Friday, October 25, 2013

(إمراة من كمبو كديس) لعبد العزيز بركة ساكن ** والتشريح القاسي للواقع وحكاية الضحية والجلاد/دراسة نقدية /صلاح الدين سر الختم على



عبد العزيز بركة ساكن القاص وجه آخر لعبد العزيز بركة الروائي الذي يحتل مكانة مرموقة في المشهد الثقافي السودانى، لعلى أكون محقا إذا ذهبت الي القول أن بركة القاص غير مكتشف كما هو الروائي فيه، فهو قاص متمكن من أدواته ويبدو نفسه القصصي أكثر نضجا وأصالة وإحكاما من نفسه الروائي، فالقصة عنده تشريح قاس لواقع أشد قسوة، واقع تحتشد فيه صور الجمامجم المثقوبة والنساء الراسفات في القيود والأطفال المفزوعين الضامرين الذين يتنقلون مع أمهاتهم في بئيات مسكونة بالفقر والقهر والعذابات فتختزن ذاكرتهم صورا لاتخرج منها أبداً ويبدو عبد العزيز نفسه واحدا من أولئك الأطفال المعذبين بالتبعية مع أمهاتهم  مثل ذلك الطفل الذى تحمله أخته الضامرة الي أمه المحبوسة ثلاث مرات في اليوم ليرضع في قصة ( لبن دافئ من أجل منتصر) في مجموعته التي تحمل اسم (أمراة من كمبو كديس )ومثل ذلك الطفل ود أمونةفي روايته الجنقو مساميرالأرض الذي يتعرض لاستغلال بشع بسبب وضع أمه،  هكذاولجت طائعا الأجواء المرعبة للمجموعة القصصية (إمراة من كمبو كديس) للكاتب عبد العزيز بركة ساكن الصادرة عن دار عزة للنشر . المجموعة تتصدرها قصة موسومةب (عاشق) وحين تلج القصة المكتوبة بأسلوب تقليدي هو أسلوب الرسالة المرسلة الي شخص  هو معلم الراوي في صباه الباكرتكتشف منذ الوهلة الأولى ان العنوان مراوغ وان القصة لاعلاقة لها من قريب أو بعيد بالعشق والحب  والمشاعرالانسانية النبيلة كافة، بل علي العكس تماما نجد قلوبا صماء متحجرةوشلالات من الدم المراق بلا جريرة وجبال من الحقد الأسود المستوطن في قلوب مظلمةوضمائر خربة جرداء ونفوس لايعرف الحب أو أي شعور نبيل طريقا اليها. ليس هناك بطل رومانسي وسيم ساحر وليست هناك بطلة حسناء حالمةتداعب خيالات النظارة وتتثنى كغصن جميل، بل هناك وحوش كاسرةودم مراق وضحايا لاحول لهم ولاقوة ومواكب جنائزية صامتة وضمائر ميتة . الراوى العميد الزين كاتب الرسالة  الي معلمه يكتب بوقاحة وصفاقة من بات قلبه كالحجارة أو أشد قسوة مستمتعا ومتلذذا باستعادة قصص تعذيبه وقتله لضحاياه الابرياء  مدعيا أن دخوله للجيش لم يكن الهدف منه مواصلة انحرافه المبكر الذى تجلي في قتل الكلاب والقطط والأشجار وسلخ قشرتها والاستمتاع بموتها البطئ المتدرج في صباه وهو الأمر الذى ذكره به معلمه في رسالة أرسلها اليه متهما إياه بانه ولج الكلية الحربية ليس بهدف