شوق
الدرويش رواية الاتكاء على التاريخ
بطل الرواية (بخيت منديل)والهجرة بين عبودية الجسد وعبودية الروح وقصور الوهم
بقلم / صلاح الدين سرالختم على
رواية(شوق الدرويش) للكاتب حمور زيادة** الصادرة عن دار العين في 2014 رواية تغازل المسكوت عنه وتقاربه بقوة من مواقع وزوايا مختلفة، يتموضع الراوي داخل الرواية التي تدور أحداثها في القرن التاسع عشر بمدينة أمدرمان إبان الثورة المهدية، يروي الراوي حكايات أناس عاديين عاشوا تلك الأيام في مزج فريد بين وقائع التاريخ المحورة روائياً وبين المتخيل الروائي المبدع بواسطة الكاتب،فالكاتب لايكتب تاريخاً بعين واحدة ولسان واحد كما ظن البعض ، بل يكتب رواية من وجهات نظر الشخوص التي تتحرك في فضائها السردي بحسب مواقعهم ومواقفهم من الأحداث المنسوجة من وحي الخيال بالاشتغال على وقائع تاريخية تمسي داخل العمل الروائي قطرة في بحر هائج، ولاتعود بعد دخولها في الرواية تاريخاً، بل عنصراً من عناصر العمل الفني تبرره الضرورة الفنية وتحدد كيفية التعامل معه مواقع الرواة وتموضعهم، فواقعة مثل ثورة المهدي يختلف النظر فيها وإليها باختلاف موقع المتحدث عنها والناظرإليها ، فوجهة نظر أمرائها لايمكن أن تتطابق مع وجهة نظر أسراها وقتلاها وأعدائها والعكس صحيح،الروائي ليس مطلوباً منه كتابة بيان تأييد ولا بيان إدانة بل المطلوب منه كتابة رواية وفق شروط كتابة الرواية،بما في ذلك التماهي مع موقع الراوي ولو كان قوله غير مقبولٍ من وجهة نظر مغايرة.فالقول داخل الرواية تبرره الضرورة الفنية ولا تبرره حقائق التاريخ المكتوبة من موقع مختلف وبمنهج مختلف.كان الكاتب جريئاً في رسم شخصيات مأزومة في الرواية مثل شخصيتي (بخيت منديل) و(الحسن الجريفاوي)اللتين باتتا على طرفي نقيض مع فكرة المهدية التي آمنتا بها وقاتلتا تحت راياتها بسبب صراع الفكرة مع الواقع، وكانت أزمة كل منهما مبررة ومنطقية في حدود شخصيتها والأثقال التي ترزح تحتها الشخصية وتئن ، ولم تكن الأزمة مفتعلة ولا مقحمة على الأحداث ومنطقها من خارجها.فبينما كان (بخيت) يرزح تحت وطأة وهم مستحيل هو حبه لراهبة أسيرة ذاقت ما ذاقت على يد الثورة كونها في المعسكر الآخر، فجعل بخيت الجهادي السابق في صفوف الثورة من نفسه أداة لسفك دماء من قتلوا حبيبته المتوهمة،منتقلاً عملياً إلى المعسكر الآخر، كان الحسن الجريفاوي يرزح تحت وطأة عبء حقيقي سببه جرائم حرب ارتكبها بحق ضحايا مدنية في (المتمة )وغيرها من الأمكنة أثناء ما كان يؤمن به بأنه جهاد مقدس.ظلت صورة تلك الطفلة التي أزهق روحها تلاحقه وتمنع عنه سكينة الروح التي بحث عنها في الجهاد، فتزعزع إيمانه بالفكرة.وجوه الشبه بين الحسن الجريفاوي وبخيت منديل كثيرة، فكلاهما آمن بالمهدية وقاتل تحت رايتها ثم كفر بها وعانى ، لكنهما يختلفان في أن الحسن كان حراً وآمن بالفكرة من موقع ديني وصوفي، بينما بخيت كان راسفاً في أغلال العبودية وآمن بالفكرة كبوابة للحرية الشخصية،هكذا ينزل الكاتب بالفكرة من المطلق المثالي المجرد إلى الواقعي الملموس الذي تجسده شخصيات من لحم ودم تنتمي إلى تلك الأيام فيصورها في حوارها وكفاحها في قلب الأحداث وتأثرها المباشر بها من مواقع مختلفة تختلف عن مواقع الرواة والمؤرخين الذين يكتبون التاريخ بدم بارد وأنامل لم تتسخ بغبار المعارك، وآذان لم تسمع صليل السيوف ويصدرون قرارات بشأن وقائع لاتؤثر على مصائرهم الشخصية تأثيراً مباشراً مثل المعاصرين.وإذا كان المتخيل ينشأ على المادة التاريخية أو الفعل المنجز بشكل عام، فهو لايعطي قيمة كبيرة للحقيقة التاريخية كحقيقة مطلقة، ولكن كاستعارة لشئ تسيد وانتفى وصار جزءاً من الذاكرة الجمعية ووظيفته في النص الروائي هي أقرب إلى الإيهام والاحتمال البعيد منها إلى الحقيقة الثابتة. لهذا فاختبار هذه الحقيقة ومساءلتها خارج السرد يعد ضرباً من الاستحالة.فواقع الرواية يبقى واقعاً خاصاً لاتنتجه إلا هي، حتى وإن اعتمد هذا الواقع على عالم خارجي حقيقي، فهو يتشكل داخل الروايةتشكلاً خاصاً يمنحه خصوصية ونوعاً من الانفصال عن الواقع الذي يمثله.
