايات سابقة شخصيات معاصرة من الزمن القريب جدا. واختيار شخصية السلطان علي دينار لم يأت اعتباطا بل جاء اختيارا واعيا ومقصودا،فشخصية (علي دينار)تتراقص في المخيلة السودانية كشخصية ايجابية مع صورة المحمل الذي يخرج من دارفور الي الاراضي المقدسة حبلا سريا يربط السودان بالعروبة والاسلام من جهة، ومن جهة أخرى فإن صدام السلطان مع الاستعمار يجعله رمزا وطنيا ومحليا باذخاً لمقاومة الظلم والاستبداد،هذه الشخصية الايجابية لعل اختيارها جاء مقابلا للشخصية السلبية بطلة رواية الصويم السابقة(تخوم الرماد) تلك الشخصية النكرة (بلا أسم في الرواية) و التي تلوثت اياديها بدم بني جلدتها وأهلها وحكمت علي نفسها بالعزلة والنفي الاجتماعي وهى تمثل اداة للقمع والتسلط، فشخصية علي دينار هي الشخصية المقابلة لتلك الشخصية السلبية في مشروع الصويم الثقافي الانساني. ولعل جعل الشخصية السلبية شخصية مضطربة بلا جذور في مقابل شخصية علي دينار القوية ذات الجذور الراسخة والسجل الوطنى بعلاقتها بالمهدية والسجل الانساني والديني بعلاقتها بالاراضي المقدسة، كل هذا لم يأت بمحض الصدفة أو خبط عشواء، بل هي اختيارات واعية للكاتب لاتخفي علي أحد ولها دلالاتها الفكرية العميقة.الحقيقة انه قصد الكاتب أم لم يقصد فإن ثمة حبل سري يربط بين روايته ( تخوم الرماد) وروايته الحالية( آخر السلاطين)، وذلك الحبل لا يقف عند حد التضاد بين الشخصيتين الرئيستين وماتمثله كل واحدة، بل يتعدي ذلك الي كون كل رواية تؤرخ لفصل  مختلف من فصول تاريخ اقليم درافور والصراعات علي مسرحه في زمانين مختلفين. وبهذا الفهم ليس من العسير ادراك بقية القواسم المشتركة وإدراك حقيقة وجوهر مشروع الكاتب الثقافي الذي يتكئ علي التاريخ .الروايةتقع في حوالي مائتي صفحة من القطع الصغير المتوسط، وهى صادرة عن دار اوراق للنشر والتوزيع بالقاهرةفي يونيو 2014.
المصدر المباشر للرواية:
لم يشر الكاتب بصورة مباشرة او غير مباشرة للمصدر الذي استقي منه مادة الرواية، وليس ذلك مطلوبا منه، لكننا نستطيع القول بثقة ويقين تامين أننا توصلنا  بجهدنا الخاص الي المصدر المباشر الذي استقيت منه وقائع الرواية الجوهرية ومعظم شخوصها وهذا المصدر هو مؤلف قديم يحمل اسم (فتح دارفور ونبذة من تاريخ سلطانه علي دينار)  مؤلفه ضابط مصري يدعي البكباشي (حسن قنديل)شارك في الحملة ضد علي دينار ودون وقائعها في شكل يوميات. وقد صدر الكتاب في العام 1937علي نفقة الامير عمر طوسون وطبع بالاسكندرية بمطبعة العدل.ومن خلال الإطلاع علي الكتاب والرواية بالتفصيل نقرر بيقين انه المصدر المباشر الذي اعتمده الكاتب في كتابة الروايةوهناك شواهد عديدة علي ذلك نلخصها باختصار فيما يلي:
1/ وحدة موضوع المصدر المباشركتاب( فتح دارفور) والرواية وهو تسجيل وقائع الايام الاخيرة للسلطان علي دينار.فهذه الوحدة ليست صدفة.
2/ ورود اسماء كثيرة لمواقع واماكن  واشخاص وردت بالكتاب(فتح دارفور )ثم وردت بالرواية.ابتداء من اسم المؤلف نفسه فقد ورد بالرواية ص 165 ( قال له البكباشي حسن قنديل وهو ينحني علي مرقده بالعنقريب) والحديث هنا عن قائد من قواد جيش السلطان علي دينار يدعي الاميرالخليل ود اكرومة وقد وردت الاشارة اليه باسمه هذا  وهذه الواقعة في كتاب (فتح دارفور) بواسطة مؤلفه البكباشي حسن قنديل الذي ابدي اعجابه بشجاعة الامير الاسير.  وليس للأمر تفسير سوي ان الكتاب هو مصدر الرواية الرئيس خصوصا انه الأقدم بلا جدال.
3/ترد في الرواية شخصية ضابط مصري يدعي عبد الموجود هرب من جيش العدو وانضم الي جيش السلطان قبل المعركة الفاصلة بسبب اساءة ضابط انجليزي اليه، وهذه الشخصية باسمها وسيرتها ماخوذة كما هي من كتاب فتح دارفور.
4/ ورد في الرواية مسمي( بنات المطر) واطلقه المؤلف علي شخصية الفتاة هادية التي احبها القائد سيف البرتاوي وهي ابنة قائد كبير تقيم في قصر السلطان، وقد اورد الضابط حسن قنديل في ( فتح دارفور) ضمن وصفه لحاشية السلطان مصطلح ( بنات المطر) وشرحه في الهامش بان السلطان كان يجمع البنات الجميلات في المملكة في قصره سواء كن بنات قواد او من عامة الشعب ويضعهن في جناح من قصره ويعشن حياة مترفة ويتزين ويتطيبن ويكن تحت تصرف السلطان ويسمين بنات المطر.( وكان ايراد ذلك ضمن الحديث عن مساوئ السلطان من وجهةنظر مؤلف الكتاب) وهو قول لم يرد في مصدر آخر ولعله جزء من الحرب النفسية للعدو.
اشكالات منهجية في كتابة رواية (اخر السلاطين):
تقوم الدراسة في احد وجوهها علي فرضية وجود خلل منهجي في تقنية كتابة رواية الصويم (آخر السلاطين)، وهذا الخلل نسعي الي ابرازه من داخل الرواية من جهة وبوضع الإطار النظري للمنهجية من جهة اخري،استنادا علي معارفنا النقدية وعلي دراسة سابقة لمنهجية  كتابة الرواية المستندة علي وقائع التاريخ وهى دراستنا لتجربة الكاتب الكبير امير تاج السر* فإن منهجية كتابة الرواية المستمدة من وقائع التاريخ او السيرة تقوم علي إنجاز اربع عمليات متلازمة ومتداخلة بالترتيب التالي:
1/ عملية الإنتقاء: المقصود عملية اختيار الشخصية أو الموضوع من التاريخ او السيرة، وعملية جمع المادة الخام عن الشخصية أو الموضوع من مصادر تاريخية صحيحةومن السيرة الشعبية المتعلقة بها.هذه العملية يلعب فيها العنصر الذاتي دورا مهما ، فخبرات الكاتب لشخصية واهتمامته وخلفيته الفكرية والثقافية هي التي تحدد  معايير الانتقاء وترجيح هذا او ذاك من الشخصيات او الموضوعات .
2/ عملية الحذف: تقتضي منهجية كتابة الرواية المعتمدة علي وقائع التاريخ بطبيعتها تدخل الكاتب( كونها عملية إبداعية وليست نقلا فوتغرافيا لمشهد ثابت في الزمان والمكان) فكتابة الرواية تقتضي قيام الكاتب بالتدخل في المادة الخام وتشذيبها واستبعاد الوقائع التي ليست لها وظيفة ودور في نصه الروائي المستخلص من وقائع التاريخ أو السيرة، فالرواية ليست اقتباسا للنص التاريخي كما هو، بل هي اعادة تشكيل له ، تماما كما يفعل الصائغ بالذهب الخام وكما يفعل القصاص بمشهد صغير مستلف من الحياة فهو لايستعيده كما هو بل يعيد تشكيله وصياغته بما يحقق هدفه النهائي من عملية الكتابة.
3/ عملية الإضافة: وهناك عملية ثالثة متلازمة مع الأولي والثانية وهي عملية إضافة وقائع متخيلة للنص الأصلي ، فالرواية ابداع وإبتداع وليست نقلا اعمي للنص التاريخي اوالسيرة،فبدون تدخل المبدع الخلاق في النص بالحذف والاضافة لا نكون امام نص إبداعي .
4/ عملية التحوير: عملية التحوير للنص الاصلي هى عملية جوهرية لتحرير النص من قيود كتابة التاريخ وجعله يحلق بحرية في فضاء المتخيل الروائي،وعملية التحوير هى عملية الخلق الابداعي وتحويل العجينة المستمدة من النص الأصلي الى منتج جديد مختلف عن الأصل وفيه بصمة الكاتب الخاصة وروحه الخلاقة. وهى مكملة للعمليات الثلاث السابقة لها( الانتقاء والحذف والإضافة) وهي النتيجة والغاية النهائية التي ينجم عن تحققها ميلاد النص الروائى من رحم التاريخ أو السيرة. وينجم عن تعثرها وعدم تحققها تعثر تلك الولادة وبقاء النص التاريخي كما هو دون تحول ألي منتج ابداعي مختلف . عملية التحوير هي ضرورة فنية ، فعمليتا الحذف والإضافة لاتتحققا للكاتب إلا إذا خضعت الشخصية التاريخية المنتقاة او الموضوع لعملية تحوير تهدف لطمس معالمها الحقيقية وتحريرها من القيود المفروضة علي كتابة التاريخ والسيرة وأبرز تلك القيود ضرورة إلتزام المؤرخ بالحقيقة وعدم المساس بوقائع التاريخ وضرورة حشد المراجع والمصادر الصحيحة المؤيدة لكل معلومة يوردها في كتابته للتاريخ وبدرجة اقل في كتابة السيرة.فالتاريخ يُروى مثل الرواية لكنه ليس برواية بمفهومها الفني،يقوم الروائى باعادة انتاج التاريخ مستعينا بموهبته وقدراته الابداعية، فالشخصية او الواقعة التاريخية تكف عن أن تكون تاريخا عند دخولها في الرواية ولابد من إخضاعها لعملية تحوير وتشذيب وإعادة صياغة لها من جديد بغية توظيفها فنيا لخدمة رسالة الرواية، ويتصرف الكاتب في الشخصية او الواقعة بحرية تامة خلافا للقيود المفروضة على المؤرخ الذي يتعرض للإتهام بتزوير التاريخ إن خالف حقائقه الثابتة او تدخل فيها.أما الروائى فإنه لايكتب تاريخا ، بل يكتب رواية هى بطبيعتها نسيج هجين فيه مزج بين الواقع والخيال، وليس لحرية خياله حدود تحدها إلا الضرورة الفنية للنص. وحتى يحصل علي تلك الحرية كاملة غير منقوصة يتعين على الكاتب حين يقارب شخوص التاريخ ووقائعه ان يحرر نفسه من قيوده بالتأكيد المبكر علي هوية مايكتبه بعدة سبل وطرائق، وفي رواية الصويم موضوع الدراسة نجد الأمر ملتبس منذ الوهلة الأولي ، فبينما كتب المؤلف علي الغلاف الخارجي(آخر السلاطين) رواية. وهذا تأكيد علي ان النص رواية، نجد الغلاف الداخلي وجميع صفحات الرواية تحمل عنوانا وتوصيفا آخراً:(آخر السلاطين"حروب السلطان علي دينار على تخوم مدافن السلاطين".) فالإضافة ( حروب السلطان علي دينار...) تأكيد علي ان المكتوب تاريخ أو سيرة وليس رواية!! وهنا إرباك وارتباك واضح لايقلل منه إيراد كلمة رواية أعلى الغلاف الداخلي.لاشك إذاً إن عتبات النص جاءت حاملة لإشكاليات منهجية  واضحة خلقت التباسا بيناً بشان هوية النص المُبدع. وقد رافق ذلك الالتباس النص بأكمله فمجرد بروز السلطان علي دينار وبعض قواده ورجال سلطته باسمائهم وشخوصهم الحقيقية في النص وورود اسماء المواقع والأمكنة كما هي في الواقع عمق ذلك اللبس والالتباس حول هوية النص المكتوب هل هو تاريخ مجموع و سيرة  ام رواية من بنات الخيال ؟!