الدفاع عن الوطن كما يدعى بل بهدف الانتقال من القتل المنظم للحيوانات والأشجار الي القتل المنظم للبشر. يكتب هذا الوحش الآدمى ليحكى مغامراته الوحشية ببرود أعصاب وعدم شعور بالذنب يحسد عليهما وهما في الحقيقة يبرزان نفسية المجرم المتلذذ بدماء الضحايا وأناتهم بصورة دقيقة تؤكد أنه أنسان معطوب وعسير علي الأصلاح لأن تلك البقعة المظلمة في تكوينه الروحى قد هزمت كل شئ إنسانى ونبيل فيه وأزهقته فبات لايشعر الا بتلك اللذة المريضة التى تعتريه حين يسحق ضحاياه الذين تحولوا عنده الي أرقام وأوهام مريضة عن الآخر ، أوهام لاترى في الآخرين إلا أعداء وحشرات يجب سحقها بلا رحمة
ونراه في رسالته يتفنن في تلطيخ وجوه الآخرين بصفات يطلقها عليهم من عنده بلا هوادة كما يطلق عليهم الرصاص فهو يصفهم كما يلي(الخائن معاوية الدكين)( الحزب البائد بقيادة ذلك الكافر أبو رؤوف)
( المتمردين العملاء المحليين)( كانت هناك قلة تمثل طابورا خامسا، فئة خائنة)وفي المقابل فهو يطلق علي نفسه ومن معه انبل الصفات(انحاز الشارع  كله في لحظة صدق وطنية غالية الي الحكومة الوطنيةفي شخص الرئيس مؤيدة له كحاكم أوحد للبلاد وقائد أبدي للجماهير)  أن هذا الجمل الذي لايري (عوجة رقبته) كما يقول المثل السودانى يحكى بلا أدنى شعور بالذنب كيف قتل أسيرا لاحول ولاقوة له وكيف عذبه هو وجنوده بلا شفقة ولارحمةوكيف أنهم حين عبثوا في جيوب القتيل وجدوا صورا لافراد اسرته وسمح القاتل لنفسه بالاحتفاظ بصورة زوجة القتيل لانها جميلة!! أنه تصوير بشع لنفوس خراب ليس فيها شئ من سمات البشر. ويبدو البطل معجبا بتفرده في وحشيته فيورد قصصا أخري تبين قسوته حين قتل شيخافوق الخمسين جريمته انه يقيم في قرية احتلها المتمردون قتله السفاح ببرود اعصاب رميا بالرصاص وهو يصفه بانه كلب وجاسوس والرجل يتوسل اليه أن يبقي علي حياته بلا طائل. القصة جميلة افسدتها النهاية وهي اضعف مافيها حيث ختمها المؤلف بعبارة تقريرية تقول(هذا الخطاب مثل الوثيقة الوحيدة التى قدم بواسطتها العميد الزين طه للمحكمة الدولية في لاهاي لمحاكمته كمجرم حرب) هذه الأضافة جاءت شرحا للقصة لم يكن المؤلف في حاجة له وكان عليه أن يثق في القارئ الحصيف ويترك له استخلاص النتائج والأحكام من خلال الصور واضحة الدلالات التى قدمها. فضلا عن أن القارئ سيتعاطف مع العميد الزين لأنه تعرض للخيانة من استاذه الذي استغل ثقته فيه وقدم مراسلاته الخاصة كدليل ضده فخان الأمانة مرتين مرة كمعلم ومرة كصديق، وهذا يهدم الغرض من القصة وهو حشد الغضب علي العميد الزين وليس علي المعلم.
