Friday, August 23, 2013

رواية العطر الفرنسي لأمير تاج السر روايةالتجول فى مرايا الاحلام/ بقلم : صلاح الدين سرالختم على


مدخل \ واقعيةنموذجية 


الدخول فى عالم الروائي السودانى الأبرز (امير تاج السر) دخول فى عوالم ثرية ومدهشة ، عوالم عامرة بالفانتازيا والكاريكاتيرات الساخرة والدموع المضمرة فوق وجوه ترتسم عليها الضحكة والابتسامة ، عوالم تشابه البيئة السودانية فى كل شيء 
حتى ذلك المظهر الخارجى المخادع للشخصية السودانية ،تلك الملامح الصارمة ، الجدية البارزة ، الملبس البسيط المتواضع ، الخجل الشديد ، الصوت الخفيض ، الجلوس فى المقاعد الخلفية وقبول دور (العادى جدا) وعندما يقترب الناس من صاحب تلك الصفات ينداح جبل الجليد ويبرز من تحته عالم آخر ، دفء حميم ، علم غزير ، مكانة مرموقة ، روح ملهمة وفريدة ، ونجم مكانه كبد السماء ويزيده وجوده بباطن الأرض بريقا كالذهب ونفيس المعادن ، إنها تلك الروح الصوفية المنكرة للذات المتدلهة فى حب الذات الإلهية والمعطونة فى بحرمن التواضع وإنكار الذات ، تلك الروح تركت بصمتها فى الشخصية السودانية والثقافة السودانية ، وتشكل فضاءات أمير تاج السر الإبداعية امتدادا طبيعيا ووريثا شرعيا لتلك الروح .
تبدأ الرواية عنده من نقطة بعيدة ، تبدو الشخصية الروائية أفقا بعيدا غامضا، نطفة صغيرة تتخلق ببطء ، بقعة صغيرة من الضوء ، ثم تتوهج تدريجيا حتى تمتلك المكان والفضاء والمخيلة ، وينفتح عالمها الداخلى الغنى أمامنا بفضل المخيلة الإبداعية لأميرالرواية السودانيةأمير تاج السر فنكاد نرى الدم المتيبس فى عروقها ونكاد نلامس شعورها بالخيبة لحظات انكسارها وانسحاقها وشعورها بالفرحة في لحظات شعورها بالطمأنينة والتفوق ونكاد نلامس أحلامها التى تطوف بمخيلتها ونراها واقعا متوهجا نتقاسمه معها فى فرح ونسقط عليه بعضا من أحلامنا وبعضا من إحزاننا وبعضا من أشواقنا النائمة التى أيقظتها أشواق الشخصية الروائية ، يكف المشهد الروائي عن ان يكون مشهدا موصوفا فى رواية مكتوبة ، تلتحم الشخصية المتخيلة وزمن قصها المتخيل مع زماننا الحاضر ولحظتنا الراهنة والمنقضية ، تتحد ذاكرتنا وذاكرة الراوى وذاكرة الشخصية فتولد الشخصية من جديد بداخلنا بشكل أكثر ثراء ووسامة وغنى وحقيقية ، نسير معها فى الأزقة ونلتقى معها من تلتقى بهم من بشر وأشجار وشوارع ترابية وشوارع أسفلت لامعة وضجيج حوارى ونرى معها المشاهد التى تعبرها أثناء سيرها جيئة وذهابا كاملة ، ونشم رائحة التراب ، رائحة المجارى ، رائحة البول ، رائحة العرق البشرى النفاذة ، روائح الأطعمة ، روائح العطور التى يرشها العابرون على أجسادهم وثيابهم ، نسمع صوت السيارات المسرعة وصراخ المتشاجرين فى طريق عام ، ونكاد نرى عروقهم النافرة ودمائهم السائلة ،هكذا نلج عالم (أمير تاج السر) بهذا الثراء وهذه القدرة على التماهى مع الواقع وجعله شخصا من شخوص الرواية ، فالواقع عنده هو الذي يلج الرواية وليس العكس ، والشخوص عنده ليست موصوفة بل هى محسوسة وحية وقادرة على الخروج من أسر الكلمة والصفحات والمشى فى الشوارع ومصافحة القراء فردا فردا والتحاور معهم وكسر كل الحواجز والأزمنة ... ان الرواية عند (أمير تاج السر) هى فعل انكسار الأزمنة والحواجز وانفتاح الذاكرة بين القارىء والكاتب والمتخيل الروائى على بعضها البعض فى ولادة طبيعية ليس فيها عسر أوصنعة وليس فيها حاجة لولادة قيصرية أو طلق صناعى ، ان النص هنا يملك مفاتيح جميع الأبواب المغلقة والمواربة ، انه نص ساحر يرتدى فيه الكاتب طاقية إخفاء فريدة تجعله موجودا فى كل زاوية وركن ولكنه غير مرئى وغير محسوس الوجود وبغير حاجة لانكسار الازمنة بين زمن قص وزمن واقعى ، يمسى المشهد الروائى مثل دراما سينمائية تتدفق فى تتابع كأنها قطعة من الحياة تجرى أمام ناظريها ، وذلك دون حاجة الى وجود شاشة ودون حاجة الى إطفاءالأنوار .
ان رواية امير تاج السر هى التجسيد العملى التطبيقى لمقولات نقدية كثيرة مثل المقولةالروائى ، رغم البعد التخييلى الذى يطبع عمله سيتوخى ما امكن تمثيل الواقع والتعبير عنه ، لذلك نجد (البعد الواقعى) ما يسم عمل الروائى بالدرجة الأولى ، انه يخلق واقعا خياليا لكن من مقومات الواقع الحقيقى . ) هذا المقتطف للناقد سعد يقطين ، لن نجد تمثيلا وتطبيقا له أفضل من اعمال امير تاج السر بصفة عامة ورواية العطر الفرنسى بصفة خاصة . 
نذهب الى القول اذا بأن رواية العطر الفرنسى رواية واقعية ، والواقعية مصطلح متعدد المدلولات فهو يمكن ان يعنى تيارا أدبيا ساد فى القرن التاسع عشر ، وأما انطباعا بالواقع يوكده النص انطلاقا من عدد معين من الطرائق.
ونأخذفى الحسبان فى هذه الدراسة المعنى الثانى من دون ان ننسى طبعا ان الروائيين الواقعيين والطبيعيين صنفوا وصاغوا نظرية هذه الطرائق التى تم إدخالها فى الرواية ويجب ان ننتبه الى ان الامر متعلق بمقارنة بين واقعين متنافرين : الواقع اللغوى للنص ، والواقع الخارج عن النص سواء اكان لغويا ام غير لغوى ، عليه فان إيهام المحاكاة ليس بطبيعى ، بل هو نتيجة عملية بناء يتم انطلاقا من محاور مميزة هى ما يلى :-
1\ تطبيع السرد : يعنى ذلك ان الكاتب يعمل على ان يكون السرد مبررا للاعتقاد بتخييل مقدم على أساس انه حقيقى . حيث يصير السرد شفافا كما لو ان الحكاية ماثلة أمام أعيننا من دون وسيط ويغدو وجودها وجود حدث واقعى ، كل رواية واقعية تقدم نفسها بوصفها (شريحة من الحياة) مقتطفة من من سير (أشخاص عاديين واقعيين) ينتمون الى عالمنا ، وعليها بغية تحقيق هذا ان تعطى انطباعا بأنها ليست الا جزءا من الزمن مزودا بفترات (ماقبل) و (مابعد) الموجودتين خارج فضاء القصة .
اذا فالنص يحيل عادة الى (ماضى) ما (ذكريات .... احداث سابقة) كما يرسل الى مستقبل مستشرف الى حد ما (حدث ... اسقاطات- احداث لاحقة ) .
.
