الأبحار فى نصوص الكاتب احمد مجذوب الشريفى مغامرة غير مأمونة العواقب، فنصوصه لاتخلو من أبعاد فلسفية وفكرية تجعل مقاربتها مخاطرة ، ونصوصه نصوص محكمة فنيا بسبب الخلفية النقدية لكاتبها، ونصوصه في معظمها مكتوبة فى قالب القصة القصيرة جدا،ومع ذلك نلحظ فى بعضها ميلا واضحا للاستطراد وكتابة القصة المشهدية ( قصة الإسكيتش) وهى قصة ذات طابع تآملى بحت، لاتتقيد كثيرا بقواعد القص القصير جداً،ويمكن القول بان تجربة الكتابة القصصية عند الشريفى لازالت فى طور التشكل، فهو لم يستقر على قالب بعينه وجنس أدبى معين، ولانزال نلامس فى نصوصه القصيرة جدا نفسا قصصيا أطول، وحينا نفسا روائيا ملحميا ملجما بواسطة الكاتب نفسه حتى يتوافق النص مع القالب الذى اختاره الكاتب،لكن المؤكد ان الشاعرية وهى عيب كبير فى كتابة القصة القصيرة والقصيرةجدا، لاتوجد فى نصوص الشريفي على الرغم من قوة اللغة عنده وثراء المفردة، فلغة الشريفي لغة صارمة ومنضبطة وملجمة بواسطة الكاتب. وهذه من سمات القاص المميز. نتناول هنا بعض نصوصه بالدراسة والتحليل لتوضيح ماسبق.
مدخل : تعريفات مهمة
تعريف القصة القصيرة:
لفظ قصة story جاء من الأصل historis الذى يعنى التاريخ history والذى يشير الى العمليات الخاصة بسرد قصة أو حكاية أو مجموعة أخبار وكذلك طريقة سردها ويشير كذلك الى سلسلة من الوقائع. ويمكن ان تكون القصة قصة حتى عندما لاتستخدم الكلمات ، كما فى القصة التى ترسم فى فن التصوير الزيتى دون كلمات، وكما فى التمثيل الصامت(البانتوميم) أو السينما الصامتة. هذا عن القصة بشكل عام. أما القصة القصيرة فهى نوع من النثر الفنى القصصى أو الحكائي الذى يقرأ بشكل مناسب فى جلسة واحدة، ومن حيث الطول فان هذا النوع الأدبى يقع بين القصة القصيرة جدا التى لايقل عدد كلماتها عن 2000 كلمة وبين القصة القصيرة الطويلة التى قد يصل عدد كلماتها الى 15 الف كلمة. تجدر الاشارة الى ان هذا التعريف تم هجره ولم يعد عدد الكلمات له أثر على تصنيف القصة وان كان لايزال معيار الطول والقصر الشديد قائما بشكل ما. القصة القصيرة اذا فن سردى حكائي يخبرنا بقصة، فى هذه النقطة هناك اتفاق عام، أما الاختلاف فيحدث فيما يتعلق بما تتكون منه هذه القصة. فى السنوات المبكرة من تاريخ القصة القصيرة، كانت القصة تتمثل فى سلسلة من الأحداث والوقائع التى تتكون من بداية ووسط ونهاية وكان التركيز على الحبكة والتحليل المتعمق للشخصية.فى القرن التاسع عشر مع ظهور كتاب عظماء مثل موباسان وتشيخوف بدأ الاهتمام بالحبكة يقل ويتراجع ويخلى طريقا للإهتمام بالشخصية على حساب الحدث. القصة القصيرة عمل فنى نثرى يتميز بالبساطة والتكثيف ويتخير لحظة من لحظات الإنسان فيعمقها، أو زاوية من زوايا حياته فيركز عليها ويكشفها فى شكل فنى يتميز بالتلميح والمواربة لا الإعلان أوالتصريح. يقول جان مارى جويو( إن مايقوله الفن العظيم يستمد قيمته مما لايقوله، مما يوحى به...الفن العظيم هو الذى يدرك روح الأشياء. هو الذى يدرك ما يربط الفرد بالكل، وما يربط كل جزء من اللحظة بالديمومة الأبدية.)