في قصة بت الجزار تصوير طريف وموجع لجانب آخر من الأمراض الاجتماعية المتفشية في المجتمع السودانى وتوثيق لوحش من نوع آخر هو معلم يغرر باحدي الفتيات المتدربات عنده باسم الزواج العرفى ويعلم أبوها بالأمر فيسافر من ريفه البعيد الي المدينة ليعالج الأمر حيث يستخدم حيلة طريفة يرعب بها الوحش فيرضخ ويتزوج البنت تحت وطأة خوفه من وهم هدده به الأب. يبدو مكر الأب في القصة رد فعل مشروع علي مكر من غرر ببنته وكأن المؤلف يقول أن الشر لايخرسه إلا شر مماثل. هذه هى رسالة القصة فهل هى دعوة لاستخدام العنف المضاد أم هى دعوة لانهاء كل اشكال العنف؟ يبقي السؤال منفتحا علي أكثر من أجابة فهو في الحقيقة دعوة للمناقشة لا الاجابة. قصة (لبن دافئ من اجل منتصر) التى
تحمل المجموعة الأسم المشتق من أحداثها قصة فريدة وهي تذكرنى بابطال انطون تشيخوف من الفقراء الراسفين في الأغلال والفقر في روسيا القيصرية قبل الثورة
فالقصة تتناول مشاهد من حياة امرأة فقيرة تعيش في حي فقير يسمي كمبو كديس وربما تكون دلالة التسمية انه مكان لائق بمعيشة الحيوانات كالقطط وليس لائقا لسكنى الانسان لكن هولاء الفقراء يسكنونه ويعانون من ملاحقة السلطات لهم، فتلك المرأة من كمبو كديس تضطر الي بيع الكسرة نهارا والخمور البلدية في باقي اليوم لتستطيع تربية أولادها ولكن الشرطة تلاحقها تنفيذا لسياسات السلطة وتقبض عليها متلبسة بحيازة الخمور فتسجنها وتحكم عليها بالغرامة والجلد وتضطر بنتها لحمل اخيها الرضيع منتصر اليها في محبسها لترضعه رضعاته الثلاث اليومية التى كانت ترضعه اياها اثناء عملها في بيع الكسرة. إن منتصر الصغير الباحث عن لبن دافئ هو منتصر علي السلطة وعسفها وجورها والمتمسك بحقه في الحياة في مواجهة سلطة تحرمه من الانسان الوحيد الذي يطعمه من جوع ويأمنه من خوف ( أمه) فهو بذلك يشكل رمزا لارادة الحياة لدى الطبقات المسحوقة تلك الارادة التى لايطفئها ولايهزمها جور ولاعسف ولاحكم جائر، لهذا السبب عبرت المرأة عن احتقارها للقاضي الممثل الرسمي للسلطة حين حاكمها بالجلد عقوبة علي كفاحها من اجل الحياة في ظل نظام اجتماعى فاسد لايرحم أنوثتها ولا انسانيتها ولاطفولة ابنها، وقف القاضي بعد نهاية الجلد كما يصفه الراوي(وعلي فمه ابتسامة صفراء قاسية محاولا من خلالها ان يكون تقياوعادلا محبوبا وحاسما في نفس الوقت : هيا قومى استغفري ربك الله واعلنى توبتك)
لكن كلتومة تلك المرأة الباسلة كان رد فعلها( نظرت اليه كلتومة نظرة فاحصة عميقة، ثم بصقت علي الأرض بصاقا داميا مرا.وشقت طريقهاعبر الجمع فكان عليها أن تسرع حتى لاتفوت منتصر الصغير رضعة الصباح.) انه مشهد بديع لصراع الضحية والجلاد، مشهد انتصرت فيه الضحية بأمومتها الحية علي السلطة بادوات قمعها التى أدمت ظهرها دون ان تطلق الضحية طلقة واحدة أو تصدر عنها آهةودون أن تمارس في مواجعهة القمع شيئا سوي فعل الحياة، فسياط السطة واهانتها لم تنسها رضعة الصباح التى ينتظرها منتصر الذى لاتراه السلطة ولاتكترث لجوعه، انها تفهم انها هى من يصنع الحياة وهم من يصنعون الموت. انها قصة رائعة بحق. وتظل صورة تلك المرأة الباسلة الصامدةتحت السياط والشرطي يرفع عقيرته عقب كل سوط وهى تنتظر انتهاء الجلد لتلحق بطفلها وترضعه رضعة الصباح تجسد صورة رائعة للصمود.
قصة( حذاء ساخن( قصة اقرب الي قصص الرعب وهى تصور أثر الحرب علي الجنود في مناطق العمليات عبر تجربة خاضها مجند  من مجندى الخدمة الالزامية يكلف بمرافقة ضابط صغير متغطرس حديث التخرج ويتعرض المجند الي مايشبه الهلوسة وتنتهى حياته بصورة فاجعة حين ينفجر لغم تحته ويمزقه أربا وتنتهي حياته وهو لايزال تحت تأثير الهلوسة. انه تصوير لمقولة أن الحروب تسحق الابرياء ولايتضرر مشعليها.