2/ويقوم الاثر الواقعى ايضا على هاجس احتمال الحدوث (فى العطر الفرنسى قاد هاجس احتمال الحدوث البطل من اول الرواية الى اخرها الى الجنون – كان المسرح مهيئا على امتداد الرواية للنهاية الفاجعة لعلى جرجار بطل الرواية وهو وقوفه على عتبات الجنون المطبق) وهذا ملمح أساسي من ملامح الواقعية فى الرواية .
- فنيا يوحى الكاتب باحتمال حدوث حدث معين ويعد مبررات منطقية لحدوثه ويميل الى استبعاد أشكال التفكك والغموض الذى يميز الفانتازيا ، فقراءة متعمقة للعطر الفرنسى مقارنة مع توترات القبطى وهى رواية رائعة للكاتب نفسه نجد أنفسنا أمام مدرستين مختلفتين : فانتازيا وأساطير فى توترات القبطى تجعل كل شىء يتراقص بعيدا عن الواقع ليوهم بلا واقعيته ، بينما نجد واقعية صارمة لا تعرف الغموض والتفكيك فى (العطر الفرنسى) ، ويكون الشغل الشاغل للكاتب فى الرواية الواقعية هو تفكيك الشخصيات وإدراك دوافعها ، وهذا يحدد مكان البطل بالمعنى التقليدى ويقود الى إعادة توزيع الأدوار و – الايجابية والسلبية على اكبر عدد ممكن من الشخصيات ، باختصار يلجأ النص الى إسهاب شارح ، وامتدادا لذلك يحرص الكاتب فى الرواية الواقعية الى تجنب الأحوال والأشياء غير الموثوق بها فى القصة والتى قد تجعل الأحداث غير مبررة او غير محتملة الحدوث ، ويحرص الروائى على تقديم الشروح بطريقة غير مباشرة للقارىء ، ويبدو امير تاج السر مدركا وواعيا لهذه الشروط الفنية للرواية الواقعية ومستجيبا لها بشكل مثالى فى رواية (العطر الفرنسى)
(على جرجار)ضميرأمة لا تموت وإن جنت
والعطر الفرنسى نص مخادع ومحكم

فى منتصف تسعينات القرن المنصرم وفى هجير لافح فى قلب الخرطوم كنت امشى متعجلا صوب صحيفة قلب الشارع حيث التقيت بالناقد الكبير مجذوب عيدروس وهو يتصبب عرقا بعوده النحيل ووجهه الباسم ، سالمته وسالمنى بمحبة وانتحينا جانبا جوار السفارة الامريكية غير عابئين بكاميراتها المشهرة ، دار حوار كان مجذوب متوهجا فيه وهو يحدثنى عن فتح جديد فى الرواية السودانية اسمه (امير تاج السر) سمعت يومها لاول مرة عن (كرمكول) و (مرايا ساحلية) وألتصق الاسم بذاكرتى فمجذوب عيدروس لا يمدح مجاملا أبدا ، وأدرك ألان بعد كل تلك السنين كم كان محقا وهو يصفه بذلك الوصف الذى لم يبق بذاكرتى منه سوى المعنى الذى علق بذاكرتى (فتح جديد) .
أردت عمدا الافتتاح بهذه اللقطة من الذاكرة ، فرواية (العطر الفرنسى) لأمير الرواية السودانية المعاصرة (امير تاج السر) رواية جديرة بالاطلاع عليها ، فهى منجز روائي متميز مكتوبة بنفس واحد متصاعد من البداية الى النهاية ، متمهلا فى البدء لكنه تمهل سيمفونية من سيمفونيات بتهوفن الكلاسيكية الشهيرة ، تبدأ الموسيقى حالمة خافتة ثم تتصاعد وتيرتها رويدا رويدا لتمسى صاخبة هائجة كأمواج محيط تتقاذف مركبا صغيرا تعيسا فى قلب عاصفة هوجاء ، تمسك بك الرواية من الوهلة الأولى ولا تفلتك ولا تسمح لك بالتوقف أو التقاط الأنفاس ابدا فتجد نفسك تلهث خلف السطور والصفحات والكلمات منذ افتتاح الرواية بذلك المشهد الذى يظهر فيه (على جرجار) وهو يتلقى الخبر الذى يزلزل اركان سكينته ويعصف بها على إمتداد الرواية ، والرواية هى فى الحقيقة عطر سودانى خالص ليس فيها من الفرنسية شىء سوى انها العنصر الخارجى الذى اقحم فى مخيلة البطل بواسطة ممثل السلطة فى حى (غائب) الفقير الواقع فى هامش المدينة أقحم ممثل السلطة (مبروك) (العطر الفرنسى) ذلك الوهم المدمر فى مخيلة (على جرجار) بطل الرواية لشيء فى نفس (مبروك) فدفعه ذلك الوهم الى أعتاب الجنون والذهول وقبلا (الجريمة) ، ان العطر الفرنسى عنصر خارجى تم زرعه عمدا فى مخيلة اكبر صاحب خيال جامح فى حى غائب (على جرجار) ليتكفل بدوره بنشر ذلك الوهم فى الحى الفقير ليمسى الوهم مغنطيسا ينجذب اليه (الفقراء المسحوقين) ويجعلوا منه افقا مرتجى بديلا عن (اللاافق) واملا ساحرا بديلا لليأس والأبواب المغلقة ، وهكذا يرسم أمير تاج السر ببراعة وأحكام تفاعل أحلام أهل المكان (حى غائب) وهو حى المغيبين عمدا عن الحياة بواسطة السلطة الزمنية وممثليها المنغمسين فى ممارسة اللذات المحرمة ، المثال المقدم هنا هو (مبروك) الذى جعل من مقر عمله مقرا سريا لشهواته وملذاته ليحصد ترقيا فى سلم المجد من مسوؤل حكومى عن حى الى وزير مسوؤل عن مصير امة بأكملها ومؤهله الوحيد هو كونه فاسدا فسادا لا يداريه عن الناس ، بل يجاهر به مجاهرة المجاهر بالمعصية ، يورد امير تاج السر ذلك فى الرواية ببراعة دون تصريح عبر مشهد اخنزنته ذاكرة (على جرجار) 
الحديدية التي ضاقت فى نهاية الرواية بما تحمل فأنفجرت نتيجة الحمل الزائد عليها ، يورد على جرجار من ذاكرته ملامح شخصية (مبروك الحكومى) فى مقاطع مختارة بعناية : (كان الحكومى مبروك جالسا على مكتبه الواسع فى مبنى المحافظة ، حين دخلت عليه بلا استئذان بجانبه سكرتيرته الاثيوبية التى كانت عاملة فى محل لتصفيف الشعر وسط السوق حين التقطها .)

(كانت اعلى رأسه صور عديدة تمثل رئيس البلاد حيث افتتح محطة لتحلية مياه الشرب فى المدينة ، ولم يخرج من جوفها ماء حلو بتاتا) .
(اخبرنى بأن تأصيل الاشاعات ونشرها فى الاحياء الفقيرة مهنة رسمية لدى الدولة ، وان النبوى كان يتلقى راتبا شهريا على ذلك ، انا اخبرك بذلك لانك صديق ...)