حين نتتبع بناء شخصية البطل (بخيت منديل) مثلاً،نجد طفولة بائسة انتهت باختطافه من بين أهله في جبال النوبة، ثم عرضه في سوق الرقيق في مشهد يحمل في طياته وصمة العار التي ألحقها ذلك الفعل القبيح بالإنسانية . يسهب الراوي في وصف معاينة مهينة للبضاعة لاتستثنى شيئاً من جسد الضحية الذي بات مملوكاً لأجنبي شاذ جنسياً يريد آلة تشبع شهوته المريضة. ويرسف بخيت في هذا الوضع خمسة أعوام ، ثم ينتقل سعيداً ليصبح عبداً منزلياً عند مالك جديد، وحين تهب عاصفة ثورة المهدي يصبح بخيت حراً ويلتحق بجيش المجاهدين فيقع في الأسر في مصر بعد هزيمة الجيش ليعود إلى العبودية.ثم يعود إلى بلاده حراً بمنحة من سيده المصري. ويعمل أعمالاً حرة عديدة من بينها العمل حفاراً للقبور. ويلتقي بالراهبة الأسيرة( ثيودورا) المصرية من أصل يوناني ،فيتعلق بها ويعشقها عشقاً من جانب واحد، ليلج عبودية من نوع جديد متعلقاً بوهم مستحيل، يقوده الوهم إلى سجن الساير في قلب أمدرمان بتهمة شرب الخمر والتجول في الشوارع بعد سماعه خبر مقتل الراهبة على يد من أغروها بمحاولة الفرار من الأسر ثم سلموها للقتلة، داخل سجنه يحصي الأيام للخروج والاقتصاص من القتلة، ويحصل بخيت على حريته هذه المرة بفعل الجيوش الأجنبية التي غزت البلاد وأعادت استعمارها،
((أتتهم الحرية على بوارج الغزاة وخيولهم، مع دخول الجيش المصري للبلاد)الرواية.
لكن الغزاة لم يحرروهم في الحقيقة لأن تحريرهم ليس من بين اهتماماتهم(دخل المصريون أمدرمان، وجاء إلى السجن جماعة من النصارى والمصريين، أطلقوا سراح بعض من يعرفون من أكابر الناس ، تركوهم)ص 11.
بعد خروجه من السحن ينفذ (بخيت) انتقامه ويقع أخيراً في قبضة مطارديه بعد قتل خمسة من ستة كانوا على لائحته الانتقامية. يبدو( بخيت منديل) شخصاً مسحوراً منجذباً خلف وهم من صنعه يريد الاستعاضة به عن حياة حقيقية لم تمنحه سوى العبودية والاضطهاد والغيبوبة الدائمة)فقد كان يعاقر الخمر بصورة دائمة(، ويبدو العاشق صوفياً في حلقة ذكر ، ويذكرنا وصفه بالدرويش برائعة الفيتوري:
(في حضرة من أهوى عبثت بي الأشواق
حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق
وزحمت براياتي وطبولي الآفاق
عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق
مملوكك لكني سلطان العشاق)
شخصيةمريسيلة:شخصية مرسومة بدقة شديدة في الرواية وهي تحب بخيت حباً صادقاً ، لكنه مشغول عنها بحبه المستحيل الوهمي للراهبة التي لاتحبه.مريسيلة كانت إيجابية وقادرة على الفعل أكثر من (ثيودورا) التي تمثل (الوهم).(مريسيلة) و(ثيودورا ) مثلتا ثنائية الواقع والوهم في الرواية.لذلك تنتمي ثيودورا إلى أرض الأساطير ( بلاد اليونان).بينما نجد مريسيلة متجذرة في الواقع،فهي أمة سوداء شابة و بائعة خمر (المريسة) وهي نوع من الخمور البلدية في السودان، وهي قارئة الودع ومدبرة صفقات الهوى وخاطبة الحلال والحرام، ومعينة الهاربين و تاجرة العقود والسلاسل والوصفات السحرية للحب، وهي منقذة سبع نساء من مشنقة السوق، وهي التي أذلت حامل راية أحد الأمراء أمام المسجد على مرأى من خليفة المهدي. وهي التي مكنت بخيت من الانتقام من خمسة ممن قتلوا ثيودورا فقد وفرت له السلاح والمعلومات.
شخصيةيونس عسكري الجهادية: غريم متوهم لبخيت منديل استغلت الراهبة ثيودورا مشاعره نحوها وطمعه في المال وصلتها القديمة به حيث كان حارساً لقافلة جلبتها من سواكن إلى بربر،وذلك لاستخدامه في الهروب من الأسر، لكن بخيت كان يظنها وقعت في غرامه ولم يفهم سبب توددها إلى يونس. يونس واقعي قال عن سبب دخوله السجن)جاء بي الطمع.( في إشارة إلى) محاولة تهريب الراهبة(.وهو مرسوم بعناية ومغروس في الرواية منذ الصفحات الأولى حيث رافق البطلة ثيودورا في رحلة القدوم من سواكن إلى بربر، ثم رافقها في رحلتها الأخيرة نحو السماء.