الفرق بين كتابة القصة القصيرة والرواية ليس فرقا فى الطول فحسب، ففى حين يتعامل الروائي مع أركان عالم متكامل قابل للإمتداد والإستطراد والتفصيل وقابل للتطوير فى كل مكوناته من الأحداث والشخصيات وغيرها، فان كاتب القصة القصيرة يتعامل مع لحظة أو فكرة أو انطباع أو احساس أو انفعال أو موقف أو زاوية من زوايا الحياة، لمحة من لمحاتها، ومضة من ومضاتها، مع لحظة فى حياة الإنسان أو ساعته فى مقابل عمر الإنسان أو حياته التى يتعامل معها الروائي. ان القصة القصيرة عمل شاق ومجهد ويحتاج خبرات عديدة ومهارات وقدرات وعمليات ابداعية، بدءا من مراقبة الواقع ورصد سكناته وحركاته واستيعابها وتمثلها ومعالجتها داخليا( داخل الذات المبدعة) ومحاولة تنظيمها وادراك مابها من وهن وخلل وقصور، واختيار الصالح منها للعمل الفنى، ومن ثم ضبط الزاوية التى سيتم التقاط مادة العمل وافكاره من خلالها، ثم تخيل مايجب ان يكون عليه العمل الفنى ومحاولة اختيار الشكل الفنى المناسب، الفن هو تشكيل كما يقول ارنست فيشر، هو اعطاء الاشياء شكلا، والشكل وحده هو الذى يجعل من الانتاج عملا فنيا، وما نسميه شكلا انما هو تجميع للمادة بصورة معينة، ترتيب معين لها،حالة نسبية من حالات استقرارها،والمضمون يتغير بلا انقطاع. وخلال عمليات الخيال يقوم الكاتب بعمل شديد التعقيد والدقة، فهو يحلل ويختار ماهو جوهرى وله معنى، وماهو مثير للاهتمام، ان عملية الكتابة تتضمن تحليلا خاصا لظاهرة ما ثم القيام بتركيبها بعد ذلك، فالخيال وسيلة داخلية جيدة لتمثيل المشكلة ومحاولة البحث عن حل لها، لذلك فهو وسيلة مهمة فى كل الفنون.
ويمكن القول باختصار ان أهم شروط القصة القصيرة جدا هو ضرورة توافر الشروط المطلوبة فى القصة القصيرة فيها وهى كونها شكل فنى نثرى حكائي يعتمد التلميح لا التصريح وهذا يقتضى ضرورة وجود التكثيف والإضمار والمفارقة. والنص القصير جدا واضح دون حاجة لتعداد كلماته. ويميزه تكثيفه الشديد عن القصة القصيرة التى تحتمل بعض الإسهاب الذى لايحتمله القص القصير جدا.
قراءة تطبيقية فى نصوص احمد الشريفى:
• شخصية متمردة:
قصير القامة نحيل الجسد ، نال الشتم و انتقادا لتربية والديه ، طرد خارج المسجد لإكثاره من إثارة اللغط أثناء الصلاة ،...، كثر عليه التعنيف والتوبيخ والتضييق بالمدرسة ... ، و كذا بالجامعة ...، ثم .. ، معارضا للمعارضة و مُتَفَلِّتَاً من قبضات السلطة ، أجمعوا عليه رئيساً توافقيا لإخراج البلاد من أزمتها السياسية.