(ثم سلمنى رزمة من المال ملفوفة بورق شفاف أخرجها من جيب قميصه متعدد الجيوب ، ولا أدرى إن كانت من ماله الخاص أم من بند حكومى منسى يستطيع مغازلته متى شاء) .ويبلغ المشهد ذروته وسنامه حيث يصف على جرجار غرفة مبروك الحكومى السرية الملحقة بمكتبه المخصصة لممارسة حياته الخاصة الماجنة (مرتبة بشدة ، بها طاولة من الزجاج اللامع ، وعدة كراسى جلدية مريحة ، ولحاف من الاسفنج مفروش على الارض بعناية ، إضافة الى خزانة ، وعبر الباب نصف المفتوح للخزانة الخشبية لمحت ما بدا معرضا نسائيا ممتلئا بالشبق ختى القاع ، ثمة قمصان نوم حمراء وزرقاء وبنفسجية ، وحمالات صدر منتفخة كأنها تحتوى صدورا يانعة .) ، ويصف على جرجار الاحساس الذى إنتابه بعد رؤية المشهد السابق فيقول (خرجت وقد صغر الوطن فى عينى لدرجة اننى فكرت فى كتابة رسالة فورية للرحالة حاكم عذابو ،وإخباره باستقالتى من حزب (وطنك الكبير) الذى أسسه ) . ان ملامح رجل السلطة الموصوف فى الرواية حسب المشاهد السابقة هى انه :
1: نزواته الشخصية تحكم حتى مكتبه وخزانة اسراره فهو لا يتورع عن جعل اجنبية سكرتيرة له لمواصفات لا علاقة لها بالمؤهلات العلمية والاخلاقية .
2: يعمل على بث الاشاعات الكاذبة وسط السكان الفقراء لالهائهم بها عن السلطة ويدفع رشوة مقابل ذلك ولا يتورع عن التصريح بتلك الاسرار العليا للدولة ببجاحة وتساهل لا يليقان برجل دولة . 
3: يلجأ للرشوة لتحقيق اهدافه ، ويتصرف فى المال العام بلا حسيب او رقيب ، كأنه ظل الله فى الارض وتنمحى الحدود بين ماله الخاص والمال العام .
4: يخصص غرفة فى مبنى حكومى يسميها المخزن لنزواته الخاصة وغزواته فى عالم الحريم بشكل فاجر ومستفز الى حد جعل (على جرجار)يكفر بالوطن ، هنا نكتشف ان ما دفع على جرجار الى حافة الجنون ليس مرضا عضويا او نفسيا بل مثل هذه الصدمات المتتالية وبؤوس الواقع الذى يعيش فيه وعجزه فى ظل هذا كله عن عيش حياة طبيعية ، ان القوى العقلية والنفسية لعلى جرجار ذهبت ثمنا لمجون هولاء كما ذهبت صحته الجسدية واحلامه بالزواج والاستقرار والمياه العذبة فى بلاد نهر النيل ، ان صورة الرئيس فى غرفة الحكومى وهو يفتتح محطة تحلية المياه التى لم تنجح فى تحلية نقطة ماء هى وثيقة ادانة لنظام اجتماعى واقتصادى وسياسى قائم على اكذوبة ووهم يتم تغذيته بالاشاعات المنشورة بمقابل يدفع لناشريها ، ان كل ما تسوقه الحكومات من دعايات وآمال كذوبة هو فى حقيقته أوهام وأشاعات ضارة تقود الشعب الى حافة الجنون وهاوية الفقر كما قادت (على جرجار) ضمير الشعب الحى الى الجنون ،ان (على جرجار) هوالشاهد الصامت الذى يجول فى الامكنة ودواخل الشخوص ومواقع الاحداث ككاميرا متنقلة تنقل كل ما تراه ، لكنها تتوجع معه وتهتز وتخور قواها ، كأنى به حنظلة (ناجى العلى) بيديه المعقودتين خلف ظهره والأسلاك الشائكة المحيطة به وحجمه الضئيل يمارس محاكمته الموجعة لعصره وزبانيته ويعتصر من روحه المتصدعة أحلاما بطعم النبيذ وحلاوة الشهد ، لا يكاد يتذوقها فى أحلامه حنى تنبح الكلاب فى الأحلام وتطاردها بقسوة وتمزق ملابسه وأحشائه بحثا عن كل قطرة عسل رطبت شفاهه المتشققة ، ان (على جرجار) النازف حتى الموت دما ومشاعرا هو صورة مصغرة لأمة تتوجع وتداس بالاحذية الغليظة وتقهر ويعاد إحراقها كل صباح لكنها تنبت من جديد وهى تقاوم التصحر والموت مثل اشجار السيال والصبار فى صحارى السودان الموحشة ، أمة قد تدفع الى حافة الجنون لكنها لا تموت ولا تخون ولا تستسلم وتظل تقاوم وتحلم بالافضل ، لهذا كانت نهاية (على جرجار) هى التجول فى مدن الذهول والاستعاضة عن المدن الموبؤة بالمدن المشتهاة وعن الواقع بالأحلام . تطابق فعل على جرجار مع دعوته الاولى التى أطلقها مناديا بالسباحة فى الخيال لمواجهة الواقع الصلب والقاسى حيث إدرك ان تغييره ربما يكون أفقا بعيدا لا تكفى سنوات عمره المتبقية لادراكه ومشاهدته واقعا ملموسا ، ان (امير تاج السر) أفلح فى تصوير العلاقة ما بين صعود نجم مبروك الحكومى وأفول وذبول العقل عند (على جرجار) الممثل الرسمى للمسحوقين ولعل تلك المفارقة الدرامية هى أجمل مافى الرواية من إبداع تصويرى مبتكر فى زاوية تناوله وطريقة قوله ، كلما إزدادت قبضة السلطة وجنون رموزها وإستبدادهم إزدادت الرعية المغلوبة على أمرها بؤوسا وشقاء وأنهارت قواها وزاد توقها الى التحرر وازداد صراعها بين ما هو كائن وما هو مشتهى حدة على نحو ما حدث لعلى جرجار الذى دفعه ذلك الصراع الى أعتاب الجنون ، فعلى جرجار إجتاحه أولا شعور حاد بالذنب تجاه من أنعش آمالهم من أهل حى غائب بناء على المعلومة الكاذبة التى سربها اليه مبروك الحكومى عمدا حول قدوم نجمة فرنسية للاقامة بذلك الحى فطفق أهل الحى بما فيهم هو ينسجون أحلاما وردية للخلاص من حياتهم البائسة عبر بوابة العطر الفرنسى القادم من بعيد ليفتح امامهم أبواب أمل جديد يبين فى الآخر أنه سراب كاذب وأنه مجرد خيوط عنكبوت وزعتها السلطة عمدا على الأهالى لتلهيهم بها وتعطل فعلهم الجرىء ان أوصدت كل الأبواب فى وجوههم ، انه فن تعطيل الثورات وكبح جماح الشعوب الذى يجيده الحكام وادواتهم امثال (مبروك) الذى يحمل اسمه مفارقة مقصودة فهو فى الحقيقة (ملعون) وليس فيه ذرة من الخير ، والتلاعب بالاسماء ودلالاتها هو أسلوب جميل يلجأ اليه أمير تاج السر فى العناوين وأسماء الشخوص والامكنة فهى دوما توظف لخدمة النص ولا تحشر قسرا ولا ترد كيفما اتفق وتلك احد وجوه عبقرية أمير الروائية .
المحور الثانى
دلالات الاسماء فى الرواية

من المفاتيح المهمة لقراءة الرواية التوقف عند دلالات الاسماء ، الرواية وتوظيف الكاتب لها ، إبتداء من دلالة العنوان نفسه مرورا بالعناوين الجانبية واسماء الامكنة والاشخاص ، عالم امير تاج السر الروائى يتميز بالغنى بالشخوص والامكنة وكونها تلعب دورا وظيفيا مهما فى بنية النص والسرد .