شخصية الشيخ إبراهيم ود الشواك:
شخصية انتهازية تلبس لكل حالة لبوسها ودينها هو الربح واللعب على كل الحبال خدمة لمصالحه؛ فقد غازل المستعمر وخدمه وغازل ثوار المهدية ثم تخلى عنهم، وغازل المستعمر عند سقوط المهدية . هذه الجملة الصادرة عنه تلخص شخصيته وتفكيره بدقة)لو كان لزاماً علينا أن نلبس طربوش النصارى ونغير لون جلودنا فلنفعل.المهدية راحت يا ولدي. هذا أمر الله(.ص 55. انتهى الشيخ قتيلاً على يد بخيت منديل انتقاماً لمقتل حواء )ثيودورا( التي اتخذها الشيخ محظية عندما وقعت في أسر الخليفة وحاول اغتصابها في بيته وحين صدته أخضعها لعملية ختان قسرية ، ثم شارك في قتلها حين حاولت الهرب من الأسر.وعلم بخيت بمقتلها مصادفة من سكران في بيت خمرة ثرثر بتفاصيل الجريمة ليدرك بخيت أنهم استغفلوه وجعلوه يحفر قبرها بيده جاهلاً من تكون،.تحول العبد إلى اداة قتل لامشاعر لها،فقد كان مؤمناً بمشروعية ما يفعل إيماناً مريضاً) أنا لست هارباً.أنا الموت.مني يفر الناس( ص97.يقول عن نفسه بعد جريمته الأخيرة:
(ما فعله كان وحشياً حتى هو ما كان ليتحمل ما فعل لو لم يكن في سبيلها.حين كان يرى الإعدام في مشنقة السوق كان يرجع كأرنب صغير. يهرب من وحشية العالم إلى دفء حضورها.) ص 94. لقد خرج من عبودية السجن والسادة إلى عبودية المحبوبة!!حين ظن أنه حقق ذاته ، كانت الحقيقة أنه دخل اغتراباً جديداً وفتح زنزانة في داخله.
هل يبصر الأعمى؟! ((شوق الدرويش) و
التناص مع رواية (العطر الفرنسي )لأمير تاج السر
تبدو شخصية بخيت منديل وتعلقه بثيودورا تجسيداً متجدداً لعلاقة الشرق والغرب، فهي علاقة مريضة عامرة بالأوهام المتبادلة ، وهى التجسيد الحي لعلاقة الشرق بالغرب التي عالجتها رواية موسم الهجرة للطيب صالح عبر تجسيد (مصطفى سعيد)في علاقاته النسائية التي فضحت كون الصراع هو خلفية العلاقة .
فحين خاطبه القاضي الإنكليزي متهماً إياه بأن في تكوينه الروحي بقعة مظلمة، كان ذلك امتداداً لعصور من الاستعلاء والتعصب والنظرة الاستعلائية الأوربية للآخرين.وتكرر الأمر نفسه،حين حاكمت (ثيودورا ) (بخيت منديل) بذات الاستعلاء في الرواية في أكثرمن موقع:تقول (ثيودورا) لبخيت منديل في الرواية بيأس مطلق وهي تحاول إفاقته من وهم حبه لها وحلمه بها:
(أنت لاتفهم .أنت أعمى)
في ذلك تصوير دقيق لحالة (بخيت منديل) العاجز عن رؤية الحواجز الواقعية القائمة بينهما، فهو عاجز عن رؤية حاجز الدين وحاجز اللون وحاجز الثقافة وحاجز الكراهية بين السجان والسجين،وهو عاجز حتى عن فهم الحقيقة المرة لما تقوله له بلطف( مستحيل أن يحب مثلي مثلك.)فهي في أعماقها كما يتضح من رسائلها إلى أهلها عنصرية تبغض السود ولاترى فيهم سوى برابرة وخراف سوداء للرب، ولا تتصور مطلقاً علاقة زواج تربطها به، فتقول(هي رسولة الرب في بلاد الغنم.هل تعشق القديسة الغنم؟)وتقول لنفسها(لاتريد أطفالا سوداً يؤمنون بدرويش ميت يحلمون بغزو العالم، لن يكون زوجها عبداً أسودَ)ص 418 الرواية. لكن العمى لم يفارق (بخيت منديل ( (عمى البصيرة( ، فأنفق عمره في مطاردة الوهم، وحين تبدد الوهم بموتها تحول إلى أداة للقتل ومدمن لطيف كذوب هو تجسيد لسيطرة الوهم عليه . وفي ذلك تصوير بديع لحالة التطرف الذي يعمي بصيرة وبصر من يقع في حبائله وتجسيد للإدمان المرضي، يبدو )بخيت منديل( في مطاردته للوهم مشابهاً لشخصية )علي جرجار( في رواية )العطر الفرنسي( للروائي السوداني )أمير تاج السر( المكتوبة في العام2010.فكلاهما وطني مغلوب على أمره تعلق بوهم خارجي هو امرأة أجنبية مع فارق بسيط هو أن الممرضة الفرنسية كاتيا في (العطر الفرنسي) كانت وهماً ليس له وجود مادي خارج مخيلة (علي جرجار) ، بينما كانت الراهبة )ثيودورا( حبيبة بخيت منديل المتوهمة في )شوق الدرويش( امرأة من لحم ودم، ولها وجود موضوعي خارج مخيلة بخيت وحبها هو الوهم. وانتهى البطلان إلى ارتكاب جريمة القتل نتيجة لسيطرة الوهم عليهما.