القراءة:
العنوان فيه اشكالية التصريح بكامل مغزى القصة(نال الشتم و انتقادا لتربية والديه ، طرد خارج المسجد لإكثاره من إثارة اللغط أثناء الصلاة ،...، كثر عليه التعنيف والتوبيخ والتضييق بالمدرسة ... ، و كذا بالجامعة ...، ثم .. ، معارضا للمعارضة و مُتَفَلِّتَاً من قبضات السلطة) العنوان شرح لكل ماتقدم بين القوسين، ومابين القوسين أصلا فيه تكرار، لكنه مقصود لضرورة فنية، وهى التأكيد على طابع الشخصية غير التوافقى، وذلك تمهيدا لجعل النهاية صادمة ، فالرجل بكل صفاته هذه يتم التوافق عليه ليخرج البلاد من أزمتها، وهنا تكمن المفارقة، فهو غير مؤهل لاداء الدور المنوط به، فاختياره يعنى ان المطلوب هو تعميق الأزمة وليس حلها، وذلك خلافا للظاهر. وهذه هى نقطة القوة فى النص. فقط يجب تغيير العنوان الى عنوان يلمح الى المغزى تلميحا، فالمغزى المخبوء هو أن الاجماع على اختيار البطل كان سببه هو الرغبة فى تعميق الأزمة وليس حلها. ثمة ملاحظات منهاان التكرار ليس ضروريا فجملة واحدة تكفى لايضاح انه ليس مؤهلا لما اختير له، عبارة ( قصير القامة ونحيل الجسد) لا اجد لهذه العبارة وظيفة فى النص فهى زائدة لان صفات الشخص الجسدية لاتؤثر على مهمته، بل تؤثر صفاته المعنوية.
________________________________________
• إقبال:
خمسينى يتخبطه الشيطان ، مترنحا بثيابه الرثة و رائحته النتنة ، بصوت عالٍ و بكَلاَمٍ فِجٍّ يغنى فجرا...، توقف ، صمت ، سكنت نفسه ، جلس ثم نهض ، جلس أخرى ، تأمل... ، غالبه البكاء فأجهش ثم جَعَرَ فاسترسل يجأر ، وعى فأقبل بعد أن سمع حى على الفلاح.
• تصوير جميل للحظة ضلال يلمع فى قلبها فجر هداية، الكاتب يتعمد تصوير لحظة الضلال بتفاصيل مؤثرة، الرجل الخمسينى يتخبط وهو فى حالة سكر بين، لكن حين يشق صوت المؤذن السكون مؤذنا لصلاة الفجر ، يشق نور الإيمان قلب الرجل فى اللحظة ذاتها، مع شروق الشمس يشرق نور فى قلب مظلم، هذا العزف الجميل على وتر الفجر صلاة والفجر خلاصا ، ظلمة الليل وظلمة الروح، ثم بزوغ الشمس فى الخارج وبزوغ شمس الهدى في قلب الرجل، هذا العزف على سلم الضلال وظلمته والهدى واشراقه هو عزف ماهر لكاتب حاذق متمكن من نصه.
________________________________________
• الصورة:
ظهرت فى سمائهم و لا أروع ، فجأة غشَّاها دخان كثيف ، انقشع ، ظهرت ليست كالأولى ، بعض الذين شاهدوها ، قالوا أنها كانت جميلة ، الذين لم يشاهدوها من قبل قالوا بل هذه أجمل، ثم علا الدخان ، مرة ...، انجلى مرات ، اختلفت قناعات الناس فرفعت مقامات و علقت مشانق.
• هو نص موغل فى الرمزية، كل قارئ سيقرؤه ويؤوله حسبما يتفق ورؤيته، وربما هذا هو بالضبط مغزاه، ان الناس ترى الأشياء ليس كما هي فى حقيقتها، بل من موقعها وموقفها وحسب تفسيرها، وكل يدفع ثمن رؤيته، فمنهم من يرتفع مقامه لان رؤيته وافقت رؤية وهوى الحاكم، وبعضهم تخسف به الأرض بسبب رؤيته غير المتفقة مع رؤية السلطة الزمنية، لهذا السبب فأن النص نفسه قابل لتأويلات كثيرة جدا، وهذه هي روعته.
________________________________________
• نقطة تحول:
عاش الحياة بكل موبقاتها ، اتُّهِمَ َبالقتل ، بُرِّئَ ، أحسن وضوءه لِيُخْرِجَ ماضيه من أطراف أصابعه.
• النص هنا يلخص قصة حياة انسان فى جمل خمس،فالرجل الذى عاش حياته بالطول والعرض وارتكب كل صنوف الموبقات، حتى انه وقف يوما متهما بقتل إنسان ، وحصل على براءة من التهمة، عاد وتاب وانفق ما تبقى من عمره فى الصلاة والعبادة لعله يغسل نفسه مما لحق بها من أدران، انه لا ييأس من رحمة الله. وتلك إشارة لها دلالتها. العنوان مثير للتساؤل أكثر من كونه إجابة، فهل نقطة التحول هى الاتهام بالقتل والبراءة؟! هل كان الاتهام باطلا؟ بمعنى هل كان ابتلاء؟! هل البراءة كانت مستحقة وبالتالى أيقظت فيه ضميره وإيمانه؟ الاسئلة ترن ، والنص يلمع على وقعها ويتوهج ويزداد ثراء.