- (العطر الفرنسى) هذا العنوان فيه إحالة ودلالات عديدة ، فالعطر هو اثر قصير العمر ، طارىء ، مؤقت لا يدوم طويلا مهما كان جذابا وجميلا ، وهو عنصر خارجى ليس من اصل الشىء بل هو مقحم عليه إقحاما لتغيير حقيقته تغييرا مؤقتا وليس دائم ليخدم استراتيجية او هدفا قصير المدى . العطر هنا و (المخدر) و (الافيون) سيان إذا ، جميعهم يلتقون فى كونهم يخلقوا شعورا لذيذا جميلا مؤقتا وزائفا تعقبه الأم لا حدود لها واضرارا فادحة بالجسد ، فالعطور مركبات كيميائية ضارة بالبشرة فى الغالب الاعم وكذلك المخدرات بأنواعها حتى التى تستخدم استخداما حميدا هى ضارة بشكل ما . اما كون العطر فرنسيا فهذا تأكيد على المعنى الاول (كون العطر عنصرا خارجيا ليس من اصل الشىء) فضلا عن شهرة العطور الفرنسية بالجودة وقوة الاثر اللحظى لها وكونها ترتبط باللذة الحسية والجنسية وهى فى الاخر مرادف للتخدير العنوان إذا يهيء الاذهان لموضوع الرواية وقضيتها المركزية التى كشفها مبروك الحكومى حين باح لعلى جرجار بأن الحكومة تدفع مالا لنشر الاشاعات وتوظف أشخاصا لتلك المهمة المقدسة مهمة (تغبيش الوعى الجمعى) و (إلهاء الشعوب) بقضايا إنصرافية مثل قضية قدوم نجمة فرنسية للأقامة فى حى فقير مغيب عن الحياة ، العنوان إذا إحالة الي قضية الرواية المركزية.وترد دلالة أخرى مهمة هى دلالة اسم البطل (على جرجار) جرجار فى العامية السودانية لها عدة معان :
1: فى لغة كرة القدم يقصد بها الشخص الموهوب موهبة عالية وصاحب القدرة على إختراق دفاعات الخصوم والجرجرة تعنى المحاورة وإلاختراق مهما كان الدفاع قويا .
2 : جرجرة الكلام تعنى ان الشخص صاحب قدرة عالية على إدارة الحوار الى جهات ومناطق لم تخطر ببال من بادره بالكلام ، وان الشخص الجرجار لديه القدرة على إنتزاع ما يريده من الاخرين من إعترافات عن طريق جرجرتهم الى المناطق التى يريدها ، وهناك معنى آخر هو ان الشخص كثير الكلام (ثرثارا) بالفصحى .
3 : المعنى الثالث قريب الى المعنيين السالفين ، وهو ان الشخص يجر الكلام جرا ، أى ان له قدرة على إستنطاق الكلام للوصول الى معانى جديدة .
القاسم المشترك بين المعانى الثلاثة هو كون الشخص الموصوف بأنه (جرجار) هو شخص متوقد الذهن حاد الذكاء ، له قدرات عقلية عالية وله خيال فسيح ، وغالبا ما يكون الاشخاص اصحاب تلك المواهب مرهفى الشعور وإحساسهم بالاشياء وقدرتهم على الاستبصار أعلى من الآخرين وهذه الصفات مجتمعة هى صفات (على جرجار) فى الرواية ، فكأن الكاتب أراد القول انه اسم على مسمى . دلالة الاسم هنا تخدم النص وتشرحه وتفسره وتفسر المصير الفاجع الذى أنتهى اليه صاحب الذهن المتوقد العبد الفقير (على جرجار) وهو ذات المصير الذى انتهى اليه ثلاثة من أعظم مفكرى ومبدعى السودان (التجانى يوسف بشير – ادريس جماع – معاوية محمد نور) فعقولهم الوقادة قادتهم الى الذهول والمعاناة النفسية والعقلية ، أما رابعهم (على عبد اللطيف) قائد ثورة 1924 فقد انتهى به عقله الوقاد حبيسا بمصحة الامراض العقلية بالعباسية بجمهورية مصر العربية حتى وفاته بأمر المستعمر الذى زعم زورا انه قد جن لمجرد انه قاد ثورة للتحرر فى بلاده .
واتوقف هنا عند دلالة اسم (على) وتطابق اسم (على جرجار) مع اسم (على عبد اللطيف) فهل هى صدفة ان يتطابق الاسم ؟؟ ام ان ذلك هو توظيف للسيرة التاريخية للبطل (على عبد اللطيف) فى خدمة النص الادبى هنا ؟ هل هى ظلال التاريخ التى إعتاد (أمير) على الكتابة تحت وهجها أم هى صدفة محضة ؟ مجرد تساؤل للتذوق وليس للاجابة والمقارنة وليس لليقين .
هناك أسماء عديدة لشخصيات عديدة بلغت اكثر من الخمسين شخصية فى الرواية تميزت الاسماء بدلالاتها الموحية فهناك ملكة السكرتيرة الحبشية لمبروك الحكومى وهى ليست ملكة بل خادمة تعيسة تم إسترقاقها بواسطة الحكومى الذى القى بها فى خاتمة المطاف كالعظمة فى الشارع بعد ان قضى وطره منها .
وهنالك (زهورات أرتو) الحبشية الاخرى التى هاجرت من بلادها حالمة بالثراء ، فتحولت هى الاخرى الى خادمة لحليمة الدجالة قارئة الكف . فهى إن كانت زهرة يوما ما فقد باتت زهرة ذابلة داستها الاقدام بقسوة . ويبدو (أمير) فى هذه الرواية مفتونا بتتبع مصائر المهاجرات التعيسات المستجيرات من الرمضاء بالناروهو هنا يلامس أزمة الإنسان الأفريقي المطارد بالتمييز والاضطهاد أينما حل .
وهناك (حكيم النبوى) او (حكيم المايكرفون) أستاذ التاريخ الثرثار الذى لا يحمل من اسمه شيئا فلا هو حكيم ولا هو نبى ، بل تبدو صفة المايكرفون التى الحقها الاهالى بإسمه متناسبة مع وظيفته السرية التى كشف عنها مبروك الحكومى لعلى جرجار فوظيفة أستاذ التاريخ السابق السرية هى كونه بوقا مأجورا للدعاية الحكومية الموجهة .
هنالك اسماء اخرى كثيرة فى الرواية لها دلالات خاصة مثل (ركشة) بائع الثلج (تنقو) بائع الايس كريم و(موسى خاطر) رجل الأمن الذى لا يحمل من أسمه هو الآخر شيئا ، وهنالك (أيمن الحضارى) فتى الكمبيوتر فى حى غائب ، وهنالك (شاكر تعيس) و (منعم شمعة) تاجر الشنطة و (فرفور) المغنى و (كبرى) لاعب الكرة و (عبد الله جنى) السياسى المعارض و (حواء سخطة) المغنية .
فكل اسم من هذه الاسماء الواردة فى الرواية له دلالاته وتوظيفه فى النص .
وتضيف الاسماء بما تحمله من ايحاءات زخما وحيوية للرواية وتجعلها مهرجانا شعبيا كامل الدسم ومتنوعا تنوعا فريدا مطابقا لواقع المجتمع السودانى وحى غائب الفقير القابع على هامش المدينة والحياة . ويستخدم الكاتب التكنيك نفسه فيما يتعلق بأسماء الامكنة فى الرواية ، فحى غائب يحمل اسما له دلالة واضحة على كونه يمثل فئات المهمشين والمسحوقين اللذين سقطوا من ذاكرة الحكام والانظمة ولكنهم يرفضون ذلك الاسقاط والتغييب فنلمس حضورهم الطاغى فى الرواية المطابق لحضورهم فى الحياة ، انهم يصنعون مهرجانا فريدا للحياة عند اعتاب الموت ، فايمن الحضارى مثلا هو ابن شهيد من شهداء حرب الجنوب نشأ يتيما فى كنف اهل حى غائب الذين تعهدوه بالرعاية والتعليم حتى بات ملما بعلوم الكمبيوتر ويكسب عيشه عن طريق تلك المعرفة واصبح يمثل طاقة معرفة وصلة بالعالم الخارجى لاهل حى غائب ، ان ايمن الحضارى نبتة نمت فى الصخر وزهرة تفتحت فى الوحل معطية املا جديدا لاهل حى غائب الذين يمثلون الامة كلها فى إمكان بزوغ فجر جديد ، إذا قارنا ايمن الحضارى بالفرنسية ،نجد انه أمل حقيقى وموجود فى المكان بينما الفرنسية عبارة عن وهم كاذب ولا وجود له فى المكان .