وموضوع الروايتين واحد هو التعصب وأثره.مع العلم أن منهجية كتابة (شوق الدرويش) مماثلة لمنهجية كتابة (أمير تاج السر) في رواياته: (مهر الصياح)و(توترات القبطي) و (أرض السودان الحلو والمر)التي تعاطت التاريخ كمادة خام للرواية وأعملت الخيال فيه تحويراً وصناعة لرواية معاصرة ليست محاضرة في التاريخ وليست سيرة .لذلك لايمكن تسمية الروايات المذكورة بالروايات التاريخية، فتلك تسمية غير دقيقة، والصحيح أنها روايات من صنع خيال فسيح.فالرواية تبقى رواية بغض النظر عن موضوعها وزمن جريان أحداثها. عندما نشير إلى التناص هنا بوصفه مصطلحاً يستعمل للدلالة على (الحضور الفعلي لنص في آخر) فحسب النظرية كل نص هو بشكل و بآخر امتصاص وتحويل لنصوص أخرى، والرواية عامرة بصور متعددة للتناص. استحقت الرواية في تقديري فوزها بجائزة نجيب محفوظ للرواية في عام 2014، وتستحق المنافسة على لمركز الأول لجائزة البوكر العربية 2015 في مايو القادم.فالرواية عمل فني كبير بذل فيه كاتبه عصارة فكره وجهده ، وتسلح بمراجع شكلت مادته الخام التي سكب فيها قدراته وخبراته ، فخرجت الرواية إلى النور ترفل في ثوب قشيب وهي جديرة بالاطلاع عليها والبحث في بحورها. وقد انطوت معظم الانتقادات التي وجهت للرواية على خلط واضح بين كتابة الرواية وكتابة التاريخ، وحوكمت الرواية من خارج النص الروائي في خلط بين قول الشخصيات وقول المؤرخين والتاريخ . الرواية يجب النظر إليها في إطار النص الروائي .***إن الإضافة في الرواية التي تتكئ على التاريخ هي التي تجعل مايروى رواية وليس تاريخاً،ذلك أن جهد المبدع الأساسي يبرزه المتخيل الروائي، وتبرز قدراته الخلاقة وتتجلى في ما يفعله بالنص التاريخي فيحيله من برودة لمتاحف وسكونها، ومن جمود صفحات التاريخ والسيرة وزوايا رؤيته الضيقة إلى رحاب الفضاء السردي والإبداعي الفسيح. إن الرواية هي فعل إحياء لاحدود له ولاكوابح،إن التحوير يفرز حرية الإبداع ويطلق لخيال كاتب النص وقارئه العنان، ويجعل الكتابة إبداعاً لا تسجيلاً وتدويناً وجمعاً للأحداث مثل التحقيقات الصحفية، ويجعل القراءة لذة ومتعة، وخيالاً فسيحاً واكتشافاً دائماً، وليست قراءة كسولة يغذيها الفضول مثل قراءة صفحات الحوادث.لذلك فإن مجرد الاجتهاد لإثبات أن الرواية حورت التاريخ أو زيفته هو فعل معاد للإبداع مهما حسنت النوايا، وهو معركة في غير معترك.ذلك أن محاكمة الرواية تكون من داخلها ووفقاً لشروط إنتاجها وتقنيات كتابتها.
الخرطوم/4 ابريل 2015
الهوامش:
**الكاتب/ (حمور زيادة) ولد بأمدرمان في عام 1977. درس تقنية المعلومات وعلوم الحاسب الآلي وتخرج في عام 2002. عمل باحثاً في مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني، ثم عمل بالصحافة السودانية في صحف أجراس الحرية والمستقلة والجريدة واليوم التالي . ثم انتقل إلى القاهرة في 2009. صدرت له مجموعة قصصية 2008 ( سيرة أمدرمانية) ثم رواية ( الكونج 2010. (ومجموعة قصصية) النوم أسفل الجبل(. ثم رواية شوق الدرويش في 2014 التي فازت بجائزة نجيب محفوظ للرواية في العام نفسه، ثم دخلت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية ضمن ستة أعمال مرشحة للفوز بالبوكر العربية عام 2015 في العاصمة أبوظبي في مطلع مايو المقبل.
***الينابيع السحرية ومسرات الخيال/دراسة للكاتب ص156.
المراجع:
1/شوق الدرويش/ حمور زيادة/ دار العين/ 2014.
2/شعرية التناص في الرواية العربية/د.سليمة عذراوي/ دار رؤية القاهرة2012.
3/ العطر الفرنسي/ رواية /أمير تاج السر.الدار العربية للعلوم 2010.
4/ سعيد يقطين/ انفتاح النص الروائي/ المركز الثقافي العربي 2001.
5/ (الينابيع السحرية ومسرات الخيال) قراءة في أعمال أمير تاج السر/ صلاح الدين سرالختم علي/ منشورات ضفاف/بيروت/ منشورات الاختلاف/ الجزائر / دارالأمان/ الرباط.