________________________________________
• الصديق:
أصبح صديقه له كالقرين ، ما انفك والده يحذره منه إني لك من الناصحين ، َقَاسَمَهُ صاحبه أيضا إِنِّه له لَمِنَ النَّاصِحِينَ ، فَدَلاه بِغُرُورٍ ، فَلَمَّا ذَاقَ الشَّجَرَةَ تبين له شنيع فعله ، فعض على يديه قائلا : "وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا "
الفرقان ..(28)
• النص فيه تناص واضح مع القصص القرآني حتى على مستوى اللغة والمفردات، مع ذلك شعرت عند القراءة ان البناء القصصى فى النص ضعيف، لأن تركيز الكاتب على اللغة جعله يفلت الحبكة وينسى الإضمار، فجاء النص مباشرا وباح بكل أسراره علنا ، ولم يترك للقارئ ما يبحث عنه بين السطور.
________________________________________
• اضطراب و ارتجاف:
من خلال المذياع كان يستمع الى أغنيات من فنان مشهور ، تمايل معها طربا ، قرر أن يحتفظ بأغنية على شريط تسجيل ، بحث عن فارغ ، لم يجد ، يسابق الزمن ، بحث مرة أخرى ، قلب كل ما لديه ، فجأة تناول واحدا فحشره ، واصل رقصه مستمتعا ، إنتهت ، شغَّل ليستمع ، لم يدور ، أعاد ثانية ، أخرجه ، هاله ما رأى فوقع مغشيا عليه ، كل محتويات الشريط خرجت و التفت حول بعضها ، بخوف و اضطراب مرتجفا ظل يردد "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" *
* سورة الحجر الاية (9)
• النص مبنى على مفارقة رائعة،فالبطل كان مستمتعا بلحظته وبأغنية أعجبته، قرر تسجيلها على شريط، ، يبدو ان الشريط الذى اختاره ليسجل عليه كان محتويا على تسجيل للقرآن، فلم ينجح مسعاه فى التسجيل عليه،وحين اكتشف فعلته، انبعث من داخله صوت يردد آية كريمة بعينها، هى الاية الواردة بالنص، المفارقة انه أراد أن يسجل أغنية فلم يفلح وقد اعد للأمر عدته، وحين أراد محو كلام الله عن طريق الخطأ لم يفلح فى ذلك ، بل على العكس خرج القرآن من داخله. النص رائع وجميل وفيه معان جميلة تقدم فى قالب فنى وسردى عميق.
________________________________________
• تقوى:
راودها عن نفسها ، "قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا"، تصاغرت إليه نفسه فانطفأت شهوته ...، تقدم اليها لتكون زوجتة.
• جاء ليصطاد فريسة ظنها سهلة، فاذا به يصير الفريسة وتمسى هى الصياد، فقد اصطادته بتقواها ومخافتها لله التى ذكرته بوجوب تقوى الله ومخافته،لقد أرادها نزوة وشهوةمحرمة، فجعلته يتذكر قدرة الله عليه ، فطلبها فى الحلال.
• رؤيا منام:
"وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ" ، استيقظت ، تلفتت ، استرجعت ، نهضت ، صلت فجرها ، لنفسها سألت أى صوت زار منامى ؟ ، تكرر الصوت فى اليوم التالى ، ثم ثالثة أخرى...
تحركت الى حيث دُلَّتْ ، و لجذع النخلة لمست ثم هزت و لنفسها تعجبت ، صدى الصوت داخلها يحركها ، لم تهدأ حتى عزمت و شمرت و للمال أنفقت ...،
عندما رأت النسوة للقرآن قد حفظن و تعلمن ، تساقطت دموعها رطبا جنيا.