هناك اسم برج (التوبة) الذى تم إطلاقه على ارض كانت كنيسة هو تجسيد آخر لدلالة الاسم ، تجسيد يعتمد المفارقة للبوح بمغزاه ، فالتوبة لا تحتاج الى التعدى على عقائد الآخرين ولا التطاول فى البنيان بل تأتى عبر الإلتزام بجوهر الدين والاعمال الصالحة .
اسم برج (التوبة) فى الحقيقة هو كاريكاتير ساخر يسخر من خلاله المؤلف من التعصب والجهل . 



محور قضية الاستعلاء والتعصب الدينى
والثقافى فى الرواية

تتميز الإعمال الأدبية العظيمة فوق كونها تأتى بالجديد من حيث القالب الفنى وطرائق السرد والبناء ، بأنها تخاطب القضايا المركزية فى عصرها ومجتمعها ويوجد دوما بداخلها صدى ورصد لتلك التحولات الكبيرة التى تجرى أمام الأعين دون ان يلحظها الناس أو معظمهم على الأقل ، رواية (العطر الفرنسى) قارب فيها المؤلف قضية التعصب الدينى ومظاهر الاستعلاء الدينى والعرقى والثقافى فى بلد متعدد الأديان والثقافات والأعراق كالسودان ، قاربت الرواية تلك القضية المحورية مقاربة ذكية واحتوت الرواية على مظاهر ومشاهد مختارة ومكتوبة بعناية وحرفية عالية ومنتزعة بدقة من قلب المجتمع السودانى المعاصر فى ربع القرن الأخير سعيا لطرح الموضوع على بساط البحث من زاوية مختلفة من زاوية الرؤية المستهلكة سياسيا وإعلاميا والتى تختزل الموضوع فى شعارات جوفاء لا تسمن ولا تغنى ولا تعالج المشكلة بقدر ما تصب الزيت على النار وتزيد الاستقطاب الجارى حدة وضراوة ، حيث تتناول الرواية الموضوع بصورة شفافة من جانبه الانسانى واليومى المباشر فى تجلياته الموجعة وتأثيراته على الذوات الانسانية والأمكنة التى تكف داخل النص عن أن تكون مجرد أمكنة بل تمسى ذواتا لها قيم ثقافية وروحية عظيمة ، ولا تعود تلك الأمكنة مجرد حجارة صماء ومبان تحمل أسماء ووظائف محددة مثل (الكنيسة) (المقهى) (القبور) بل تمسى شخوصا من شخوص الرواية تمشى وتتنفس وتتألم ، بذلك الفعل الجرىء تخاطب الرواية ابتداء من سطورها الأولى حتى نهايتها (المسكوت عنه) و(المغطغط) بالعامية السودانية وترفع عنه الستر والحجب وتسمى الأشياء بأسمائها لتضع القارئ المتلقي أينما كان أمام حقيقة ما جرى ويجرى فى السودان من صراع ومن طمس متعمد او غير متعمد لبعض الهويات الثقافية والدينية والعرقية ، انه ملف حساس والطريق اليه مفروش بسوء الظن وسؤ الفهم والألغام والحساسيات والأفكار المسبقة والحروب التى وضعت أوزارها وما زال حريقها مستمرا والحروب التى لا تزال مستعرة ، لكنه ملف رئيس لابد للرواية من ملامسته ومخاطبته وتشريحه تشريحا قاسيا وموجعا كما فعل (أمير تاج السر) فى رائعته (العطر الفرنسى) ليس بغرض الوقوف مع هذا الجانب ضد ذلك الجانب بقدر ما ان الغرض هو التأثير على الوعى الجمعى للمتصارعين إيجابا .

تجليات التعصب فى الرواية

يقدم المؤلف فى الرواية لمحات خاطفة وسريعة ، لكنها كافية لعرض الموضوع بقوة ، فيستخدم حيلا فنية تقليدية واخرى مبتكرة تتميز بالأصالة والتفرد ليقدم من خلال ذلك مظاهر ذلك الاستعلاء وتجلياته واثاره على الفرد والجماعة والوطن الكبير ويختار المؤلف نماذجه البشرية بدقة متناهية من قلب المجتمع السودانى ويتابع عذاباتها ومصائرها ليقدم شهادته على عصره عبر تلك الشخصيات راصدا عبر الرواية حالات الطرد والإقصاء والتغريب للمجموعات العرقية والثقافية والدينية الصغيرة (ما يعرف بالأقليات) ويرصد أساليب وحيل المتعصبين التى لجأووا إليها لإزاحة ومحو هذه المجموعات من الخريطة الاجتماعية فى السودان عبر التضييق عليها وتجفيف منابعها الدينية والثقافية والاجتماعية ومظاهر وجودها حتى ولو دعى الأمر الى هدم الكنائس والمحال التجارية ومواقع التواصل الاجتماعى كالمقاهى والأندية الخاصة بهذه المجموعات وتحويلها الى معالم اخرى معبرة عن معتقدات وثقافات المجموعات المهيمنة فيتحول (مقهى رومانى) فى الرواية الى (مصرف إسلامي) وتتحول (كنيسة العذراء) الى (برج التوبة الاستثمارى) ويرصد الكاتب فى الرواية هجرة الأقباط السودانيين الى الخارج وتبديلهم لهويتهم الوطنية الى هويات أخرى فى مجتمعات تقبلهم كما كان الحال فى وطنهم السودانى سابقا وتسهل إندماجهم فيها .
ويمكن تلخيص تمظهرات الموضوع فى الرواية كما يلى :
1: وجود شخصيات محورية معبرة عن التعدد الدينى والثقافى فى الرواية تتحرك على مسرح الأحداث على امتداد النص الروائي .
2: استعراض معاناة وأزمات وأوضاع تلك الشخصيات فى المجتمع وتجليات ومظاهر وآثار حملات الاستعلاء والتعصب الواقعة عليها فى حياتها ووجودها الاجتماعي وقدرتها على البقاء فى المجتمع السودانى .
3: رصد التغيرات فى ملامح الامكنة ونمط الحياة فى المجتمع واثر حملات التعصب والاستعلاء وسياسات الاقصاء على تلك الامكنة وجودا ومحوا وإندثارا وتبديل هوية ، تماما مثلما جرى للاشخاص .
نتابع تفكيك وتحليل النص فى هذا المحور عبر إيراد نماذج محددة لما تم ذكره فى النقاط الثلاث اعلاه :

على مستوى لشخصيات تقدم الرواية شخصيات تحتل مساحة كبيرة من السرد وتتخلل سيرتها سطور الرواية ، من تلك الشخصيات شخصية (ميخا ميخائيل) القبطى الذى رفض الهجرة مع اهله الى استراليا وبقى وفيا للمكان متمسكا بهويته الوطنية جنبا الى جنب مع هويته الدينية والثقافية رافضا ترك كنيسة العذراء التى شارك فى طلائها بلون السلام (الأبيض) فى صباه الباكر ورافضا ترك رمزه الدينى ممثلا فى الاب (مكارياس) . لقد بصق (ميخا) على أوراق الهجرة أمام القنصل الاسترالى وإختار البقاء فى وسط اجتماعى ووطن يصر بعض من فيه على ممارسة اقسى واقصى انواع الازاحة والاقصاء عليه ومصادرة حقه فى البقاء وحقه فى الاحتفاظ بذكرياته الشخصية ، لكن من يمارسون لعبة الإقصاء يلاحقون ميخا ببصمتهم القاسية وكرابيجهم فيحولوا المقهى صاحب القيمة الثقافية والتاريخية الخاصة لديه (مقهى رومانى) الى مصرف اسلامى ومبنى الكنيسة المحببة للنفس الى (برج استثماري) ، ويتواصل الضغط على (ميخا) حتى يجبر على تغيير عقيدته وهويته الثقافية والدينية وتغيير اسمه الى (مختار) ، - وقد شارك على جرجار المتعصبين فى هذا الفعل دون وعى منه وبحسن نية وكانت تلك المشاركة احد أسباب جنون على جرجار - وفى النهاية تمارس على ميخا الستينى عملية ختان تبعا لعملية تغيير الهوية ، ولا يجد (ميخا) بالرغم من خضوعه وتخليه عن عقيدته من ينفق عليه او يساعده سوى على جرجار .