بطل الرواية (بخيت منديل)والهجرة بين عبودية الجسد وعبودية الروح وقصور الوهم
بقلم / صلاح الدين سرالختم على
رواية(شوق الدرويش) للكاتب حمور زيادة** الصادرة عن دار العين في 2014 رواية تغازل المسكوت عنه وتقاربه بقوة من مواقع وزوايا مختلفة، يتموضع الراوي داخل الرواية التي تدور أحداثها في القرن التاسع عشر بمدينة أمدرمان إبان الثورة المهدية، يروي الراوي حكايات أناس عاديين عاشوا تلك الأيام في مزج فريد بين وقائع التاريخ المحورة روائياً وبين المتخيل الروائي المبدع بواسطة الكاتب،فالكاتب لايكتب تاريخاً بعين واحدة ولسان واحد كما ظن البعض ، بل يكتب رواية من وجهات نظر الشخوص التي تتحرك في فضائها السردي بحسب مواقعهم ومواقفهم من الأحداث المنسوجة من وحي الخيال بالاشتغال على وقائع تاريخية تمسي داخل العمل الروائي قطرة في بحر هائج، ولاتعود بعد دخولها في الرواية تاريخاً، بل عنصراً من عناصر العمل الفني تبرره الضرورة الفنية وتحدد كيفية التعامل معه مواقع الرواة وتموضعهم، فواقعة مثل ثورة المهدي يختلف النظر فيها وإليها باختلاف موقع المتحدث عنها والناظرإليها ، فوجهة نظر أمرائها لايمكن أن تتطابق مع وجهة نظر أسراها وقتلاها وأعدائها والعكس صحيح،الروائي ليس مطلوباً منه كتابة بيان تأييد ولا بيان إدانة بل المطلوب منه كتابة رواية وفق شروط كتابة الرواية،بما في ذلك التماهي مع موقع الراوي ولو كان قوله غير مقبولٍ من وجهة نظر مغايرة.فالقول داخل الرواية تبرره الضرورة الفنية ولا تبرره حقائق التاريخ المكتوبة من موقع مختلف وبمنهج مختلف.كان الكاتب جريئاً في رسم شخصيات مأزومة في الرواية مثل شخصيتي (بخيت منديل) و(الحسن الجريفاوي)اللتين باتتا على طرفي نقيض مع فكرة المهدية التي آمنتا بها وقاتلتا تحت راياتها بسبب صراع الفكرة مع الواقع، وكانت أزمة كل منهما مبررة ومنطقية في حدود شخصيتها والأثقال التي ترزح تحتها الشخصية وتئن ، ولم تكن الأزمة مفتعلة ولا مقحمة على الأحداث ومنطقها من خارجها.فبينما كان (بخيت) يرزح تحت وطأة وهم مستحيل هو حبه لراهبة أسيرة ذاقت ما ذاقت على يد الثورة كونها في المعسكر الآخر، فجعل بخيت الجهادي السابق في صفوف الثورة من نفسه أداة لسفك دماء من قتلوا حبيبته المتوهمة،منتقلاً عملياً إلى المعسكر الآخر، كان الحسن الجريفاوي يرزح تحت وطأة عبء حقيقي سببه جرائم حرب ارتكبها بحق ضحايا مدنية في (المتمة )وغيرها من الأمكنة أثناء ما كان يؤمن به بأنه جهاد مقدس.ظلت صورة تلك الطفلة التي أزهق روحها تلاحقه وتمنع عنه سكينة الروح التي بحث عنها في الجهاد، فتزعزع إيمانه بالفكرة.وجوه الشبه بين الحسن الجريفاوي وبخيت منديل كثيرة، فكلاهما آمن بالمهدية وقاتل تحت رايتها ثم كفر بها وعانى ، لكنهما يختلفان في أن الحسن كان حراً وآمن بالفكرة من موقع ديني وصوفي، بينما بخيت كان راسفاً في أغلال العبودية وآمن بالفكرة كبوابة للحرية الشخصية،هكذا ينزل الكاتب بالفكرة من المطلق المثالي المجرد إلى الواقعي الملموس الذي تجسده شخصيات من لحم ودم تنتمي إلى تلك الأيام فيصورها في حوارها وكفاحها في قلب الأحداث وتأثرها المباشر بها من مواقع مختلفة تختلف عن مواقع الرواة والمؤرخين الذين يكتبون التاريخ بدم بارد وأنامل لم تتسخ بغبار المعارك، وآذان لم تسمع صليل السيوف ويصدرون قرارات بشأن وقائع لاتؤثر على مصائرهم الشخصية تأثيراً مباشراً مثل المعاصرين.وإذا كان المتخيل ينشأ على المادة التاريخية أو الفعل المنجز بشكل عام، فهو لايعطي قيمة كبيرة للحقيقة التاريخية كحقيقة مطلقة، ولكن كاستعارة لشئ تسيد وانتفى وصار جزءاً من الذاكرة الجمعية ووظيفته في النص الروائي هي أقرب إلى الإيهام والاحتمال البعيد منها إلى الحقيقة الثابتة. لهذا فاختبار هذه الحقيقة ومساءلتها خارج السرد يعد ضرباً من الاستحالة.فواقع الرواية يبقى واقعاً خاصاً لاتنتجه إلا هي، حتى وإن اعتمد هذا الواقع على عالم خارجي حقيقي، فهو يتشكل داخل الروايةتشكلاً خاصاً يمنحه خصوصية ونوعاً من الانفصال عن الواقع الذي يمثله.