• يعود الكاتب الى خزانته اللغوية القرآنية، ويعود الى استخدام تقنية التناص واستخدام الاقتباسات من القصص القرآنى من جديد، هذه المرة يستخدم تقنية الاستباق والرؤيا التى وردت في قصة سيدنا يوسف ليوظف ذلك كله لخدمةالنص القصصى، تفسر المرأة رؤياها بوجوب العمل على نشر التعليم الدينى، فقرنت الفهم بالعمل وانجزت مشروعها الإنسانى المتمثل فى تعليم النساء.
________________________________________
• الحريق:
بينما البعض يتسامرون فإذا بصائح يستغيث ، النار ، النار ، تقافزوا ، شمروا ، تدافعوا ، ماء دلق و تراب أهيل ، صاحب البيت اندفع متحديا اللهب ، حاولوا منعه ، تفلت ، قاومهم ، صرخ فيهم ، لم يقدروا ...
النار نالت حظها منه ، لم يكترث ، مبتهجا يحمل رزما رماها ، صائحا بنشوة المنتصر: لا يهم بعد ذلك شئ ، لن أترك مسودات مؤلفاتى تلتهمها النيران.
• فى النص صورة رائعة يمجد فيها المؤلف الكتابة والفكر، ففى حين كان بيته يحترق والناس يركضون لانقاذ مايمكن انقاذه، خاطر صاحب البيت بنفسه من أجل انقاذ مؤلفاته.انه تقديس الكاتب للكتابة والمفكر للفكرة.
________________________________________
• إنفاق:
العجوز الطاعنة فى السن التى تربى أبناء ولدها المتوفى ، كانت تجالس زوجة جارها حين دخل عليهما و بيديه أكياس اللحم و الخضار و الفاكهة ، لم يجد مفرا من مناولتهم للجدة التى تمنعت أن تأخذهم ... قال لها: إشتريتهم لك و أولادك أولادى ، بعد أن غادرت قامت زوجته مبتسمة برش الكسرة اليابسة بالماء المملح و الزيت.
• انها صورة رائعة تجسد المعنى القرآنى العظيم {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} سورة الحشر. سبب نزولها: أن رجلاً أتى النبي فبعث إلى نسائه ليقدن له شيئا فقلن: "ما معنا إلا الماء" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يضم أو يضيف هذا" فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله. فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيّئي طعامك واصبحي سراجك ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها ونومت صبيانها، ثم قامت وكأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ضحك الله" وضحك هنا بمعنى رضي وليس كضحك البشر، أو "عجب من فعالكما"، فأنزل الله: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [سورة الحشر]
• فالرجل فى القصة يتبع خطى السلف الصالح حذو النعل بالنعل. والمؤلف يؤكد على ثقافته القرآنية الواسعة.
________________________________________
• الأولى أحلى:
بعد سنين ، لم تعجبه أحوال زوجته فأصبح يهيج و يغضب ، فى يوم رفع صوتا حانقا ملوحا بأصبع ، أنت أسوأ إمرأة فى العالم ... خرج غاضبا ، عاد و فى ذمته أخرى ، بعد أن ذاق عسيلتها ... طلقها ، جاء بثانية و ثالثة و... ، طأطأ رأسه للأولى
• نص لايخلو من سخرية مريرة، فخلافا لظاهر النص الذى يوحى بتقديس الرجل للزوجة الأولى، نجد ان المغزى الحقيقى هو السخرية من تفاهة الأعذار التى يسوقها بعض الرجال لتعدد الزيجات والزوجات.فلماذا لايكون هو مكمن السوء وليس النساء المتعددات اللائى تقلبن فى جحيمه؟هذا هو سؤال النص المخبوء فى طياته.
________________________________________
• لكل أجل كتاب :
مائة عام و نيف هى حياة سعيد الجد ، احدودب ظهره ، أسنانه سليمة كاملة ، له عيون قط ، ألزمته الغيبوبة فراش المرض قهرا ، أيام ، شهور ، أبناؤه ، أحفاده ، الأهل و الجيران ، يتبادلون أدوارهم فى المستشفى لرعايته ، أخبرهم الطبيب بإيقاف عمل الأجهزة بعد طول أمل من موته دماغيا ، منتظرا موافقتهم ، بعض أهل المريض اعترضوا ، آخرون رأوا صوابا ، ثلة لاذوا بالصمت ... توفى الابن الأكبر له فانشغل الناس به و تركوا المريض تَحَوَّطَهُ عناية الرحيم... بعد لأىٍ وافقوا.