لقد اجتهد الصويم وجمع مادة اولية جيدة ونادرةحول شخصية تاريخية مهمة ومثيرة للجدل هي شخصية علي دينار ،وتحصل علي سفرتاريخي قيم ونادر متعلق بالايام الاخيرة في حياة الشخصية حسبما هي مدونة من وجهة نظر احد ضباط العدو الذي شارك في الحملة ضد السلطان، ومن المؤكد انه جمع معلومات أخرى من مصادر تاريخية اخري ، وقد باشر الكاتب عملية الحذف والإضافة ،حيث استغني عن اجزاء مما وورد بالمصدر المباشر (كتاب فتح دارفور) فقد استغني عن كل واقعة سلبية نسبها المؤلف للسلطان، وأضاف من خياله شخصيات مثل شخصية الفارس سيف البرتاوي وقصة حبه الرومانسية، وكذلك شخصية كشافي السلطان:(جبريل الطاهر ) و (حسين القرعاني). لكن الكاتب تعثر في المرحلة الحاسمة في منهجية  تحويل النص التاريخي الي نص روائى وهي مرحلة ( التحوير)،فقد اختار الكاتب  نقل تاريخ السلطان علي دينار كما هو_ شانه شان المؤرخ _ واختار ايراد السلطان  بشحمه ولحمه كما هو في الرواية دون تحوير الشخصية روائيا، وكان نتاج ذلك الاختيار وذلك التعثر ان الكاتب وجد نفسه محاصرا بوجوب اتباع منهجية المؤرخ لا الروائي في بناء شخصية السلطان علي دينار،فاي محاولة لاعمال الخيال في شخصية علي دينار باتت أمراً غير مقبول وغير متاح بموجب الحضور التاريخي للاسم ،فجاء بناء الشخصية في الرواية خارجا عن سيطرة المؤلف خاضعا لحكم وحدود رواة التاريخ وكتابه المنحازين للسلطان، ولم يسمح هذا الاختيار للكاتب بالتوسع في  تناول الشخصية في الرواية، فجاء اقترابه منها اقترابا خجولاً، وجاء تصويره للشخصية تصويرا فوتغرافياً خارجياً من علي البعد ، عامرا بتقديس المؤرخ المحب للشخصية ومفتقدا لموضوعية السرد المطلوبة في الرواية، فجاء كل شئ عن السلطان في الرواية وصفا خارجيا مستقي من المصدرالتاريخي المباشر وليس بناءا فنياً للمؤلف، لذلك لم تكن الشخصية شخصية فاعلة في الرواية كما كانت في حلبة التاريخ، بل جاءت شخصية سلبية مفعول بها وهي تقف جامدة تنتظر مصيرها المحتوم الذي رسمه العدو القادم من خارج الحدود، وهذا الرسم للشخصية هو نفس الحدود والتصورللشخصية الذين رسمهما الضابط المصرى  مؤلف  كتاب (فتح دارفور)للسلطان في مخيلته.فالضابط كان يروى الاحداث ابتداء من صدور قرار تجريد الحملة ضد السلطان في نسق تصاعدي حتى مقتل السلطان في جبل مرة بعد هروبه من الفاشر بعد هزيمة جيشه وسقوطها في يد العدو. بالنسبة لهذا الضابط المصرى حسن قنديل كان السلطان (على دينار) مجرد هدف عسكرى يجب تدميره.  فجاء السرد في الرواية بذات النسق  ومن ذات موقع السارد في نص( فتح دارفور)، كان السلطان في الرواية يتحرك في الحدود نفسها، لذلك جاء النص (آخر السلاطين) اقرب للسيرة منه الي الرواية، واقرب للتأريخ منه الي الرواية، فقد تم نقل النص التاريخي كما هو، أو فلنقل إن شئنا الدقة  تم إيراده مع اضافات يسيرة لم تمسه،لقد قيد الصويم خياله الفسيح بحدود النص التاريخي وشخصية علي دينار المرسومة في التاريخ والعقل الجمعي واختار بذلك قص اجنحة خياله . فحضور الشخصية بثقلها التاريخي  كبل خيال المؤلف وقدراته في الابتداع وباتت الكتابة عبارة عن سير في حقل الغام . ولنفهم معاناة الكاتب نشير الي ان (امير تاج السر) لم يعانى مع شخصية السلطان تيراب في رواية(مهر الصياح) لانه اختار تحويرها الي شخصية خيالية  تدعي (السلطان رغد الرشيد)تنتمي الي سلطنة خيالية تسمي سلطنة انسابة، فاطلق لخياله العنان مختارا كتابة رواية تتكئ علي تاريخ وليس كتابة التاريخ نفسه. ونفس الشئ فعله ( حمور زيادة) في روايته(شوق الدرويش) فقد اختار بوضوح كتابة رواية وحررها من ثقل وقيود الحضور المباشرلشخصيات تاريخية ولجا الي تحوير النص التاريخي ليحرر حياله من القيود.
لذلك اميل الي تصنيف نص( آخر السلاطين) ضمن كتب السيرة وليس الرواية، وهي تجربة مبهرة في كتابة السيرة حيث اعتاد الناس ان تكون السيرة سيرة متعلقة بشخص كاتبها ، الي حد ان تعريف معظم النقاد للسيرة يحصرها في تلك الحدود، بينما توجد نماذج كثيرة لكتابات سيرة تناولت سير مشاهير ومدن ولم تتناول سيرة الكاتب الشخصية، لقد نفض الصويم  الغبار عن شخصية علي دينار واعاد وضعه في دائرة الضوء بنص يكشف عورة مدوني التاريخ الرسمي للسودان الذين اغفلوا هذا الفصل المهم في تاريخ السودان ودونوا تاريخ شخصيات ووقائع اقل شأناً. ولقد عمد الصويم الي تخليص تلك السيرة من تخرصات الاعداء وحروبهم النفسية علي السلطان ومعسكره ولم تفلت من تدقيقه الا حكاية بنات المطر التي قصد بها تشويه صورة السلطان.اسلوب عرض السيرة زاوج بين الحقائق الجامدة والسرد الممتع الذي يشد القارئ ويبقي اهتمامه قائما حتي آخر سطر، واستخدم الكاتب بعض الوقائع المنسوجة من الخيال ليشد بها اجزاء السيرة ويكسبها التشويق والحبكة المتقنةونجح في زرع شخصيات ووقائع من بنات خياله في فضاء النص دون مساس بالنص الأصلي. ويبقي اتجاه كتاب الرواية في السودان نحو دهاليز التاريخ للتنقيب فيها عن موضوعات تخدم همومهم المعاصرة اتجاها محمودا له دلالات كثيرة ، ابرز تلك الدلالات هي ان كتابة الرواية ليست عملا سهلا ً وليست تجميعا وحشدا للوقائع بلا هدف ولاموهبة ولاشروط انتاج، بل هي عمل خلاق  وجهد دؤوب وفكر وقاد. تحية للمبدع منصور الصويم  وهو يحتل في كل يوم جديد بجهده واجتهاده مكانة مرموقة في خارطة الادب السوداني.
هذه الدراسة تنطلق من فرضية اساسية مفادها أن الراوية عموما ً والرواية العربية خصوصا ً تتماهى مع التاريخ وتتمثله وتكتبه شاءت ذلك أم لم تشأ لأن كتابة الراوية هى صيغة أخرى من صيغ كتابة التاريخ من حيث هو قراءة مستفيضة للعلاقة بين ما كان وما هو كائن وما سيكون . هذه الجدلية الحوارية بين الأزمنة  الثلاث ( الماضى  الحاضر / المستقبل ) هى بؤرة اهتمام التاريخ والمؤرخ الموضوعى الأمين وهى فى الوقت نفسه بؤرة اهتمام الروائى والرواية . قد أختلف منهج وأسلوب العرض فى التاريخ عن الرواية وفي الرواية عن كتابة التأريخ فقد تسقط الرواية كثيرا ً من القواعد المقدسة والقوالب الأكاديمية الصارمة و  الجامدة فى كتابة التاريخ وتسعي الي إخراج التاريخ من جمود المتاحف وغبار المواقع الأثرية وجمود الحجارة إلى ضجيج الحياة والمشاهد اليومية الحية والأشخاص العاديين الذين لا تذكرهم كتب التاريخ الرسمى بكلمة ولا تراهم إلا أدوات فى يد القادة والملوك وقادة الثوار الذين يخلدهم التاريخ. إذا الروائى و المؤرخ ينظران الى التاريخ من زاويتين مختلفتين ، المؤرخ ينظر نحو الماضى بهدف كشف الحقيقة ، والروائى ينظر نحو الماضى بهدف تحقيق التواصل الانسانى ، الروائى ينظر بإحساسه الفنى الى التاريخ على انه المادة التى يستطيع عبرها تصوير رؤيته للواقع ، والتعبير عن تجربة من تجاربه ، وهو بذلك لا يكتب التاريخ ، بل يقيم معالم له ويحاول خلقه من جديد على وفق رؤيته ، بمعنى اخر (ان المؤرخ يسجل بينما الروائى (يخلق) وفقا لذلك تكو ن الرواية عملا فنيا يتخذ من التاريخ مادة له ، ولكنه لا ينقل التاريخ بحرفيته بقدر ما يصور رؤية الفنان للواقع من خلاله ، للتعبير عن تجربة من تجاربه ، او موقف من مواقف الفنان تجاه مجتمعه)
صلاح الدين سر الختم على
مروى/ 10 اكتوبر 2015
المراجع/
1/منصور الصويم/ آخر السلاطين/ رواية/ دار اوراق للنشر والتوزيع بالقاهرة.
2/ منصور الصويم ( تخوم الرماد) رواية.
3/ فتح دارفور ونبذة عن سلطانه علي دينار/ البكباشي حسن قنديل/ مطبعة العدل بالاسكندرية 1937.
4/ الينابيع السحرية ومسرات الخيال/ صلاح الدين سرالختم علي/لمحات من روايات امير تاج السر. منشورات ضفاف ودار الامان ومنشورت الاختلاف
5/ مهر الصياح / رواية/ امير تاج السر.
6/شوق الدرويش رواية/ حمور زيادة. دار العين .