يقول (على جرجار) لنفسه : (لن اترك ميخا القبطى بأي حال من الأحوال ، لن اتركه ليموت او يجن . قد احاول تهجيره بطريقة او بأخرى وقد آخذه الى احد المساجد الكبيرة فى يوم جمعة ليغير عقيدته ، ويكسب بعض التعاطف ، ثم أحرض عركى صاحب البقالة الثعلب ليتخذه رسالة فريدة وعادلة الى إحدى جمعيات الخير فى الخليج ، تحكى عن مسلم جديد اسمه مختار ، يريد ان يحج ويعتمر حتى تكتمل عقيدته ) .وهكذا يحمل( على جرجار) الفقير البائس والذى يعيش فى اطراف المدينة ويعتمد على معاش ضئيل وإحسان ابن اخته الذى يعيش فى إحدى دول الخليج ، يحمل هذا الرجل هم امة بأكملها وهى المهمة التى عجزت عنها الأنظمة التى دفعت أبناء الوطن مسلمين وغير مسلمين إلى أطراف المدن والمطارات البعيدة والمنفى والاحتراب الداخلى . ان هذا الهم الوطنى والانسانى هو بعض من الأثقال التى لم يقو على جرجار على احتمال وطأتها فجن فى خاتمة المطاف . عندما سمع القبطى (ميخائيل) بالشائعة المتعلقة بقدوم فرنسية الى (حى غائب) لمع أمامه
بريق من الامل تعلق به كما يتعلق غريق بقشه فهرول نحو على جرجار طالبا منه مساعدته على النجمة الفرنسية حين تجيء علها تساعده فى الهجرة التى رفضها (مملحة) وبات يبحث عنها (يابسة) الان على حد تعبير المثل السودانى .
يقول على جرجار الذى يمثل فى الرواية ضمير الأمة وذاكرتها ومؤرخها الامين عن ذلك : (القبطى ميخا ميخائيل دقندس تجاوز الستين ، شعره ابيض ، حاجباه أبيضان ، ووجهه ممتلئ ببقع الدهون والبهاق ، لا زوجة ولا عيال . ولم استغرب ابدا طلبه ان أقدمه إلى خيال لم المسه بعد ، الى فرنسية لا اعرف حتى قياس نعليها .) هكذا يصف على جرجار مأساة صديقه ميخا الذى رفض الهجرة وبصق على أوراقها فبات مرفوضا هناك حيث الجنة الزائفة التى هرب إليها بعض من عانوا جحيما حقيقيا فى الوطن ، ليكتشف لاحقا انه بات مرفوضا هنا حيث اختار البقاء وان ثمة آليات ضخمة تشتغل على محو تاريخه الدينى والعرقى والشخصى من تربة ارض السودان بلا اكتراث بمشاعره ومصيره .

الشخص الوحيد الذى هزته مأساة (ميخا) هو على جرجار ضمير الامة وذاكرتها فقد قال معبرا عن ذلك : (احسست بخسارة القبطى حيث ماتت ذكرياته كلها ودفنت تحت الارض) ويصور على جرجار مشهدا اخرا تمتلىء فيه عيون (ميخا) بالدموع اثناء متابعته عملية هدم مقهى (رومانى) احد اسهامات بنى جلدته الاقباط فى الثقافة السودانية : (كان ميخا يردد ، وتلك الدموع فى عينيه توشك ان تنسرب : مصرف يا على تتصور ! ومن يملك مالا اصلا ليضعه فى مصرف ؟) مشيرا بذلك الى عملية تحويل المقهى الى مصرف اسلامى . وهكذا تتمدد شخصية ميخا القبطى فى السرد وفى الرواية ويبدو مخلوقا اسطوريا يملك اجنحة عملاقة تظلل الوطن كله ويبد إصرار المؤلف على إلحاق صفة االقبطى به اينما ذكر فى السرد امرا مقصودا وكأنه يقاوم بذلك مشروع محو الهوية برمزية شفافة (يبقى القبطى قبطيا كيفما شاء ويبقى المسلم مسلما كيفما شاء ولا ضرورة لمحو أى هوية) .
أما الشخصية الثانية فى الرواية المعبرة عن هذا المحور فهى (جوليا رومانى) الوريثة الاخيرة لمقهى رومانى الذى بقى واقفا على قدميه قرنا من الزمان رامزا الى الوجود القبطى فى المجتمع السودانى وإندماج الاقباط السودانيين فى الحياة العامة بسهولة ويسر فيما مضى ، وحين علت نيران التعصب والكراهية والإقصاء وبعض صور الاضطهاد تراجع وجود المقهى تدريجيا حتى تم محوه تماما من الوجود حين خيرت الوريثة الاخيرة للتسامح الدينى (جوليا رومانى) بين البيع او المصادرة – وهو فى الحقيقة إكراه وليس خيارا – فاختارت البيع وهو ما تبقى لها ولكنها لم تقو على مشاهدة الآليات وهى تهدم تاريخها العائلى والانسانى فماتت بنزيف دماغى ودموعها ندية لم تجف . ان محو المقهى وموت جوليا رومانى الوريثة الاخيرة ليس للمقهى بل لميراث التسامح الدينى هما فى الحقيقة محو وموت رمزيان ينعى عبرهما المؤلف ميراث التسامح الدينى ، فموت الوريثة الاخيرة معناه واحد وهو إنقطاع سلسلة النسب وإنقطاع التوارث وربما الوجود المادى لجماعة إثنية لها موروثها الدينى والثقافى وشكلت جزءا من المشهد الدينى والثقافى والعرقى فى السودان انه غياب شمس استوائية وإنتصار برنامج التعصب والاقصاء على برنامج التسامح والقبول بالاخر .




إحتضار الامكنة يفضح المسكوت عنه

على مستوى الامكنة تجعل الرواية من الامكنة شخوصا حية من لحم ودم وترتفع بها فى رمزية رائعة الى مراتب سامية فى عقول وشعور الشخوص الروائية لتقدم من خلال ذلك رسالة الرواية المعرفية والجمالية فى قالب فنى جذاب معطون فى الشجن ليتماهى الجو النفسى العام للرواية مع الشجون التى يثيرها موضوعها ، ان الرواية ترصد من خلال إستعراض مصائر الامكنة وتحولاتها ما يجرى فى المجتمع من تحولات وصراعات يتم إنكارها علنا ولفظا بينما اثارها فى الامكنة تدل عليها معنى وحقيقة وتشكل ادلة قوية للاتهام تزلزل سكينة الجاهلين بما يجرى وتوقظهم من ثباتهم العميق وسلبيتهم وتستفزهم لتدخلهم فى دائرة الفعل والمقاومة وتدمغ فى الوقت نفسه اصحاب مناهج الاقصاء والتعصب وتدينهم بما جنته اياديهم من خلال ابراو نتائج غرس تلك الايدى وتقديم شواهد ملموسة لا يجدى معها قاموس الالسن المحفوظ حول احترام التعدد والقصائد الطويلة التي تتحدث لفظا عن تسامح مفقود وترسم فردوسا ضائعا وسط الفظاظات التى تجرى على الارض بصورة يومية .