فى صباح يوم بدأ نزعها عنه ، ممرضة تعثرت فأسقطت جهازا أصاب رأسه بقوة ، انتفض و ارتعش ، صرخ من الألم ، وُهِبَتْ له الحياة ... أخبر بموت فِلانٌ و فُلانَة ، زيدٌ و عبيدْ.
• النص جميل لكن أزمته هى عنوانه، العنوان يكشف مستور النص بمباشرته فيقلل من متعة قراءته والبحث عن مضمره الذى لايعود مضمرا بعد العنوان، المفارقة فى النص هى موت من لم يتوقعوا موته وحياة من توقعوا موته، فكم من عليل عاش دهرا وكم من سليم رحل واقفا بلا وداع. النص هو واحد من سلسلة نصوص كثيرة للكاتب تدور حول أسئلة وقضايا وثيقة الصلة بالحياة والموت والحق والباطل والهدى والضلال تعكس خلفية الكاتب الدينية وثقافته القرآنية الواسعة.
________________________________________
• بالون اختبار:
أرسل بالونا فى الفضاء يلهو به ، فك الخيط فغاب عن نظره ، فى بيت عرس كان الناس يتحدثون عن ذاك البالون الذى تأرجح فى سمائهم و طال تحليقه ، بعضهم قال : أمريكا أطلقته لتسمع ما يقولون و ترى ما يفعلون ، جماعة قالوا: لدراسة الأرصاد ، النساء قلن أنهن لذن الى داخل غرفهن حتى لا يظهرن عاريات بملابس البيت ، آخر قال بأنه لزم مسبحته و سجادة صلاته داعيا الله سائلا له أن يجلى البلاء ، و ... و ... و ....
ارتاع الصبى فأخرج البالون الآخر من جيبه ثم رمى به خائفا يترقب قبل أن يلحظه أحد.
•
النص عبارة عن نكتة بارعةوسخرية مبطنة من عجز الناس امام تفسير الظواهر ومن ثم يتخبطون فى تفسيرهم لها تخبطا بينا،فالبالون الذى اطلقه الطفل لم يكن فى الحقيقة بالون اختبار، لكنه بات كذلك مصادفة، حين احتار الناس فى أمره وذهبوا فى تفسيراتهم مذاهب شتى لاعلاقة لها بالحقيقة، الى حد ان الطفل خاف ان يطلق البالون الثانى فيتهم بما هو أشد خطورة. ونلاحظ ان التناص مع القرآن الكريم موجود فى النص فى عبارة (خائفا يترقب) فهى تجعل قصة سيدنا موسى عليه السلام تقفز للأذهان في سورة القصص من الاية 20 الى الاية 22
(وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22))
________________________________________
• وصفة طبية:
أصابع طبعت تبدوا ظاهره ، كدمات ، تورم على خديها ، فكها ، جبينها ...
- من فعل بك هذا؟ .. سألها الطبيب
- زوجى .. نزلت دموعها
- و لم لم تبلغى الشرطة ..؟
- لا أريد أن أؤذيه !
- بعد كل هذا الذى فعل بك؟.
أسئلة من الطبيب ، اجابات ، كلام ، صمت ، ثم قام باستدعاء زوجها ، و بعد خروج الزوج ..
- سأعطيك وصفة تزيل هذه الكدمات و من ثم يعود وجهك اكثر اشراقا و جمالا
- و ماهى ؟ قالت متلهفة
عليك أن تضعى نعنانا و قرفة مع قليل من الملح ، ضعيها بجوارك ، بمجرد دخول زوجك أملأى فمك منها و أبدئى المضمضضة بها و لا تدلقيها الا بعد ساعة ، ثم كرريها باقى النهار و بالليل ، عودى الى عيادتى بعد أسبوع
- و لكن ما السر وراء هذه الخلطة و لم تعطنى وصفة طبية لاستخدمها
- ببساطة كان زوجك يحتاج الى الهدوء فى بيته ، و أنت كثيرة الكلام فى غير مناسبة .