7/ الرواية العربية والتاريخ / دراسة غير منشورة للكاتب.

Friday, May 29, 2015

( النقد الملاكى) ( تحت الطلب)


ماكنت أريد الكتابة في هذا الموضوع لاسباب عديدة اهمها أن كثير من الناس سيتحسسون مسدساتهم ويعتقدون لسبب أو آخر أنهم المعنيون ، ولكن الموضوع سد نفسي من الكتابة وبخاصة الكتابة النقدية وسد نفسي من المجموعات فتثاقلت خطاى عنها ووجدتنى نافرا من العديد منها بقدر ما كنت نهما ونشطا ومتفاعلا، يكتب البعض نصوصا ادبية وينشرها ثم يمسي شرطيا يحمل هراوة يلهب بها ظهور كل من يبدى رايا لايعجبه في النص وينصب نفسه ناقدا شارحا لنصه الفريد ومقاصده وروعته التى لاتجدها الا في كلماته الملئية بالاعجاب بالذات ، صدورهم ضيقة، يشعرون بانك خلعت عنهم كل مايلبسون وتركتهم عراة في الشارع العام حين تناولت نصهم بالتشريح ، فكل نقص مشار اليه هو ذم وكل مدح متوقع حجبته هو موقف عدائي وقسوة !! هم يريدون نقدا وناقدا يمسح على ظهور نصوص عرجاء كمايمسح الناس على ظهر قطة مدللة،لديهم احساس غير مبرر بالتفوق والنبوغ وقداسة نصوصهم الخاوية على عروشها وعدم قابليتها لاى انتقاص من قدرها العالى، يلهثون خلف النقاد ليكتبوا عنهم ويضعوهم في دئرة الضوء ،وحين يكتبوا يديرون ظهورهم في تعال ويصطنعون الدهشة والبراءة و التواضع الزائف إذا كتبوا ما وافق نرجسيتهم الكامنة، اما إذا كانت الكتابة تشريحا قاسيا فويل للكاتب من سكاكينهم . الكتابة النقدية عندى في الحقيقة حالة ابداعية مثل نصوص القصة والرواية والقصة القصيرة جدا، هى لحظة صدق فائضة، لحظة يبلغ الانفعال فيها مع النص حدا تنهار معه السدود واشعر بالحاجة لمشاركته مع الآخرين،وحدث كثيرا ان كتبت عن نصوص لا اعرف كتابها لكننى وقعت في غوايتها او وجدت فيها شيئا يصلح لعرض الأفكار حول النوع الأدبي الذى كتبت تحت مظلته بما يحقق الفائدة والفهم لفنون كتابته وقواعده والتعريف به، أحيانا تكون كراسة ملئية بالأخطاء اكثر فائدة وتقريبا للمعنى الذى يراد ايصاله من كراسة خالية من الاخطاء لتلميذ نجيب، والنصوص كراسات تشتمل في طياتها تجارب ابداعية تتجاوز كراسات التلامذة بكونها ابداع اصيل وليست ناتج املاء المعلم.وهذا الابداع مثله مثل كل جهد بشري ، فيه مواقع ضعف ومواقع قوة، وفيه مواقع إجادة وموقع إخفاق، فلماذا يطالب بعض من يكتب النقاد بالتصفيق فقط ويمنعونهم الصفير؟!، لماذا يمارس بعض المثقفين دورا تمارسه بعض الحكومات يقضى بتدجين المفكرين وتحويلهم الى جوقة إنشاد ملكية تسبح بحمد السلطة فيطلبوا من النقاد أن يتحولوا الى سدنة للنص وكاتبه؟ولماذا يريدون جعل النقد مرادفا للمدح والتطبيل الأجوف وغض الطرف عن عورة النصوص البادية؟ وليس الأمر قاصرا على كتاب النصوص ، بل هناك الكثير من المثقفين يمارسون النقد المجامل ( تحت الطلب) لسبب أو آخر، وبصور مختلفة ، اكثرها انتشارا تلك الشهادات التى توزع بكرم حاتمى في المجموعات لنصوص شاحبة وباهتة متوجة إياها على عروش زائفة.