حين نتتبع بناء شخصية البطل (بخيت منديل) مثلاً،نجد طفولة بائسة انتهت باختطافه من بين أهله في جبال النوبة، ثم عرضه في سوق الرقيق في مشهد يحمل في طياته وصمة العار التي ألحقها ذلك الفعل القبيح بالإنسانية . يسهب الراوي في وصف معاينة مهينة للبضاعة لاتستثنى شيئاً من جسد الضحية الذي بات مملوكاً لأجنبي شاذ جنسياً يريد آلة تشبع شهوته المريضة. ويرسف بخيت في هذا الوضع خمسة أعوام ، ثم ينتقل سعيداً ليصبح عبداً منزلياً عند مالك جديد، وحين تهب عاصفة ثورة المهدي يصبح بخيت حراً ويلتحق بجيش المجاهدين فيقع في الأسر في مصر بعد هزيمة الجيش ليعود إلى العبودية.ثم يعود إلى بلاده حراً بمنحة من سيده المصري. ويعمل أعمالاً حرة عديدة من بينها العمل حفاراً للقبور. ويلتقي بالراهبة الأسيرة( ثيودورا) المصرية من أصل يوناني ،فيتعلق بها ويعشقها عشقاً من جانب واحد، ليلج عبودية من نوع جديد متعلقاً بوهم مستحيل، يقوده الوهم إلى سجن الساير في قلب أمدرمان بتهمة شرب الخمر والتجول في الشوارع بعد سماعه خبر مقتل الراهبة على يد من أغروها بمحاولة الفرار من الأسر ثم سلموها للقتلة، داخل سجنه يحصي الأيام للخروج والاقتصاص من القتلة، ويحصل بخيت على حريته هذه المرة بفعل الجيوش الأجنبية التي غزت البلاد وأعادت استعمارها،
((أتتهم الحرية على بوارج الغزاة وخيولهم، مع دخول الجيش المصري للبلاد)الرواية.
لكن الغزاة لم يحرروهم في الحقيقة لأن تحريرهم ليس من بين اهتماماتهم(دخل المصريون أمدرمان، وجاء إلى السجن جماعة من النصارى والمصريين، أطلقوا سراح بعض من يعرفون من أكابر الناس ، تركوهم)ص 11.
بعد خروجه من السحن ينفذ (بخيت) انتقامه ويقع أخيراً في قبضة مطارديه بعد قتل خمسة من ستة كانوا على لائحته الانتقامية. يبدو( بخيت منديل) شخصاً مسحوراً منجذباً خلف وهم من صنعه يريد الاستعاضة به عن حياة حقيقية لم تمنحه سوى العبودية والاضطهاد والغيبوبة الدائمة)فقد كان يعاقر الخمر بصورة دائمة(، ويبدو العاشق صوفياً في حلقة ذكر ، ويذكرنا وصفه بالدرويش برائعة الفيتوري:
(في حضرة من أهوى عبثت بي الأشواق
حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق
وزحمت براياتي وطبولي الآفاق
عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق
مملوكك لكني سلطان العشاق)
شخصيةمريسيلة:شخصية مرسومة بدقة شديدة في الرواية وهي تحب بخيت حباً صادقاً ، لكنه مشغول عنها بحبه المستحيل الوهمي للراهبة التي لاتحبه.مريسيلة كانت إيجابية وقادرة على الفعل أكثر من (ثيودورا) التي تمثل (الوهم).(مريسيلة) و(ثيودورا ) مثلتا ثنائية الواقع والوهم في الرواية.لذلك تنتمي ثيودورا إلى أرض الأساطير ( بلاد اليونان).بينما نجد مريسيلة متجذرة في الواقع،فهي أمة سوداء شابة و بائعة خمر (المريسة) وهي نوع من الخمور البلدية في السودان، وهي قارئة الودع ومدبرة صفقات الهوى وخاطبة الحلال والحرام، ومعينة الهاربين و تاجرة العقود والسلاسل والوصفات السحرية للحب، وهي منقذة سبع نساء من مشنقة السوق، وهي التي أذلت حامل راية أحد الأمراء أمام المسجد على مرأى من خليفة المهدي. وهي التي مكنت بخيت من الانتقام من خمسة ممن قتلوا ثيودورا فقد وفرت له السلاح والمعلومات.
شخصيةيونس عسكري الجهادية: غريم متوهم لبخيت منديل استغلت الراهبة ثيودورا مشاعره نحوها وطمعه في المال وصلتها القديمة به حيث كان حارساً لقافلة جلبتها من سواكن إلى بربر،وذلك لاستخدامه في الهروب من الأسر، لكن بخيت كان يظنها وقعت في غرامه ولم يفهم سبب توددها إلى يونس. يونس واقعي قال عن سبب دخوله السجن)جاء بي الطمع.( في إشارة إلى) محاولة تهريب الراهبة(.وهو مرسوم بعناية ومغروس في الرواية منذ الصفحات الأولى حيث رافق البطلة ثيودورا في رحلة القدوم من سواكن إلى بربر، ثم رافقها في رحلتها الأخيرة نحو السماء.