النص قصة مافى ذلك شك، لكنها قصة منحازة فى مضمونها للرجل، وتتضمن تبريرا للعنف ضد المرأة، فلا شئ يبرر الاعتداء اللفظى أو البدنى على المرأة أبدا، ووصفة الطبيب فيها انحياز واضح للجانى وفعله القبيح وتحيز ضد الضحية وتحميلها مسؤولية الجريمة المرتكبة بحقها. فالمرأة الضحية لعنف زوجها باتت هى المسؤولة عما الحق هبها الزوج من أذى بحجة سخيفة وهى كونها ثرثارة، فهل الثرثرة تبرر العنف ضد المرأة؟ من الصعب الموافقة على رسالة النص فهى رسالة سلبية تماما فى موقفها المبرر للعنف ضد المرأة وفى تجاهلها لمسؤولية الرجل عنه.
________________________________________
• فرشاة أسنان:
بعد أن أدخل فرشاة الأسنان داخل فمه و حركها تبين له أنها لزوجته ، أخرجها ، قلبًّها ، تمعنها ، تأكد ، انقلب بطنه ، غسل فمه ، قلًّبها ثانية ، ثم .. أرجعها منظفا أسنانه بها مرة أخرى يضحك محدثا نفسه : ليست أسوأ من .... .
• النهاية المفتوحة فى هذا النص هى سر قوته وضعفه فى نفس الوقت، فالنهاية دوما يجب ان تكون واضحة حتى تحقق الهدف منها وهو المفارقة ، لان المفارقة تبنى على وجود معنى ظاهر وآخر خفى ووجود معنيان خفيان يحكم على المفارقة بالموت ويضعف النص، فى نفس الوقت النهاية المفتوحة تحفز خيال القارئ وتفتح امامه الأبواب. في النص أمامنا يبدو الرجل ممتعضا من زوجته صاحبة الفرشاة التى ادخلها بفمه خطأ ، سبب الامتعاض غير واضح، وان كان يبدو هو انها ثرثارة، لكن الكاتب تعمد عدم الإفصاح. فجعل القارئ يقف حائرا متأملا فى النص بكامله باحثا عن السر المخبوء فيه بلا جدوى.الرسالة الوحيدة المقرؤة هى أن الرجل لايحب زوجته مطلقا.
________________________________________
• خيال...
على جانبيه يتقلب ، ثم على بطنه يتمدد ، يهدأ حينا ، يعود للتقلب ، يلملم رجليه الى صدره ، يفردهما ، يطقطقهما ، يزيح الغطاء ، يبحث عنه ، يرمى به ، يستجدى النوم ، يقترب مراودا ، ثم يفر منه ، شئ ما ضبابي لاح له ، يصعد ، يهبط ، يختفى ، يعود للصعود مشرئبا بتطاول ، يقصر ليزداد طولا حذر ، ما هى الا هنيهة حتى يتلاشى لا يكاد يبين ، ظل يرقبه بقلق ، بخوف بإضطراب ، حبس أنفاسه فى قمقم ، مرة أخرى رآه كسراب ، حقيقة ، وهم ، لا يعرف ، عظامه كادت أن تتيبس ، عيناه تحاولان الثبات مع هذا الذى يرتفع طولا ثم يقصر ، محاولا أن يكتم ضربات قلبه المتزايدة حتى لا تسمع ... قبيل الظهر و قد نام قليلا ، عرف أن ذاك الشئ ما كان إلا أخته التى كانت تحاول أن تسترق السمع متلصصة على الجيران.
• الخوف كامن فى داخله هو، صدق مخاوفه الكامنة فعاش فى رعب حقيقى ليكتشف انه كان ضحية وهم . يبدو النص يعانى من الاسهاب فى تفاصيل غير مهمة جعلته يعانى ترهلا يشتت انتباه القارئ. والإسهاب من العيوب فى القص القصير جدا، فالتكثيف والإيجاز هما أساسه.