Tuesday, April 7, 2015

شوق الدرويش رواية الاتكاء على التاريخ بطل الرواية (بخيت منديل)والهجرة بين عبودية الجسد وعبودية الروح وقصور الوهم

شوق الدرويش رواية الاتكاء على التاريخ 
بطل الرواية (بخيت منديل)والهجرة بين عبودية الجسد وعبودية الروح وقصور الوهم 
بقلم / صلاح الدين سرالختم على 
رواية(شوق الدرويش) للكاتب حمور زيادة** الصادرة عن دار العين في 2014 رواية تغازل المسكوت عنه وتقاربه بقوة من مواقع وزوايا مختلفة، يتموضع الراوي داخل الرواية التي تدور أحداثها في القرن التاسع عشر بمدينة أمدرمان إبان الثورة المهدية، يروي الراوي حكايات أناس عاديين عاشوا تلك الأيام في مزج فريد بين وقائع التاريخ المحورة روائياً وبين المتخيل الروائي المبدع بواسطة الكاتب،فالكاتب لايكتب تاريخاً بعين واحدة ولسان واحد كما ظن البعض ، بل يكتب رواية من وجهات نظر الشخوص التي تتحرك في فضائها السردي بحسب مواقعهم ومواقفهم من الأحداث المنسوجة من وحي الخيال بالاشتغال على وقائع تاريخية تمسي داخل العمل الروائي قطرة في بحر هائج، ولاتعود بعد دخولها في الرواية تاريخاً، بل عنصراً من عناصر العمل الفني تبرره الضرورة الفنية وتحدد كيفية التعامل معه مواقع الرواة وتموضعهم، فواقعة مثل ثورة المهدي يختلف النظر فيها وإليها باختلاف موقع المتحدث عنها والناظرإليها ، فوجهة نظر أمرائها لايمكن أن تتطابق مع وجهة نظر أسراها وقتلاها وأعدائها والعكس صحيح،الروائي ليس مطلوباً منه كتابة بيان تأييد ولا بيان إدانة بل المطلوب منه كتابة رواية وفق شروط كتابة الرواية،بما في ذلك التماهي مع موقع الراوي ولو كان قوله غير مقبولٍ من وجهة نظر مغايرة.فالقول داخل الرواية تبرره الضرورة الفنية ولا تبرره حقائق التاريخ المكتوبة من موقع مختلف وبمنهج مختلف.كان الكاتب جريئاً في رسم شخصيات مأزومة في الرواية مثل شخصيتي (بخيت منديل) و(الحسن الجريفاوي)اللتين باتتا على طرفي نقيض مع فكرة المهدية التي آمنتا بها وقاتلتا تحت راياتها بسبب صراع الفكرة مع الواقع، وكانت أزمة كل منهما مبررة ومنطقية في حدود شخصيتها والأثقال التي ترزح تحتها الشخصية وتئن ، ولم تكن الأزمة مفتعلة ولا مقحمة على الأحداث ومنطقها من خارجها.فبينما كان (بخيت) يرزح تحت وطأة وهم مستحيل هو حبه لراهبة أسيرة ذاقت ما ذاقت على يد الثورة كونها في المعسكر الآخر، فجعل بخيت الجهادي السابق في صفوف الثورة من نفسه أداة لسفك دماء من قتلوا حبيبته المتوهمة،منتقلاً عملياً إلى المعسكر الآخر، كان الحسن الجريفاوي يرزح تحت وطأة عبء حقيقي سببه جرائم حرب ارتكبها بحق ضحايا مدنية في (المتمة )وغيرها من الأمكنة أثناء ما كان يؤمن به بأنه جهاد مقدس.ظلت صورة تلك الطفلة التي أزهق روحها تلاحقه وتمنع عنه سكينة الروح التي بحث عنها في الجهاد، فتزعزع إيمانه بالفكرة.وجوه الشبه بين الحسن الجريفاوي وبخيت منديل كثيرة، فكلاهما آمن بالمهدية وقاتل تحت رايتها ثم كفر بها وعانى ، لكنهما يختلفان في أن الحسن كان حراً وآمن بالفكرة من موقع ديني وصوفي، بينما بخيت كان راسفاً في أغلال العبودية وآمن بالفكرة كبوابة للحرية الشخصية،هكذا ينزل الكاتب بالفكرة من المطلق المثالي المجرد إلى الواقعي الملموس الذي تجسده شخصيات من لحم ودم تنتمي إلى تلك الأيام فيصورها في حوارها وكفاحها في قلب الأحداث وتأثرها المباشر بها من مواقع مختلفة تختلف عن مواقع الرواة والمؤرخين الذين يكتبون التاريخ بدم بارد وأنامل لم تتسخ بغبار المعارك، وآذان لم تسمع صليل السيوف ويصدرون قرارات بشأن وقائع لاتؤثر على مصائرهم الشخصية تأثيراً مباشراً مثل المعاصرين.وإذا كان المتخيل ينشأ على المادة التاريخية أو الفعل المنجز بشكل عام، فهو لايعطي قيمة كبيرة للحقيقة التاريخية كحقيقة مطلقة، ولكن كاستعارة لشئ تسيد وانتفى وصار جزءاً من الذاكرة الجمعية ووظيفته في النص الروائي هي أقرب إلى الإيهام والاحتمال البعيد منها إلى الحقيقة الثابتة. لهذا فاختبار هذه الحقيقة ومساءلتها خارج السرد يعد ضرباً من الاستحالة.فواقع الرواية يبقى واقعاً خاصاً لاتنتجه إلا هي، حتى وإن اعتمد هذا الواقع على عالم خارجي حقيقي، فهو يتشكل داخل الروايةتشكلاً خاصاً يمنحه خصوصية ونوعاً من الانفصال عن الواقع الذي يمثله. 
حين نتتبع بناء شخصية البطل (بخيت منديل) مثلاً،نجد طفولة بائسة انتهت باختطافه من بين أهله في جبال النوبة، ثم عرضه في سوق الرقيق في مشهد يحمل في طياته وصمة العار التي ألحقها ذلك الفعل القبيح بالإنسانية . يسهب الراوي في وصف معاينة مهينة للبضاعة لاتستثنى شيئاً من جسد الضحية الذي بات مملوكاً لأجنبي شاذ جنسياً يريد آلة تشبع شهوته المريضة. ويرسف بخيت في هذا الوضع خمسة أعوام ، ثم ينتقل سعيداً ليصبح عبداً منزلياً عند مالك جديد، وحين تهب عاصفة ثورة المهدي يصبح بخيت حراً ويلتحق بجيش المجاهدين فيقع في الأسر في مصر بعد هزيمة الجيش ليعود إلى العبودية.ثم يعود إلى بلاده حراً بمنحة من سيده المصري. ويعمل أعمالاً حرة عديدة من بينها العمل حفاراً للقبور. ويلتقي بالراهبة الأسيرة( ثيودورا) المصرية من أصل يوناني ،فيتعلق بها ويعشقها عشقاً من جانب واحد، ليلج عبودية من نوع جديد متعلقاً بوهم مستحيل، يقوده الوهم إلى سجن الساير في قلب أمدرمان بتهمة شرب الخمر والتجول في الشوارع بعد سماعه خبر مقتل الراهبة على يد من أغروها بمحاولة الفرار من الأسر ثم سلموها للقتلة، داخل سجنه يحصي الأيام للخروج والاقتصاص من القتلة، ويحصل بخيت على حريته هذه المرة بفعل الجيوش الأجنبية التي غزت البلاد وأعادت استعمارها، 
((أتتهم الحرية على بوارج الغزاة وخيولهم، مع دخول الجيش المصري للبلاد)الرواية.