أما قصة الاستاذ صابر الدقيس فهي عبارة عن نكتة 
فالرجل الفقير حامل الشهادات الباحث عن وظيفة تعرض عليه وظيفة غريبة وهى ان يحل سجينا بديلا عن أمير ثري لمدة اربع سنوات مقابل مال وفير
يكفيه واسرته كل العمر وحين يوافق تحت ضغط الحاجة تصل النقود أسرته ولكنه يعدم بدلا عن الأمير . لعله (دقس) كما تقول العامية السودانية بمعنى انه تعرض لعملية خداع كلفته حياته بدلا من حريته ولهذا استحق اسم صابر الدقيس فصار اسما علي مسمى  .
في قصته (محاربة قديمة تحسم المعركة وحدها) يصور الرعب الذي يعيشه السكان المدنيون في مناطق النزاعات المسلحة حيث يظلون عرضة لتصرفات الجنود الطائشة حين يقبل الليل ويسكرون ويتصرفون مع السكان بصورة مثيرة للرعب، يصور الكاتب ذلك عبر تساؤلات وخوف ينتاب طفلة صغيرة تقيم مع أمها في منطقة تعيش ذلك الرعب الليلي اليومى، وتضطر الأم في النهاية الي حمل السلاح للدفاع عن نفسها وبنتها، انها قصة تصور جانبا خفيا للنزاعات المسلحة وماتفعله بالسكان المدنيون.
اما قصته (ضلالات) فهي علي ضعفها فنيا، حيث تبدو أقرب الي المسرحية منها الي القصة، إلا انها حافلة بمشاهد مختارة بعنايةمن كمبو كديس وطن الفقراء الطيبون الصغير، مشاهد تتنوع وشخصيات متعددة وحكايات متعددة لكن يربطها خيط واحد الفقر ومعاناة الفقراء ومفاهيمهم المختلفة للحياة وقيمها، وتبدو شخصية اسماعيل كوكو مرفعين نسرا أسطوريا يتمدد في فضاء القصة بفحولته وشجاعته ومغامراته النسائية ومصيره الفاجع حين مات في ميدان القتال في الجنوب في معركة ليس له مصلحة ظاهرة فيها بينما يظن أحد خصومه المحليين انه قتله باستخدام سحر أسود لان اسماعيل اعتدى علي عرضه ولم يجبر خاطره بالمال العرفي الذي يدفع في الأحوال المماثلة، وهكذا يبدو المكان حاضرا بحكاياته واعرافه واساطيره وصدقه الجارح. نجد العنوان مراوغاماكرا فجميع الحكايات ليس فيها من الضلال شيئا اللهم الا اذا كان الفقر ضلالا.
قصة( اسنان لاتغنى) تبدو الكلمة الشاذة في المجموعة حيث انها تدور في امريكا وبطلها سودانى مقيم هناك
وليس هناك ادنى صلة لموضوعها مع الجو العام للمجموعة وأسمها، تبدو القصة اختيارا غير موفق . وموضوعها موضوع متكرر ومطروق كثيرا وهو علاقة عاطفية سريعة الايقاع بين مهاجر شرقي واجنبية متحررة والجنس حاضر بقوة. 
ولكن القصة الأخيرة بالمجموعة( الأخدود) تعيدنا الي الاجواء العامة للمجموعة فهي تصور حال منطقة عانت الأمرين من النزاعات المسلحة الداخلية حد ان بعض أهلها توحشوا واصبحوا آكلي لحوم بشر وينثر بركة في اجواء القصة بهارات الجنس بشكل فانتازي يضيف الي القصة سحرا وغموضا وإثارة وابعادا فلسفية  عميقة فتبدو القصة شمعة تتراقص في ظلمة كهف عامر بالجماجم البشرية ومعاقي الحروب  وحتى البطل نفسه تاجر جلود حيوانات وبنقو ( مخدر محلي) فهو جزء من الشبكة العاملة في تدمير الطبيعة والإنسان. لذلك لم نلمس أي تعاطف أو شعور بالجميل منه تجاه الأنثي التى أنقذته من الموت علي أيدي أهلها المتوحشين، بل جعل منها موضعا للشهوة واللذة
.