شخصية الشيخ إبراهيم ود الشواك:
شخصية انتهازية تلبس لكل حالة لبوسها ودينها هو الربح واللعب على كل الحبال خدمة لمصالحه؛ فقد غازل المستعمر وخدمه وغازل ثوار المهدية ثم تخلى عنهم، وغازل المستعمر عند سقوط المهدية . هذه الجملة الصادرة عنه تلخص شخصيته وتفكيره بدقة)لو كان لزاماً علينا أن نلبس طربوش النصارى ونغير لون جلودنا فلنفعل.المهدية راحت يا ولدي. هذا أمر الله(.ص 55. انتهى الشيخ قتيلاً على يد بخيت منديل انتقاماً لمقتل حواء )ثيودورا( التي اتخذها الشيخ محظية عندما وقعت في أسر الخليفة وحاول اغتصابها في بيته وحين صدته أخضعها لعملية ختان قسرية ، ثم شارك في قتلها حين حاولت الهرب من الأسر.وعلم بخيت بمقتلها مصادفة من سكران في بيت خمرة ثرثر بتفاصيل الجريمة ليدرك بخيت أنهم استغفلوه وجعلوه يحفر قبرها بيده جاهلاً من تكون،.تحول العبد إلى اداة قتل لامشاعر لها،فقد كان مؤمناً بمشروعية ما يفعل إيماناً مريضاً) أنا لست هارباً.أنا الموت.مني يفر الناس( ص97.يقول عن نفسه بعد جريمته الأخيرة:
(ما فعله كان وحشياً حتى هو ما كان ليتحمل ما فعل لو لم يكن في سبيلها.حين كان يرى الإعدام في مشنقة السوق كان يرجع كأرنب صغير. يهرب من وحشية العالم إلى دفء حضورها.) ص 94. لقد خرج من عبودية السجن والسادة إلى عبودية المحبوبة!!حين ظن أنه حقق ذاته ، كانت الحقيقة أنه دخل اغتراباً جديداً وفتح زنزانة في داخله.
هل يبصر الأعمى؟! ((شوق الدرويش) و
التناص مع رواية (العطر الفرنسي )لأمير تاج السر
تبدو شخصية بخيت منديل وتعلقه بثيودورا تجسيداً متجدداً لعلاقة الشرق والغرب، فهي علاقة مريضة عامرة بالأوهام المتبادلة ، وهى التجسيد الحي لعلاقة الشرق بالغرب التي عالجتها رواية موسم الهجرة للطيب صالح عبر تجسيد (مصطفى سعيد)في علاقاته النسائية التي فضحت كون الصراع هو خلفية العلاقة .
فحين خاطبه القاضي الإنكليزي متهماً إياه بأن في تكوينه الروحي بقعة مظلمة، كان ذلك امتداداً لعصور من الاستعلاء والتعصب والنظرة الاستعلائية الأوربية للآخرين.وتكرر الأمر نفسه،حين حاكمت (ثيودورا ) (بخيت منديل) بذات الاستعلاء في الرواية في أكثرمن موقع:تقول (ثيودورا) لبخيت منديل في الرواية بيأس مطلق وهي تحاول إفاقته من وهم حبه لها وحلمه بها:
(أنت لاتفهم .أنت أعمى)
في ذلك تصوير دقيق لحالة (بخيت منديل) العاجز عن رؤية الحواجز الواقعية القائمة بينهما، فهو عاجز عن رؤية حاجز الدين وحاجز اللون وحاجز الثقافة وحاجز الكراهية بين السجان والسجين،وهو عاجز حتى عن فهم الحقيقة المرة لما تقوله له بلطف( مستحيل أن يحب مثلي مثلك.)فهي في أعماقها كما يتضح من رسائلها إلى أهلها عنصرية تبغض السود ولاترى فيهم سوى برابرة وخراف سوداء للرب، ولا تتصور مطلقاً علاقة زواج تربطها به، فتقول(هي رسولة الرب في بلاد الغنم.هل تعشق القديسة الغنم؟)وتقول لنفسها(لاتريد أطفالا سوداً يؤمنون بدرويش ميت يحلمون بغزو العالم، لن يكون زوجها عبداً أسودَ)ص 418 الرواية. لكن العمى لم يفارق (بخيت منديل ( (عمى البصيرة( ، فأنفق عمره في مطاردة الوهم، وحين تبدد الوهم بموتها تحول إلى أداة للقتل ومدمن لطيف كذوب هو تجسيد لسيطرة الوهم عليه . وفي ذلك تصوير بديع لحالة التطرف الذي يعمي بصيرة وبصر من يقع في حبائله وتجسيد للإدمان المرضي، يبدو )بخيت منديل( في مطاردته للوهم مشابهاً لشخصية )علي جرجار( في رواية )العطر الفرنسي( للروائي السوداني )أمير تاج السر( المكتوبة في العام2010.فكلاهما وطني مغلوب على أمره تعلق بوهم خارجي هو امرأة أجنبية مع فارق بسيط هو أن الممرضة الفرنسية كاتيا في (العطر الفرنسي) كانت وهماً ليس له وجود مادي خارج مخيلة (علي جرجار) ، بينما كانت الراهبة )ثيودورا( حبيبة بخيت منديل المتوهمة في )شوق الدرويش( امرأة من لحم ودم، ولها وجود موضوعي خارج مخيلة بخيت وحبها هو الوهم. وانتهى البطلان إلى ارتكاب جريمة القتل نتيجة لسيطرة الوهم عليهما.