لكن الغزاة لم يحرروهم في الحقيقة لأن تحريرهم ليس من بين اهتماماتهم(دخل المصريون أمدرمان، وجاء إلى السجن جماعة من النصارى والمصريين، أطلقوا سراح بعض من يعرفون من أكابر الناس ، تركوهم)ص 11. 
بعد خروجه من السحن ينفذ (بخيت) انتقامه ويقع أخيراً في قبضة مطارديه بعد قتل خمسة من ستة كانوا على لائحته الانتقامية. يبدو( بخيت منديل) شخصاً مسحوراً منجذباً خلف وهم من صنعه يريد الاستعاضة به عن حياة حقيقية لم تمنحه سوى العبودية والاضطهاد والغيبوبة الدائمة)فقد كان يعاقر الخمر بصورة دائمة(، ويبدو العاشق صوفياً في حلقة ذكر ، ويذكرنا وصفه بالدرويش برائعة الفيتوري: 
(في حضرة من أهوى عبثت بي الأشواق 

حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق 
وزحمت براياتي وطبولي الآفاق 
عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق 
مملوكك لكني سلطان العشاق) 
شخصيةمريسيلة:شخصية مرسومة بدقة شديدة في الرواية وهي تحب بخيت حباً صادقاً ، لكنه مشغول عنها بحبه المستحيل الوهمي للراهبة التي لاتحبه.مريسيلة كانت إيجابية وقادرة على الفعل أكثر من (ثيودورا) التي تمثل (الوهم).(مريسيلة) و(ثيودورا ) مثلتا ثنائية الواقع والوهم في الرواية.لذلك تنتمي ثيودورا إلى أرض الأساطير ( بلاد اليونان).بينما نجد مريسيلة متجذرة في الواقع،فهي أمة سوداء شابة و بائعة خمر (المريسة) وهي نوع من الخمور البلدية في السودان، وهي قارئة الودع ومدبرة صفقات الهوى وخاطبة الحلال والحرام، ومعينة الهاربين و تاجرة العقود والسلاسل والوصفات السحرية للحب، وهي منقذة سبع نساء من مشنقة السوق، وهي التي أذلت حامل راية أحد الأمراء أمام المسجد على مرأى من خليفة المهدي. وهي التي مكنت بخيت من الانتقام من خمسة ممن قتلوا ثيودورا فقد وفرت له السلاح والمعلومات. 
شخصيةيونس عسكري الجهادية: غريم متوهم لبخيت منديل استغلت الراهبة ثيودورا مشاعره نحوها وطمعه في المال وصلتها القديمة به حيث كان حارساً لقافلة جلبتها من سواكن إلى بربر،وذلك لاستخدامه في الهروب من الأسر، لكن بخيت كان يظنها وقعت في غرامه ولم يفهم سبب توددها إلى يونس. يونس واقعي قال عن سبب دخوله السجن)جاء بي الطمع.( في إشارة إلى) محاولة تهريب الراهبة(.وهو مرسوم بعناية ومغروس في الرواية منذ الصفحات الأولى حيث رافق البطلة ثيودورا في رحلة القدوم من سواكن إلى بربر، ثم رافقها في رحلتها الأخيرة نحو السماء. 
شخصية الشيخ إبراهيم ود الشواك: 
شخصية انتهازية تلبس لكل حالة لبوسها ودينها هو الربح واللعب على كل الحبال خدمة لمصالحه؛ فقد غازل المستعمر وخدمه وغازل ثوار المهدية ثم تخلى عنهم، وغازل المستعمر عند سقوط المهدية . هذه الجملة الصادرة عنه تلخص شخصيته وتفكيره بدقة)لو كان لزاماً علينا أن نلبس طربوش النصارى ونغير لون جلودنا فلنفعل.المهدية راحت يا ولدي. هذا أمر الله(.ص 55. انتهى الشيخ قتيلاً على يد بخيت منديل انتقاماً لمقتل حواء )ثيودورا( التي اتخذها الشيخ محظية عندما وقعت في أسر الخليفة وحاول اغتصابها في بيته وحين صدته أخضعها لعملية ختان قسرية ، ثم شارك في قتلها حين حاولت الهرب من الأسر.وعلم بخيت بمقتلها مصادفة من سكران في بيت خمرة ثرثر بتفاصيل الجريمة ليدرك بخيت أنهم استغفلوه وجعلوه يحفر قبرها بيده جاهلاً من تكون،.تحول العبد إلى اداة قتل لامشاعر لها،فقد كان مؤمناً بمشروعية ما يفعل إيماناً مريضاً) أنا لست هارباً.أنا الموت.مني يفر الناس( ص97.يقول عن نفسه بعد جريمته الأخيرة: 
(ما فعله كان وحشياً حتى هو ما كان ليتحمل ما فعل لو لم يكن في سبيلها.حين كان يرى الإعدام في مشنقة السوق كان يرجع كأرنب صغير. يهرب من وحشية العالم إلى دفء حضورها.) ص 94. لقد خرج من عبودية السجن والسادة إلى عبودية المحبوبة!!حين ظن أنه حقق ذاته ، كانت الحقيقة أنه دخل اغتراباً جديداً وفتح زنزانة في داخله. 

هل يبصر الأعمى؟! ((شوق الدرويش) و 
التناص مع رواية (العطر الفرنسي )لأمير تاج السر 
تبدو شخصية بخيت منديل وتعلقه بثيودورا تجسيداً متجدداً لعلاقة الشرق والغرب، فهي علاقة مريضة عامرة بالأوهام المتبادلة ، وهى التجسيد الحي لعلاقة الشرق بالغرب التي عالجتها رواية موسم الهجرة للطيب صالح عبر تجسيد (مصطفى سعيد)في علاقاته النسائية التي فضحت كون الصراع هو خلفية العلاقة .
فحين خاطبه القاضي الإنكليزي متهماً إياه بأن في تكوينه الروحي بقعة مظلمة، كان ذلك امتداداً لعصور من الاستعلاء والتعصب والنظرة الاستعلائية الأوربية للآخرين.وتكرر الأمر نفسه،حين حاكمت (ثيودورا ) (بخيت منديل) بذات الاستعلاء في الرواية في أكثرمن موقع:تقول (ثيودورا) لبخيت منديل في الرواية بيأس مطلق وهي تحاول إفاقته من وهم حبه لها وحلمه بها: 
(أنت لاتفهم .أنت أعمى) 