تمزيق الأقنعة وتوحش النص:
القاسم المشترك بين نصوص المجموعة هو طابعها الإنسانى ونماذجها التى لاتنسي ولاتغيب عن الذاكرة
فهى نماذج منتزعة من الحياة العادية تجسد صراع الإنسان في الحياة وكفاحه من أجل البقاء وهى نماذج مكتوبة بمحبة وصدق متوهجين حتى تكاد تلامس قلوب أصحابها وترى أوجاعهم، ففي قصته ضلالات وصف دقيق لشخصية آمنة  الصبية التى تعانى من التبول اللا ارادى كما يلي( ترقد علي عنقريب مفروش ببرش أحمر، تحت العنقريب توجد جوالات خيش فارغة مفروشة علي الارض لتمتص ما قد يتساقط من بول عبر البرش) الوصف هنا وصف لمجمل البيئة الاجتماعية وليس للشخصية وحدها وتبلغ الدقةحد انك تري لوحة مكتملة تجسد المشهد وليس وصفا خارجيا.
وفي جزء آخر من القصة يورد موقف الطفل ابو ذر من انحراف اخته  المراهقة آمنة حيث يستخدم قرنيتا ويفجره قريبا منها محذرا اياها انه سيقتلها في المرة المقبلة ا ن هى واصلت سلوكها، وهنا يقدم القاص بذكاء ملمحا لأثر الحروب علي ثقافة المكان وعلي الأطفال وأحلامهم فنفس الصبي الذى يلعب بالقرنيت المدمر بدلا من اللعب بالطين البانى يحلم بدخول الجيش .بينما تفضل الفتاة ان تعمل في بيع الشاي علي مواصلة تعليمها حتى تساعد أمها بينما يحلم الثالث ان يعمل سائق كارو لتوفير رسوم تعليمه. تزداد الصورة  وضوحا اذا عرفنا ان هولاء الاطفال ابناء جندى مات في كبويتا في الجنوب في حرب ليس له صالح فيها تاركا اطفاله لكلاب الشوارع لتنهش اجسادهم النحيلة، أن اسماعيل كوكو مرفعين تخلي عن مهمته كأب مهمته في صنع الحياة لصالح العمل في خدمة الموت فكان نصيبه الموت في أرض بعيدة تاركا اطفاله مفتقدين للدفء، علي عكس تلك المرأة التى اختارت القتال في ميدان صنع الحياة
ولم تنسها السياط علي ظهرها رضعة الصباح الخاصة بطفلها وهى ذاتها المرأة التى أثقل كاهلها اسماعيل بتركة ثقيلة عليها تحمل عبئها، ان المراة السودانية تتحمل مشاق الحرب والسلم معا وتعانى من الأمراض مثل التبول اللا ارادي والفقر والجهل واستغلال الرجال لجسدها واستغلال الدولة لها وقمعها ومصادرتها لادوات حياتها المتاحة وحتى رجلها تجعل منه وقودا للحرب ولكنها لاتنحنى وتواصل ببسالة منقطعة النظير فعل الحياة والمقاومة بلا شعارات ولابحث عن دعم من أي نوع. لذلك وصف بركة(زهرة)   وصفا مباشرا بكونها الشهيدة في خاتمة قصته الرائعة( ضلالات) حين قال:(بينما كان الناس مشغولين بتفكيك الكعكة...كانت هي ساكنة وعلي شفتيها ابتسامة رضا عظيمة بلهاء وهي ترقب الملائكة يلتهمون كعكتها الطازجة إحتفاء بعرس الشهيدة، التي كانت هي نفسها) واللافت للنظر ان كلتومة صانعة الخمور وبائعة الشاي التى تحدت القاضى وسياطه وهرولت لترضع طفلها هى وجه آخر لصمود زهرة وهي مستقبل آمنة الصغيرة التى تعانى من التبول اللا ارادي ومن استغلال الرجال لجسدها وتفضل بيع الشاي علي التعليم ، اللافت للنظر أن كل النساء في قصص عبد العزيز بركة واقعات تحت قهر مركب من المجتمع ومن الرجال علي وجه الخصوص، والقصة الوحيدة التى غاب فيها النموذج النسائي المباشر هى قصة مجرم الحرب تنتهى باحتفاظه بصورة زوجة الأسير الذى قتله بدم بارد بدعوى انها