يتفنن امير تاج السر فى وصف مقهى رومانى العتيق كأنه انسان حى ليصور من خلاله بعض ما جرى ويقدمه دليلا على لسان الشاهد على جرجار : (عبرت بالقرب من مقهى رومانى العتيق ، وكان بلا زجاج ، ولا رواد ، ولا لافتة تحكى تاريخ ميلاده حوله عدد من الآليات الثقيلة أيضا ، وصاحبته الأخيرة جوليا راقدة امامه وبعض المتطوعين بمن فيهم ميخا ميخائيل يسقونها الماء ؟ ) .
يبدو المقهى فى هذا المشهد شخصا من لحم ودم تجف فى عروقه الحياة شيئا فشيئا ويتحلق حوله احبابه وآل بيته ليشهدوا احتضاره بلا امل او قدرة على منع وقوع المكتوب ، او حتى تخفيف الالام ، وتبدو الآليات الثقيلة هنا مثل نسور جائعة تحلقت حول انسان حى وشرعت فى نهش لحمه بلا هوادة ولا رحمة ولا شفقة . انه تصوير بديع لعملية محو وسحق بشعة تمت وتتم امام انظار الجميع لاشياء وقيم عزيزة كثيرة فى الوطن الكبير دون ان يحركوا ساكنا ، او لم يكن انفصال جنوب السودان نفسه بطريقة او اخرى محوا واقصاء وخيارا لمن لا خيار لديهم مثله فى ذلك مثل مقهى رومانى ؟ كيف يكون هذا خيارا : (إما ان نقتلكم أو ترحلوا عنا الى الأبد !)
ان احتضار المقهى هنا هو فى الحققة احتضار رمزى لاقسام وفئات عزيزة من الوطن الكبير دفعت بها خيبات السياسة وصرخات التعصب وانسداد الافق امام الاحلام المشروعة خارج دائرة الوطن كرها وغصبا بصورة دائمة حينا وبصورة مؤقتة حينا اخر .
ولتكثيف المعنى يضيف (امير تاج السر) مشهدا اخر يجسد احتضار كنيسة العذراء وتحولها الى برج سكنى يسمى برج التوبة ، تاتى الشهادة ايضا على لسان على جرجار الذى يقول : (كنت قد اقتربت من كنيسة العذراء حيث ترقد ذكريات نارية للقبطى ميخا ميخائيل، لكننى لم اجدها ، عثرت على ارض خلاء مسورة بالخشب ، وضاجة باصوات آليات تحفر او تزيح التراب بعيدا ، وفى احد اركانها لافتة ضخمة كتب عليها برج التوبة).
انه كاريكاتير ساخر لكنه لا يضحك احدا ، بل يستدعى الدموع ماطرة وغزيرة على مآلات الحال ان هدم الكنيسة ومحوها هنا لم يكن فعلا عابرا او خطأ فى التقدير او مصادفة سيئة ، بل كان عملا مقصودا بدليل اسم البرج الذى حل محلها (برج التوبة) الايمان بالله ذنب يستدعى التوبة ؟ انه مشهد يمثل عنفوان وبشاعة التعصب وتجاوزه حتى لثوابت الدين الاسلامى التى تحض على احترام الديانات السماوية الاخرى وتقرر حرية الاعتقاد .
ان اغراق نظام عبود العسكرى فى السودان لمناطق النوبة فى حلفا القديمة لصالح انشاء السد العالى فى مصر كان عملا مماثلا لهدم الكنيسة واقامة برج استثمارى مكانها ففى الحالتين كان القرار فوقيا وسلطويا ولم يحترم مشاعر البشر وعواطفهم وتاريخهم الشخصى والعائلى وعلاقتهم بالمكان وكون ذلك المكان بات ذا قيمة خاصة يرتبط وجودهم بها ، فقد تم اغراق جذء كبير من حضارة النوبة وتاريخهم ومراتع صباهم ، وبهدم الكنيسة تم محو تاريخ دينى وثقافى وذكريات شخصية لميخا واهله . انها الاقدام الغليظة نفسها التى داست على المشاعر هنا وهناك . فى نهاية الرواية لم يسلم حتى بيت ميخا من هجوم التتار الجدد عليه ، فقد عاد ذات يوم الى بيته فوجد كل متعلقاته الشخصية التى تدل على هويته الدينية من صلبان وغيرها قد اختفت بفعل فاعل كما اختفت الكنيسة . الدلالة هنا انه تم محو تاريخه الشخصى اسوة بتاريخه العائلى ووجوده الانسانى ، ان الامكنة لم تسلم من الهجمة ، فالامكنة هى شاهد صامت على ما جرى ويجرى ، هى مخزن الشهوات والمسرات ولحظات الصدق ولحظات الجمال والقبح الانسانى ، وهى من يحمل على خده وجسد اثار الحروب البشرية الصغيرة والكبيرة وبقع الدماء وصرخات التوق الى الحرية وصرخات المقاتلين اصحاب المطامع الدنيئة واصحاب القضايا النبيلة . ان المكان فى رواية امير تاج السر دوما هو شخص من شخوص الرواية وهو مفتاح من مفاتيحها وبهار من بهاراتها التى تجعلها زكية الطعم والرائحة . من تلك البهارات الرائعة فى الرواية ان التعصب الدين والاستعلاء لم يكن وقفا على الطبقات الحاكمة بل يجد صداه حتى عند الطبقات المسحوقة ، فنجد مثلا حليمة قارئة الكف تمارس التعصب الدينى بطريقتها الخاصة حين ترفض قراءة كف ميخا القبطى بحجة انها لا تقراء كفوف النصارى قائلة : (لا اقرأ كفوف النصارى ، لا اقرأها ابدا .) ويصف على جرجار مشاعر حليمة فى تلك اللحظة فيقول : (انزعجت المرضعة بشدة ، رأيتها تفقد الود فجأة ، وتتحول الى جمر .) انه تصوير بديع لنيران الكراهية التى يولدها التعصب الدينى والعرقى فى مجتمع كانت لحمته وسداه تلك القدرة الفريدة على قبول الاخر والتسامح الدينى والعرقى .
وحدة المصائر هل هى مقصودة ؟
انتهي على جرجار فى الرواية الى الجنون المطبق ودخول السجن او المصحة العقلية ، بينما انتهى ميخا القبطى الى الاختفاء الغامض والهجرة نحو المجهول الذى عندما سئل عنه عرفه بأنه ذاهب الى الموت . ويبدو المصير واحدا هنا وهو الذهاب نحو المجهول والانسحاب من دورة الحياة العادية بعد كفاح طويل على خشبة مسرح الحياة بواسطة كل منهما فقد عمل على بالسكة حديد حتى تقاعده واستمر يكافح حتى جنونه وادى ميخا رسالته فى الحياة كاملة حتى ادركه جنون الاقصاء فانفصل عن اسرته التى هاجرت وبقى مثل على جرجار ليكافحا الجنون الذى استوطن الوطن ويشهد كل منهما بطريقته انهيار منظومته الانسانية والاخلاقية أمام ناظريه .
ان النهاية المفتوحة ووحدة مصير ميخا وعلى رغم اختلاف الدين تشير الى استمرارية الصراع على ارض الواقع ، فهو صراع ينتفى عنه الطابع الفردى والشخصى وان استعار المؤلف نماذج بشرية محددة لعرضه ، لذلك فهو صراع مستمر ولا يتوقف على ارادة فرد من الافراد ولوحدة المصير بين على وميخا دلالة اعمق وهى ان القضايا التى تواجه الامة لا تفرق بين الناس على اساس دينى او عرقى وان مواجهتها تتطلب وحدة هولاء الناس دون نظر لحدود وهمية تلغى جوهرهم الانسانى الواحد .