في ذلك تصوير دقيق لحالة (بخيت منديل) العاجز عن رؤية الحواجز الواقعية القائمة بينهما، فهو عاجز عن رؤية حاجز الدين وحاجز اللون وحاجز الثقافة وحاجز الكراهية بين السجان والسجين،وهو عاجز حتى عن فهم الحقيقة المرة لما تقوله له بلطف( مستحيل أن يحب مثلي مثلك.)فهي في أعماقها كما يتضح من رسائلها إلى أهلها عنصرية تبغض السود ولاترى فيهم سوى برابرة وخراف سوداء للرب، ولا تتصور مطلقاً علاقة زواج تربطها به، فتقول(هي رسولة الرب في بلاد الغنم.هل تعشق القديسة الغنم؟)وتقول لنفسها(لاتريد أطفالا سوداً يؤمنون بدرويش ميت يحلمون بغزو العالم، لن يكون زوجها عبداً أسودَ)ص 418 الرواية. لكن العمى لم يفارق (بخيت منديل ( (عمى البصيرة( ، فأنفق عمره في مطاردة الوهم، وحين تبدد الوهم بموتها تحول إلى أداة للقتل ومدمن لطيف كذوب هو تجسيد لسيطرة الوهم عليه . وفي ذلك تصوير بديع لحالة التطرف الذي يعمي بصيرة وبصر من يقع في حبائله وتجسيد للإدمان المرضي، يبدو )بخيت منديل( في مطاردته للوهم مشابهاً لشخصية )علي جرجار( في رواية )العطر الفرنسي( للروائي السوداني )أمير تاج السر( المكتوبة في العام2010.فكلاهما وطني مغلوب على أمره تعلق بوهم خارجي هو امرأة أجنبية مع فارق بسيط هو أن الممرضة الفرنسية كاتيا في (العطر الفرنسي) كانت وهماً ليس له وجود مادي خارج مخيلة (علي جرجار) ، بينما كانت الراهبة )ثيودورا( حبيبة بخيت منديل المتوهمة في )شوق الدرويش( امرأة من لحم ودم، ولها وجود موضوعي خارج مخيلة بخيت وحبها هو الوهم. وانتهى البطلان إلى ارتكاب جريمة القتل نتيجة لسيطرة الوهم عليهما.وموضوع الروايتين واحد هو التعصب وأثره.مع العلم أن منهجية كتابة (شوق الدرويش) مماثلة لمنهجية كتابة (أمير تاج السر) في رواياته: (مهر الصياح)و(توترات القبطي) و (أرض السودان الحلو والمر)التي تعاطت التاريخ كمادة خام للرواية وأعملت الخيال فيه تحويراً وصناعة لرواية معاصرة ليست محاضرة في التاريخ وليست سيرة .لذلك لايمكن تسمية الروايات المذكورة بالروايات التاريخية، فتلك تسمية غير دقيقة، والصحيح أنها روايات من صنع خيال فسيح.فالرواية تبقى رواية بغض النظر عن موضوعها وزمن جريان أحداثها. عندما نشير إلى التناص هنا بوصفه مصطلحاً يستعمل للدلالة على (الحضور الفعلي لنص في آخر) فحسب النظرية كل نص هو بشكل و بآخر امتصاص وتحويل لنصوص أخرى، والرواية عامرة بصور متعددة للتناص. استحقت الرواية في تقديري فوزها بجائزة نجيب محفوظ للرواية في عام 2014، وتستحق المنافسة على لمركز الأول لجائزة البوكر العربية 2015 في مايو القادم.فالرواية عمل فني كبير بذل فيه كاتبه عصارة فكره وجهده ، وتسلح بمراجع شكلت مادته الخام التي سكب فيها قدراته وخبراته ، فخرجت الرواية إلى النور ترفل في ثوب قشيب وهي جديرة بالاطلاع عليها والبحث في بحورها. وقد انطوت معظم الانتقادات التي وجهت للرواية على خلط واضح بين كتابة الرواية وكتابة التاريخ، وحوكمت الرواية من خارج النص الروائي في خلط بين قول الشخصيات وقول المؤرخين والتاريخ . الرواية يجب النظر إليها في إطار النص الروائي .***إن الإضافة في الرواية التي تتكئ على التاريخ هي التي تجعل مايروى رواية وليس تاريخاً،ذلك أن جهد المبدع الأساسي يبرزه المتخيل الروائي، وتبرز قدراته الخلاقة وتتجلى في ما يفعله بالنص التاريخي فيحيله من برودة لمتاحف وسكونها، ومن جمود صفحات التاريخ والسيرة وزوايا رؤيته الضيقة إلى رحاب الفضاء السردي والإبداعي الفسيح. إن الرواية هي فعل إحياء لاحدود له ولاكوابح،إن التحوير يفرز حرية الإبداع ويطلق لخيال كاتب النص وقارئه العنان، ويجعل الكتابة إبداعاً لا تسجيلاً وتدويناً وجمعاً للأحداث مثل التحقيقات الصحفية، ويجعل القراءة لذة ومتعة، وخيالاً فسيحاً واكتشافاً دائماً، وليست قراءة كسولة يغذيها الفضول مثل قراءة صفحات الحوادث.لذلك فإن مجرد الاجتهاد لإثبات أن الرواية حورت التاريخ أو زيفته هو فعل معاد للإبداع مهما حسنت النوايا، وهو معركة في غير معترك.ذلك أن محاكمة الرواية تكون من داخلها ووفقاً لشروط إنتاجها وتقنيات كتابتها. 
الخرطوم/4 ابريل 2015 
الهوامش: 
**الكاتب/ (حمور زيادة) ولد بأمدرمان في عام 1977. درس تقنية المعلومات وعلوم الحاسب الآلي وتخرج في عام 2002. عمل باحثاً في مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني، ثم عمل بالصحافة السودانية في صحف أجراس الحرية والمستقلة والجريدة واليوم التالي . ثم انتقل إلى القاهرة في 2009. صدرت له مجموعة قصصية 2008 ( سيرة أمدرمانية) ثم رواية ( الكونج 2010. (ومجموعة قصصية) النوم أسفل الجبل(. ثم رواية شوق الدرويش في 2014 التي فازت بجائزة نجيب محفوظ للرواية في العام نفسه، ثم دخلت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية ضمن ستة أعمال مرشحة للفوز بالبوكر العربية عام 2015 في العاصمة أبوظبي في مطلع مايو المقبل. 

***الينابيع السحرية ومسرات الخيال/دراسة للكاتب ص156. 

المراجع: 
1/شوق الدرويش/ حمور زيادة/ دار العين/ 2014. 

2/شعرية التناص في الرواية العربية/د.سليمة عذراوي/ دار رؤية القاهرة2012. 

3/ العطر الفرنسي/ رواية /أمير تاج السر.الدار العربية للعلوم 2010. 

4/ سعيد يقطين/ انفتاح النص الروائي/ المركز الثقافي العربي 2001. 

5/ (الينابيع السحرية ومسرات الخيال) قراءة في أعمال أمير تاج السر/ صلاح الدين سرالختم علي/ منشورات ضفاف/بيروت/ منشورات الاختلاف/ الجزائر / دارالأمان/ الرباط.

Tuesday, March 31, 2015

بنية النص القصير جدا وحوار المتضادات والمتقابلات في قصة حسن برطال أو شفرة برطال السرية...محاولة للفهم والتاويل

نص تحت مجهر النقد
بقلم /صلاح الدين سر الختم على
النص:
حوار مفتوح
قبل خروجه ذكرَتْه ب ( جوارحه ) الميتة ، فعاد من السوق ب ( صقور ) صيد حية../
حسن برطال
التحليل: نصوص حسن برطال عبارة عن معمار فنى دقيق محكم البنية وموزون بميزان الذهب،الدهشة حاضرة وشاهقة دهشة في نصوص حسن برطال الشاهقة المنحوتة بدقة مايكل انجلو والمرسومة بريشة بيكاسو والمكتوبة بايجاز واختزال تشيخوف ، تمسي قراءة النص متعة ومسرة حقيقية دوما، فما بين خروجه حاملا سيف بغيه وعودته منتصرا حاملا غنائمه تقف الدهشة فاغرة الفاه باحثة عن مغزى مخبوء بين السطور ومخالب الصقور الميتة الحية.
بتفكيك النص نلاحظ ان بنية النص قائمة على اختيارات واعية ودقيقة لكل جملة وكلمة وحرف ، وتعتمد الحوارية في النص وحركته على حوار داخلي بين متضادات مغروسة في فضاء النص بإتقان شديد ،فى الاستهلال ترد كلمة (قبل) وتقابلها في خاتمة النص كلمة(فعاد)، نحن هنا امام زمانين مختلفين( قبل الخروج) و( بعد العودة) قبلُ: نقيض بعدُ. ، التضاد هنا قائم بين زمانين ، لكل زمن ملامحه ووقائعه ووعي مختلف به، فالذى خرج ليس هو من عاد، لهذا السبب اختلف فعله الذى يعكس التغير أو التغيير الذى حدث في وعيه.
ثم يستخدم الكاتب اسلوب المقابلة : (ذكرَتْه ب)، (فعاد ب) للمقابلة بين حالين لتجسيد فعل ورد فعل مضاد، ويستخدم المتضادات مرة أخرى ليجسد الفارق بين (المأمول) (المطلوب) وبين (ما تحقق فعلا)ليرسم بذلك الهوة الواسعة بين البطل واالبطلة، فهى ذكرته ب(جوارحه الميتة)
وتبدو الإشارة الى (الجوارح الميتة)هنا إشارة الى البرود الجنسي للرجل،وهو برود عانت منه الانثى المغيبة هنا والمشار اليها بضمير الغائبة في (ذكرته) وهنا يتم استخدام ضمير الغائبة للإشارة الى تغييبها كأنثى نتيجة لبروده الجنسي،كان رد فعله هو الخروج للسوق للبحث عن حل ل (جوارحه الميتة) فعاد من تسوقه ب( صقور صيد حية) والمغزى هنا انه ادرك عجزه التام عن إشباعها فاكتفى بدور القواد وعاد لها برجال قادرين على اشباعها.الدلالة هنا هى انسداد الافق لعلاقة بلغت نفقا مظلماً.فضلا عن ذلك هناك تلاعب لفظى مقصود ومخبوء في كلمة (جوارح)فهى تحتمل معان متعددة، وجَوارِحُ الإِنسان: أَعضاؤُه وعَوامِلُ جسده كيديه ورجليه، واحدتها جارحة. لأَنهن يَجْرَحْن الخير والشر أَي يكسبنه. والجوارح من الطير والسباع والكلاب: ذواتُ الصيد لأَنها تَجْرَحُ لأَهلها أَي تَكْسِبُ لهم، الواحدة جارحة؛ فالبازي جارحة،والكلب الضاري جارحة؛ فهى كانت تقصد قدراته الشخصية ، لكنه فهم ان المطلوب اشباعها بوسطة غيره. التلاعب اللفظى هنا صنع مفارقة النص وسخريته الجارحة.
جملة (من السوق) التى قد تبدو زائدة هى مقصودة في الحقيقة، فهى احتجت على غرائزه الميتة طالبة منه فعلاً شخصيا، فاشترى لها رجالا قادرين على فعل عجز عنه هو، فازداد عجزا،كونه ظن إنها اشياء تشترى، النص عند (برطال) عزف منفرد على سلالم التضاد والمقابلة للايحاء بمغزى بعيد مخبوء ببراعة بين سطور السرد وحروفه بعناية شديدة.ما يدعو للدهشة ليس هذه القدرة الفريدة على البناء المحكم وحدها، بل ما يدعو للدهشة هو ان النص يبقي برغم الصنعة المحكمة عفويا طازجا مثل رغيف الفقراء دون التأثر بذلك النسج المحكم الدقيق.
31 مارس 2015