جميلة وهنا تصوير مرعب لوضع المرأة عند هذا السفاح فهى موضوع لشهوة مريضة. في قصة صاحبة المنزل تصوير دقيق لواقع النساء فالقصة تعج بنماذج نسائية من الطبقة الفقيرة  يعملن في مهن هامشية مثل بيع السمسمية والشاي والتسالي وعرفن الطريق الي بيوت العزابةوميزات العساكر ولهثن خلف الكريمات الرخيصة والعطور الرخيصة علهن يمسحن آثار مالحق بهن من عفن قاع المجتمع بلا طائل. ولكنه في الحقيقة هو عار لايخصهن وعفونة لاتنتمى لهن، بل هو عار المجتمع الذي القي بهن في اليم مكتوفات وقال لهن :اياكن والبلل!! بل أن اقسام من هذا المجتمع لاتريد حتى رؤية وجوهها وقبحها في المرآة فطفقت تحارب بروز الحقيقة العارية في النصوص الأدبية بحجج مختلفة ولكن الغاية واحدة وهى عدم ابراز ما هو تحت القاع الي السطح ليس رفقاً بالناس من القبح بل رفقا بالقبح من الكشف!!انها رغبة مريضة في محاكمة الضحايا باستمرار وغض الطرف عن الجلاد. ان القصة عند عبد العزيز بركة ساكن اداة تشريح وفضح وتنوير
وهى متورطة عاطفياً منذ الوهلة الأولي مع نماذجها الإنسانية الواقعة تحت نير الظلم والاضطهاد ولعل هذا هو سبب توحش النص وعداونيته الظاهرة أحياناً، فالكاتب يتعمد أن يكون النص مستفزا للقارئ ومحفزا له علي اتخاذ موقع وموقف مما يجري، فالنص هنا ليس عارض أزياء يدور ببلاهة اثناء عرض نماذجه لكنه متجذر في تلك النماذج وناطق باسمها ومتورم الخدين مثلها وباحث عن الشمس وعن يد تأخذ بيده وتنتشله من أعماق الجب مثلها.أنه نص تحريضى من الدرجة الأولى.
والملفت في نصوص هذه المجموعة هو غياب الاستطرادات واللغة الشاعرية وإنصراف القاص الي مواضيعه مباشرة، حتى ان القارئ يلهث خلف الصور المتتابعة من أول صفحة الي آخر صفحة بلاتوقف  كمن يشاهد فيلما سينمائيا لاتتخلله أي فواصل اعلانية، وهذا وجه من وجوه جودة هذه النصوص والتى أميل الي القول بأنها منتزعة من الذاكرة الشخصية للكاتب أكثر من كونها من بنات الخيال، فصدق المشاعر وحرارتها ودقة التصوير للشخصيات حتى الجانبية يشير الي أن الشخوص من لحم ودم وخضعت لنوع من المعالجة الدرامية في اختيار زوايا القص وطريقته مع وجود خيط رئيس واحد متصاعد الي الامام بقوة مما جعل المجموعة تبدو كرواية واحدة متعددة الفصول.. ومما يدعم قولنا هذا ما اورده المؤلف في ليلة ثقافية ببيت الفنون بمدينة بحري حين تحدث عن مصادر حكاياته فقال انها قراءاته( فضلا عن انهار الحكايات في بئيته ومصائر بعض من يعرفهم والتي اثارت اسئلة ظلت بلا اجوبة فرفيق الصبا الذي قتل في حرب دائرة في مكان بعيد من الوطن واولئك العائدون بارجل مقطعة كانوا يثيرون الاسئلة دوما في ذهنه ) وقال في معرض حديثه ان روايته رماد الماء مثلا( حاولت الاجابة علي بعض الاسئلة حول الحرب الاهلية في جنوب السودان ، تلك الحرب التي أثرت في طفولته وصباه ومصائر رفاق احبهم لم يكن لهم ناقة فيها ولاجمل لكنهم دفعوا ثمنها باهظ رغم بعدهم جغرافيا عنها)    ولعله يجدر بنا القول ان هذه المجموعة  تعتبرمن أفضل ماكتب عبد العزيز بركة ساكن بعد رائعته( رماد الماء) وهى مجموعة جديرة بالقراءة والتوقف عندها وعند شخوصها وحكاياتهم الموجعة.