وموضوع الروايتين واحد هو التعصب وأثره.مع العلم أن منهجية كتابة (شوق الدرويش) مماثلة لمنهجية كتابة (أمير تاج السر) في رواياته: (مهر الصياح)و(توترات القبطي) و (أرض السودان الحلو والمر)التي تعاطت التاريخ كمادة خام للرواية وأعملت الخيال فيه تحويراً وصناعة لرواية معاصرة ليست محاضرة في التاريخ وليست سيرة .لذلك لايمكن تسمية الروايات المذكورة بالروايات التاريخية، فتلك تسمية غير دقيقة، والصحيح أنها روايات من صنع خيال فسيح.فالرواية تبقى رواية بغض النظر عن موضوعها وزمن جريان أحداثها. عندما نشير إلى التناص هنا بوصفه مصطلحاً يستعمل للدلالة على (الحضور الفعلي لنص في آخر) فحسب النظرية كل نص هو بشكل و بآخر امتصاص وتحويل لنصوص أخرى، والرواية عامرة بصور متعددة للتناص. استحقت الرواية في تقديري فوزها بجائزة نجيب محفوظ للرواية في عام 2014، وتستحق المنافسة على لمركز الأول لجائزة البوكر العربية 2015 في مايو القادم.فالرواية عمل فني كبير بذل فيه كاتبه عصارة فكره وجهده ، وتسلح بمراجع شكلت مادته الخام التي سكب فيها قدراته وخبراته ، فخرجت الرواية إلى النور ترفل في ثوب قشيب وهي جديرة بالاطلاع عليها والبحث في بحورها. وقد انطوت معظم الانتقادات التي وجهت للرواية على خلط واضح بين كتابة الرواية وكتابة التاريخ، وحوكمت الرواية من خارج النص الروائي في خلط بين قول الشخصيات وقول المؤرخين والتاريخ . الرواية يجب النظر إليها في إطار النص الروائي .***إن الإضافة في الرواية التي تتكئ على التاريخ هي التي تجعل مايروى رواية وليس تاريخاً،ذلك أن جهد المبدع الأساسي يبرزه المتخيل الروائي، وتبرز قدراته الخلاقة وتتجلى في ما يفعله بالنص التاريخي فيحيله من برودة لمتاحف وسكونها، ومن جمود صفحات التاريخ والسيرة وزوايا رؤيته الضيقة إلى رحاب الفضاء السردي والإبداعي الفسيح. إن الرواية هي فعل إحياء لاحدود له ولاكوابح،إن التحوير يفرز حرية الإبداع ويطلق لخيال كاتب النص وقارئه العنان، ويجعل الكتابة إبداعاً لا تسجيلاً وتدويناً وجمعاً للأحداث مثل التحقيقات الصحفية، ويجعل القراءة لذة ومتعة، وخيالاً فسيحاً واكتشافاً دائماً، وليست قراءة كسولة يغذيها الفضول مثل قراءة صفحات الحوادث.لذلك فإن مجرد الاجتهاد لإثبات أن الرواية حورت التاريخ أو زيفته هو فعل معاد للإبداع مهما حسنت النوايا، وهو معركة في غير معترك.ذلك أن محاكمة الرواية تكون من داخلها ووفقاً لشروط إنتاجها وتقنيات كتابتها.
الخرطوم/4 ابريل 2015
الهوامش:
**الكاتب/ (حمور زيادة) ولد بأمدرمان في عام 1977. درس تقنية المعلومات وعلوم الحاسب الآلي وتخرج في عام 2002. عمل باحثاً في مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني، ثم عمل بالصحافة السودانية في صحف أجراس الحرية والمستقلة والجريدة واليوم التالي . ثم انتقل إلى القاهرة في 2009. صدرت له مجموعة قصصية 2008 ( سيرة أمدرمانية) ثم رواية ( الكونج 2010. (ومجموعة قصصية) النوم أسفل الجبل(. ثم رواية شوق الدرويش في 2014 التي فازت بجائزة نجيب محفوظ للرواية في العام نفسه، ثم دخلت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية ضمن ستة أعمال مرشحة للفوز بالبوكر العربية عام 2015 في العاصمة أبوظبي في مطلع مايو المقبل.
***الينابيع السحرية ومسرات الخيال/دراسة للكاتب ص156.
المراجع:
1/شوق الدرويش/ حمور زيادة/ دار العين/ 2014.
2/شعرية التناص في الرواية العربية/د.سليمة عذراوي/ دار رؤية القاهرة2012.
3/ العطر الفرنسي/ رواية /أمير تاج السر.الدار العربية للعلوم 2010.
4/ سعيد يقطين/ انفتاح النص الروائي/ المركز الثقافي العربي 2001.
5/ (الينابيع السحرية ومسرات الخيال) قراءة في أعمال أمير تاج السر/ صلاح الدين سرالختم علي/ منشورات ضفاف/بيروت/ منشورات الاختلاف/ الجزائر / دارالأمان/ الرباط.

No comments:
Post a Comment