Saturday, October 11, 2014

نص تحت مجهر النقد (دقيقة حُب) للكاتب / بسام الأشرم


نص يجسد(قصة المشهد) في أروع تجلياتها
أبدع الكاتب في تصوير التقاء عالمين في لحظة عابرة فكل منهما عابر في حياة الآخر!!
في قصته (دقيقة حب) يقدم القاص بسام الأشرم لوحة نابضة بالحياة ،لوحة مكتوبة بعناية كقصة قصيرة على قالب نوع من القصة تعرف بقصة المشهد أو الاسكيتش ازدهرت في منتصف القرن الماضى في بريطانيا و الولايات المتحدة الأمريكية ومن ثم عرفت طريقها للعالم العربي فيما بعد،وتقوم قصة المشهد على تقديم القصة في شكل مشهد مقتطع بعناية يجسد لحظة بالغة التعقيد في حياة انسان أو جانبا من حياة شخص أو مجموعة زلايكون في القصة بداية وذروة وعقدة وحل كما هو الحال في القصة التقليدية، بل تعتمد قصة المشهد على الايحاء بالمغزى عبر المشهد أو المشاهد المقدمة مجتمعة. قصة المشهد او الاسكيتش وهي نوع من القصة يعتمد علي الايحاء بالمعني عبر اقتطاع لحظة او مشهد من الحياة عامة او حياة شخص او جماد او حيوان وتتميز قصة المشهد بالتحرر من القالب التقليدي للقصة أي الذروة والعقدة ولحظة التنوير ويحل المشهد مكان ذلك القالب،والفكرة ان المغزي يكمن في المشهد كله.وهذا النوع من القصة انتشر في امريكا وانجلترا في نهاية الخمسينات ومن أبرز كتابه كاثرين مانسيفلد* وعندنا في السودان من كتابه الطيب زروق وعبدالله علي ابراهيم واحمد الامين البشير والزبير على.
في قصة (دقيقة حب) ثلاث مشاهد مختارة بعناية ، المشهد الأول يقدم فيه القاص بطل القصة وهو صبى فقير يعمل بائعا متجولا برغم انه طالب مجد:
(و راح يقفز مسرعاً مُتنقلاً من سائق الى سائق مُحاولاً استغلال كل ثانية من زمن تَوَقُّف الشارة المرورية في ساعة شمسٍ عمودية ليومٍ تموزيّ مُلتهب و طبقة من غبار المكان و عوادِم السيارات قد كَسَت شعره الذهبي الناعم و عرقٌ غزيرٌ يصُبُّ من جبهته في عينيه صَبّاً ..
فتراه يحاول تجفيفهما بِكُمِّ قميصه البالي ، و قدميه الحافيتين تشتكي
حَر الأسفلت المتوهج و أصابعه الصغيرة تقبض على علبة بسكوت
من النوع الرديء علَّه يجد سائقاً يُلبي نداءه قبل أن تفتح الشارة المرورية ..
(( بسكوت .. ؟ تشتري بسكوت .. ؟ بسكوت بسكو ... )
هذا الوصف الدقيق للصبي هو في الحقيقة وصف للعالم الذى ينتمى اليه( عالم الفقر المدقع والحاجة التى تسحق من يرزح تحت نيرها سحقا لاهوادة فيه ولارحمة)، يبدع الكاتب في الوصف وتصوير شقاء الصبي، فاليوم يوم من أيام الصيف الملتهبة،ومع ذلك يركض الصبي حافيا على الأسفلت محاولاً مسابقة اشارة المرور لبيع شيء من بضاعته لأصحاب السيارات العابرة قبل تغير الاشارة وتحرك السيارات.والصبي وحيد يكابد أقداره وهو حافى الأقدام وعارى الرأس مما يقيه أشعة الشمس. وسباقه مع الإشارة هو رمز لسباق الإنسان في الحياة مع الأقدار.
المشهد الثانى:
من ثم ينقلنا القاص بذكاء مستخدما عين الصبي ككاميرا الى العالم (الآخر) الذى تمثله الصبية (جميلة))
(و فجأة توقف عن القفز و النداء ، و نسيت قدماه توهج الأسفلت و راح
يتأملها من خلف زجاج نافذة المقعد الخلفي لإحدى السيارات الفارهة
المتوقفة بإنتظار تَغَيُّر لون الشارة المرورية ، و راح يُحَدِّث نفسه مُحاولاً
بلع ريقه الذي جَفَّ إلى حَدِّ التَقَطُّع ..
( إنها في مثل عمري .. فأنا في الصف الخامس الإبتدائي و ربما هي
مثلي .. و لكنها ترتدي ثياباً جميلةً و أنا لا .. و هي جالسة على أريكةٍ
مُريحةٍ و جهاز تكييف يضُخُ عليها البردُ ضَخّاًو أنا أقفز على أسفلت متوهج
و من حولي نار الشمس تشويني شوياً و هي تشرب المثلج و ربما
ما هي بِعطشى و حلقي يكاد يتقطع ظمأً ، يا إلهي ..أنا الأول على
فصلي و لا أظنها مثلي ، و لكن .. و لكنها جميلة .. ربما أجمل مني ..)
و دون شعورٍ منه راح يقترب من زجاج نافذتها حتى تَوَقَّفَ بمحاذاتها
ناظراً إليها مُتأملاً لِتنتبه إليه .. تتوقف عن الشرب من زجاجتها المثلجة ..
تتأمله ..تُحَدِّث نفسها: ..
( مامي .. ! ما أجمل هذا الولد .. ! و لكن لماذا يقف تحت الشمس
المُحرقة ؟ و ما هذا القميص المُمَزَّق و ماذا يفعل بعلبة البسكوت
التي يُمسك بها ؟)
هنا يستخدم الكاتب تقنية المقابلة أو المقارنة بينن ( العالمين) عالمها وعالمه، فهى تجلس داخل سيارة مكيفة تقيها شر الحر وأشعة الشمس وليست مثله هائمة في العراء، وأقدامها لاتلامس الأسفلت حافية مثله،وهى ترتدى ثيابا جميلة وهو يلبس ملابس بالية رثة،وهو ظامئ وهى تشرب المثلجات، وثمة جدار بينهما، صحيح انه شفاف يسمح لكل منهما برؤية الآخر، لكنه جدار حقيقي بين عالمين، يصوره الكاتب عبر الإشارة الى زجاج السيارة وفتحها له ثم اغلاقها له تحت تأثير الأب الارستقراطي الذى شكا افساد الزجاج المفتوح لمتعة التكييف،ويستخدم الكاتب التساؤلات التى تلمع في ذهن الصبي والصبية كوسيلة لإبراز الهوة بين العالمين والفوارق بينهما . فحين تتساءل الصبية:(مامي .. ! ما أجمل هذا الولد .. ! و لكن لماذا يقف تحت الشمس المُحرقة ؟ و ما هذا القميص المُمَزَّق و ماذا يفعل بعلبة البسكوت التي يُمسك بها ؟)
تبدو كمن شاهد انسانا قادما لتوه من القمر، فهى لاتعرف العالم خارج زجاج سيارتها، ولاتعرف كيف يعيش مثل الصبى (جميل) اليتيم الذى لايتمتع مثلها بدفء العائلة، فوجودها في سيارة مع عائلتها ووجوده في العراء بلا عائل، هى مقابلة أخرى بين العالمين ، عالمان التقيا في حر الظهيرة لثوان معدودة عند إشارة مرور، ثم أختفى كل منهما عن نظر الآخر كالحلم بالنسبة للصبي ، وكالكابوس بالنسبة للصبية. هكذا كان اللقاء لقاء
( جميل وجميلة)،وكانت المسافة واسعة بين عالمها وعالمه،عالمها البلورى المحمى بالتكييف والزجاج،وعالمه تحت الشمس بلا حماية،