 صلاح الدين سر الختم على
مروي
الخامس والعشرين من اكتوبر 2013

المراجع والهوامش:
عبد العزيز بركة ساكن/ مجموعة ( امرأة من كمبو كديس) القصصية /اصدار دار عزة للنشر. الخرطوم.
عبد العزيز بركة ساكن / رماد الماء/ رواية/ دار رؤية للنشر القاهرة.                                               
انطون تشيخوف / الاعمال الكاملة.
السرد علي الهواء( تغطية لكاتب الدراسة لليلة ثقافية اقامتها مجموعة مشاهد وقصص قصيرة ببيت الفنون ببحري) منشورة بموقع مسارب سودانية / الرابط ادناه
                                                                                             http://www.msarpsudania.net/vb/showthread.php?968-%C7%E1%D3%D1%CF-%DA%E1%ED-%C7%E1%E5%E6%C7%C1-%E3%DA-%C7%E1%E3%C8%CF%DA-%DA%C8%CF-%C7%E1%DA%D2%ED%D2-%C8%D1%DF%C9-%D3%C7%DF%E4
**الكاتب والروائي عبد العزيز بركة ساكن وهو من مواليد مدينة كسلا شرق السودان عام 1963م، وهو صاحب رواية (الطواحين) ورواية (رماد الماء) وله مجموعة قصصية بعنوان (على هامش الأرصفة) وأخرى بعنوان (امرأة من كمبو كديس)، حقق جائزة الـ بي بي سي أكثر من مرة عن قصته (دراما الأسير) ثم عن قصته (فيزياء اللون)، ترجمت بعض أعماله إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية
كتب أيضا عددا من النصوص المسرحية، صدر عن (مكتبة الشريف الأكاديمية) كتاب (البلاد 
الكبيرة) في (552) صفحة من القطع المتوسط، متضمنا روايتيه: الطواحين ورمادالماء،بالإضافة إلى روايته (زوج امرأة الرصاص) التي تنشر لأول مرة، ضمن هذا الكتاب.روايته (الجنقو- مسامير الأرض) حققت جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي في دورتها التي أعلنت ظهر الأربعاء ا 21أكتوبر2009 بمركز عبدالكريم ميرغني الثقافي وسط حضور إبداعي وإعلامي حاشد" وتم حظرها فيما بعد بقرار هئية المصنفات الادبية.
صودرت مجمــوعته القصصية«امرأة من كمبو كديس» في 2009 وجمعت من جناح مكتبة عزة في معرض الخرطوم الدولي للكتاب، كما يقول في حديثه إلى «الحياة».وقبلها كانت أمانة الخرطوم عاصمة للثقافة العربية 2005 أصدرت مجموعته القصصية «على هامش الأرصفة» إلا انهاسارعت إلى سحبها بعد اجتماع ساخن لمسؤولين نشرت وقائعه صحيفة «الحياة»
المحلية وقد استغرب بعضهم محتوى المجموعة القصصية الـ «خادش للحياءالعام.) مؤخرا صدرت له روايتان (مسيح دارفور) (وذاكرة الخندريس).

1 comment:

  1. اتمنى من الاصدقاء والقراء ترك بصمتهم هنا بالتعليق

    ReplyDelete