________________________________________
• عواصف و أمطار:
ريح عصفت ، سماء أبرقت ، أرعدت ، أمطرت ، أنهمرت سيولا ، نحتت ، فتَّتْ ، جرفت ، المخلوقات فَزعَتْ ، الأرض تحت اقدامها زلزلت ، تحاول أن تأوى الى جبل عله يعصمها بعد أن رأت الهلاك و به أيقنت ، ركعت ، سجدت ، بالدعاء توسلت ، حوالينا و لا علينا ، قام من مقعده فأغلق التلفاز نهاية الفيلم
• مشهد صاخب جدا يبدأ به النص، ثم ينتهى المشهد باغلاق التلفاز، لنعرف ان المشهد كله كان مشهدا فى شاشة تلفزيون وليس من الحياة. لكن مشكلة النص عدم وجود رسالة محددة واضحة أو خفية للنص، الأمر الذى يجعل النص تأمليا صرفاً. ويبدو الكاتب لاهثا وراء فتنة اللغة التى ظهر فيها ملمح شاعرى غير معتاد منه فى نصوصه عموما.
________________________________________
• عشرة سنين:
سنين لم تمل منه و لم تشتكى رغم قسوته ، صابرة تحتسب ، بذل مافى وسعه ليأتى بأخرى ، فشل ، حاول ثانية ، لم يكترث... اجتهد أخرى ، تعلم أنها ما عادت قادرة على التحمل من كثرة ما غرز فيها من خيوط لعمليات الترقيع و التجميل و لكنها تتماسك بصبر و جلد و تتمنى أن يكون له واحدة غيرها ، أحد الأصدقاء أهداه جزمة جديدة .
النص حافل بسخرية مريرة، فالرجل له حذاء مثل حذاء الطنبورى، لكنه يتحدث عنه كمن يتحدث عن حبيبة فاتنة، فقد أفرط فى ترقيعه مرات ومرات، حتى جاد عليه صديق بحذاء جديد، النص أضعفه تصريح الكاتب بانه يتحدث عن جزمة(أحد الأصدقاء أهداه جزمة جديدة) فهذا التصريح هدم الإضمار فى النص وشرحه، وكان الأفضل الإشارة الى الحذاء بشكل غير مباشر. فضلا عن ذلك جاءت الجملة كنهاية للقصة نهاية لاتحمل عنصر دهشة ولاتحمل تنويرا، بل هى حل قدرى لمعضلة الحذاء البالى، فهى نهاية سعيدة مرضية لكل الأطراف، لكنها نهاية جاءت من خارج سياق النص. لكن ليس ثمة مفاجأة فيها مطلقا. وهذا يقودنا الى ابداء ملاحظة عامة على نصوص الأستاذ احمد مفادها ان تلك النصوص تحتاج الى وقفة عند العنوان والنهاية.
هذه قراءة أولية لنصوص مختارة أرجو ان تكون كافية لاعطاء فكرة عامة عن القصة والأسلوب عند الاستاذ احمد الشريفي الذى تتميز كتاباته بجزالة اللغةوالطابع الانسانى لنصوصه وكونها تهتم بالعالم الداخلى للإنسان فى مواجهة مايحيط به من مؤثرات خارجية سلبية ويغلب الطابع التهكمى الساخر على الكتابات وتعانى النصوص اشكالات متكررة فيما يتعلق بتوظيف العنوان وصياغة الخاتمةوتتميز النصوص بقوة المضمون والانتصار دوما للقيم الايجابية والانغماس فى الهموم اليومية.
صلاح الدين سر الختم على
مروى
14 و15 ديسمبر 2013
المراجع:
قصص قصيرة جدا منشورة للكاتب احمد الشريفى بمواقع الكترونية.
الأسس النفسية للابداع الأدبى فى القصة القصيرة خاصة/ دكتور شاكر عبد الحميد/ الهئية المصرية العامة للكتاب 2007.
جان مارى جويو( مسائل الفن المعاصرة) دار اليقظة العربية للتأليف والنقد/ ترجمة سامى الدروبى.
القصة القصيرة نظريا وتطبيقيا/ يوسف الشارونى دار الهلال 1977.
ارنست فيشر/ ضرورة الفن ترجمة اسعد حليم الهئية المصرية للتأليف والنشر 1971.
No comments:
Post a Comment