عالمها عالم الرفاهية والكماليات والترف والنظر للناس عبر الجدار،عالمه عالم الافتقار الى الضروريات والركض تحت الشمس وانتظار فرص ضيقة لكسب الرزق، فرص مهددة بإشارة المرور وعمرها القصير الذي لايسمح بإبرام صفقة تفتقر لمقومات النجاح فركاب السيارات الفارهة لن يشتروا بسكويت الفقراء ولو وقفت سيارتهم النهار بأكمله في الاشارة. هى سيارات عابرة بأناس عابرين لاتأبه لهم كثيرا، لاتعطيهم سوى أسوأ ماعندها( دخان عوادمها) فقط. لذلك فان اللقاء يكون مستحيلا ويكون عبر الحواجز والأسلاك الشائكة والجدر الفاصلة كما صوره الكاتب في المشهد الختامى الذى يحكم فيه على امكانية التواصل بين العالمين بالإعدام:
(و دون شعورٍ منها راحت تُنزِل زجاج نافذتها ليتقابل وجهاهُما ..
يكادان يتلامسان ، تسأله ..
( شو إسمك ؟ )
( جميل )
مامي .. ! و أنا جميلة ..بأي صف أنت ؟ )
( خامس )
( ياي .. ! و أنا خامس مثلك .. مِش عطشان و إنته تحت الشمس ؟ )
( عطشان )
تَمُد إليه زجاجتها المثلجة
( إشرب )
( لا .. شكراً )
( إنته ليش ماسِك البسكوت و واقِف هان ؟ )
( عشان فِشي عِندنا خبز و طبيخ )
( آه .. قصدك يعني بابا ما راح على السوبرماركت اليوم ؟ )
( أبوي مات من زمان )
( إرفعي الزجاج أضعتي التكييف يلا .. )
صاح بها والدها و عيناه تَرقُبان الشارة المرورية مُتَحَفِّزاً للإنطلاق ..
فَتُسارِع بِرفع الزجاج حتى تغلقه و تضغط جبهتها و أرنبة أنفها و شفتاها
على الزجاج الحائل بينها و بينه لِيدنو رويداً رويداً بِجبهته و أرنبة أنفه
و شفتاه حتى ألصقهما بالزجاج الذي تحوَّل لِفاصِل شفاف بين الجِباه و الشِفاه و يسيل اللعاب على الزجاج من شفتيها و في شفتيه ما مِن لُعاب
..
و تغمُره السيارة فجأةً بِغيمةٍ من عادمها الأسود مُنطلقة كالسهم إلى عالمها ، لِيبقى مكانه تحت الشمس يتأملها و هي تَتَوارى وسط الزحام) .
هذه الدقيقة في الحقيقة ليست دقيقة حب، بل هى دقيقة إثبات ذات، فهو قال لها عبر هذه الدقيقة ان عالمها البلورى عالم زائف لا يمكنه أن يلغى وجود عالمه الحقيقي بكل جراحه وندوبه ومعاناته، وهى قالت له عبر هذه الدقيقة أن ثمة عالم آخر موجود خارج الدائرة الشريرة الى يرزح فيها، عالم شفاف محروس بالإشارات الفاصلة بين العالمين ( عالم الحفاة الراجلين وعالم الأثرياء المتخمين الراكبين على رقاب البشر)، عالم محمى بالفواصل والجدران والزجاج، عالم لايتنازل أصحابه عن رفاهيتهم لثانية واحدة لصالح ضحايا العالم الآخر( والدها لم يطق فتحها للزجاج ثوان معدودة لأن الانفتاح على من هم تحت الشمس أفسد عليه متعة التكييف)!! فإن كانت هى لاتزال بمقدورها رؤية جميل ولو عبر الزجاج فإن والدها لايري فيه سوى ذبابة تطن في أذن فيل ولفحة حر تفسد عليه متعة التكييف.
هكذا يحكم بسام الأشرم رسم لوحته البديعة ويبوح من غير بوح، مكتفيا بعرض المشهد من الخارج ومن داخل أغوار النفس البشرية لبطليه( الطفل والطفلة) اللذان يبدوان أسيرين لواقع ليسا مسؤلين عنه، فهو مسجون في العراء وهى مسجونة في قفص من ذهب منهوب من عالمه الذى يرزح تحت الشمس والفقر والبؤس.عبر المشاهد الثلاثة يدعو الكاتب القارئ للتعرف على مايجري تحت سمعه وبصره كل يوم دون التوقف عند مغزاه، إنها دعوة الى فضح القبح في عالمنا المعاصر عبر دقيقة واحدة هى نصيب (جميل وجميلة) اللذان يرمزا للمسقبل من الجمال في عالم يمشي القبح فيه على قدمين. القصة ذكرتنى بقصة رائعة للقاص السودانى الرائد( الزبير علي) اسمها( البرميل) نشرت في الستينات في مجلة القصة السودانية تنتمى لقالب القصة المشهد تحكى لحظات في حياة أطفال مشردين في قلب العاصمة الخرطوم يتشاجرون حول محتويات برميل قمامة بجوار معرض أنيق في شارع فخم بالخرطوم، المقارنة بين العالمين نفسها موجودة، وهذا التناص يشير بجلاء الى أن هموم المثقفين والكتاب واحدة مهما اختلفت البلدان والأزمان.القصة تعكس اهتماما أصيلا لدى الكاتب بأحوال الناس من حوله وغوصه عميقا في إشكاليات عصره وهمومه وما يميزه هو هذه البساطة العبقريةفي تصوير الواقع في صور صغيرة مكثفة غنية بالدلالات.
يبقي من المهم القول بأهمية الصورة في السرد الحديث الى الحد الذى دفع فيلسوفا معاصرا للقول:** (فالصورة الشعرية، حين تبدو كائنًا جديدًا من كائنات اللغة، فإنها لا تقارَن، وذلك باتباع طريقة الاستعارة الشائعة، مع صمام ينفتح ليطلق غرائز مكتومة. فالصورة الشعرية تضيء بنورها الوعيَ. وإنه لمن العبث أن تبحث لها عن سابق في اللاوعي. )
صلاح الدين سر الختم علي
الخرطوم
الحادى عشر من اكتوبر 2014
المراجع:
1/(قصة دقيقة حب) للكاتب بسام الأشرم/ منشورة بمجموعة نون وقاف الالكترونية.
2/ بحث لكاتب السطور عن القصة القصيرة بالسودان نشر بصحيفة الصحافة السودانية.
3/ قصة (البرميل) للكاتب السودانى/ الزبير على/ منشورة بمجموعة النازحان والشتاء القصصيةوبمجلة القصة السودانية 1960 .
* كاترين مانسفيلد(1888 ـ 1923م). كاتبة بريطانية. تُشبَّه بالكاتب الروسي أنطون تشيخوف في تملكها لناصية الكتابة في مجال القصص القصيرة. وتعد معظم كتاباتها دراسات عن الطفولة مستقاة من تجاربها الشخصية في سنواتها الأولى، عندما كانت في ولنجتون بنيوزيلندا. وقد اتخذت من نفسها ومن شخصية أخيها نماذج، أو رموزًا لشخصيات قصصها.
نشر لكاترين قصص بعناوين: في بنسيون ألماني (1911م)؛ استهلال (1918م)؛ السعادة (1920م)؛ حفل الحديقة (1927م)؛ المجلة (1927م). وهذه القصص تقدم صورة عن أفكارها وتطور كتاباتها.
وُلِدَت كاترين مانسفيلد باسم كاثلين مانسفيلد بوشامب بولنجتون في نيوزيلندا، وبدأت نشاطها الأدبي بعد انتقالها إلى بريطانيا عام 1908م. وقد عانت من داء الدرن وقضت معظم وقتها بين المستشفيات والمصحات.
**غاستون باشلار. (شعرية حلم اليقظة )- يعتبر «غاستون باشلار» اهم فيلسوف في القرن 20 ذلك بأبحاثه الابستملوجية التي أسست خطاباً جديداً تم بمقتضاه القطع مع التصورات السابقة. سواء في تاريخ العلم أو في تكوين المعرفة العلمية وفتح من خلال نحته لمفاهيم إجرائية جديدة أبواباً متسعة لمفكرين آخرين في مجالات علمية متعددة. ولأن هذا الزخم المعرفي والمفاهيمي الذي حوطنا به وارتبط اسمه في أكثر الجامعات بريقاً هو المجال الابستملوجي الذي كان احد اقطابه الأساسيين.