ان على اخطأ حين ظن ان مشكلة ميخا يمكن حلها عبر تبديل هويته الدينية (بدلا من احترامهاوحماية حقه فى الاعتقاد) وهو الحل الذى بدا لعلى جرجار سهلا ومضمون النتائج حين نفد صبره من ملاحقات ميخا له فاقدم على جرجار على تلك الخطوة الخطيرة التى ندم عليها فيما بعد : (البسته ثوبا وعمامة من ثيابى النظيفة ، واخذته فى يوم جمعة مباركة الى الجامع الكبير حيث يصلى الوجهاء والاثرياء وقادة العمل الحكومى ، وجدنا بالكاد موضعا نصلى عليه ، وكان ميخا يستمع الى الخطبة بلا حماس ، حين انتهت الصلاة وقبل ان يتفرق الجمع وقفت اصيح وانا اشير اليه : معى اخى ميخا ميخائيل الذى سمى نفسه مختار وجاء لينطق بالشهادة) 
ثم يصف على جرجار خيبة امله وامل ميخا بعد ذلك بسبب ردة فعل الناس : (حين خرجنا ووقفنا امام المسجد ، لتلقى تبرعات اهل الخير وتهنئتهم ، ووعودهم بمستقبل جديد لميخا ، قفز الوجهاء الى عرباتهم وانصرفوا ليتركونا برفقة رجل من السجل الشرعى ، وثق اسلام ميخا على دفتر كبير يحمله ولوح له بحد الردة ، اذا راودته نفسه بالعودة الى النصرانية مرة اخرى ) .
بعد ذلك شعر على جرجار بالذنب وانه قد خان صديقه بشكل ما وظل ذلك الاحساس يلاحقه حتى لحظة فقدانه لعقله وربما يكون ذلك من ضمن اسباب فقدانه لقواه العقلية أضافةالي أن علي جرجار بعد ان عرف من مبروك الحكومي ان النبوي كان يأخذ راتبا من الحكومة نظير بث الأشاعات بدأ يشعر ان النقود التي قبلها من الحكومي لوثته فتغيرت نظرته لنفسه وزادت أزمته
البناءالفني للرواية
استعان الكاتب بكل مخزونه المعرفى والجمالى وخبراته الحياتية وخبرته فى مجال الكتابة بوجه خاص فى كتابة هذا النص السردى المحكم . وعندما نتحدث عن( السرد المحكم) فنحن نتحدث عن مصطلح نقدى وليس عن مجرد المعنى اللغوى والسرد المحكم يكون محكما من حيث معمار القصة (بناء بنيتها) التى تبنى على ما نسميه ب (عمود السرد) حيث يكون هنالك بداية للحدث وتطور الى الحبكة فالعقدة ثم الحل . وتطور الخطاب الروائى إجمالا وهو يتابع الحدث فى تطوره التصاعدى (خبر قدوم نجمة فرنسية للاقامة فى حى غائب) ويرصد الخطاب الروائى تفاعلات المكان وشاغليه (حى غائب وسكانه) مع الحدث الرئيس الذى هو خبر فى رحم المجهول ولم يحدث بعد بل انه لم يحدث مطلقا ، وهذا فى حد ذاته يعكس اشواق المكان وشاغليه للتغيير .
المفارقات الزمانية لها دور محدود فى كشف احوال الشخصيات المقدمة او التذكير ببعض الاحداث عندما يتم الرجوع اليها ، ولكن ابرز مظاهر السرد المحكم فى الرواية نجده كامنا فى الصوت السردى : الراوى وهو فى الرواية على جرجار ، انه الناظم الخارجى الموجود فى كل مكان والعالم بكل شىء (الراوى العليم) حيث نجد حضوره قويا من بداية الرواية الى نهايتها يوجه دفة السرد ويصف وينقل الشخصيات فى اغلب المرات التى تتوارى فيها المشاهد وبالمناسبة لم تحتوى الرواية على مشهد مستقل عن الراوى على جرجار الا فى الفصل الافتتاحى حيث كان المؤلف هو السارد ثم اختفى ابتداء من الفصل الثانى حتى نهاية الرواية ولن نندهش اذا علمنا ان الفصل الافتتاحى لم يستغرق سوى تسع صفحات فقط من صفحات الرواية البالغة مائة وواحد واربعين صفحة . ان الراوى العليم يستأثر بالسرد والمعرفة ويروى من منظوره الخاص لانه سيد العالم السردى الذى يملك مفاتيحه واسراره . هذا الحضور القوى للراوى فى الرواية لا يعطينا فقط صورة عن البناء المحكم وكيف يلتقى مع طريقة السرد فحسب ، لكنه علاوة على ذلك يكشف لنا رؤية سردية ومعرفية خاصة يملكها الروائى نفسه وهو (يتماهى) مع الراوى ويتقمصه ليجسد لنا طريقة خاصة فى الكتابة ورؤية خاصة للعالم يسعى الكاتب لتقديمها من خلال تقمص شخصية الراوى التى هى شخصية من شخوص الرواية ويتطلب الامر من المؤلف الذي يكتب الرواية الواقعية ان يبقى فى الوقت نفسه مبتعدا مسافة موضوعية من شخصيته المتقمصة حتى لا تصبح بوقا لافكاره وتتوارى ويبرز المؤلف بدلا منها . 
لهذا السبب فان من يسعى من النقاد لمقارنة صوت أمير تاج السر بأى صوت روائى اخر يظلمه فى الحقيقة ويظلم الصوت الاخر ايضا ، فالحقيقة ان كل مبدع للرواية يبقى له صوته الخاص المتفرد وتجربته العصية على الاستنساخ او المطابقة او التقمص او الذوبان او الاذابة فى جبة اخرى فالكاتب له بصمته الابداعية الخاصة مثل بصمته الوراثية خاصة اذا كان متمكنا من ادواته ، هذه الصرخة موجهة الى كل ناقد يسعى عن كسل او تكاسل او عدم قدرة على معرفة عوالم أمير تاج السر الى الحاقه بجبة الطيب صالح الجميلة استسهالا او جهلا ، امير تاج السر عبقرية روائية قائمة بذاتها نحت صاحبها فى الصخر حتى يقدم لونيته وصوته الخاص وافلح بمثابرة وعزم فى امداد المكتبة السودانية باعمال رائعات جديدات كل الجدة من حيث الاسلوب والمضامين وتعتبر اعماله قفزة نوعية كبرى فى خارطة الرواية السودانية . ان الروائى المبدع وحده هو الذى يستطيع ان يبنى عالما تخيليا موازيا للعالم الخارجى (الواقع) يتم بمقتضاه التعامل مع الاشياء والظواهر وهى تتشكل وفق صورة منطقية تقوم على التعليل (هناك نتائج هى بالضرورة لها اسباب افرزتها وانتجتها) ، هذه الملكة الابداعية هى ملكة تتميز دوما بالاصالة والتفرد وليست وليدة الاطلاع وحده فهى موهبة شخصية فى المقام الاول يتم تطويرها بمران شاق هو انتاج الكاتب الادبى كله ، فكل كتابة روائية للكاتب هى تجربة تضاف الى رصيده المعرفى والابداعى وتغنى قاموسه وقدراته وتفجر مكامن ابداعه الخفية ، ان الروائى وهو يبنى قصة يشيد عالما له بداية ونهاية يتجسد من خلال الوعى به من قبل الكاتب ، ومعنى ذلك ان منطق القصة الداخلى هو منطق الواقع .
ينجم عن توظيف الرواية بهذه الكيفية هدفان : 1: إمتاع القارىء والعمل على إدماجه فى القصة وبذلك يتم اداء وظيفة السرد 2 :تحقيق المنفعة (الوعى) عن طريق المتعة ، اى تغيير وعى القارىء ودفعه الى التفاعل الايجابى واول مظاهر ذلك الوعى هو التعاطف مع بعض الشخصيات او التماهى معها – تبنى رؤيتها للعالم – لما تحمله من قيم يعمل الراوائى على تمثيلها وابرازها مقابل ما يناقضها من قيم وما يماثلها من شخوص وافكار ومناهج ، ان البعد التربوى التعليمى والتنويرى حاضر فى رواية امير تاج السر دوما ، سلطة المعرفة هى تمثيل لوعى الكاتب والمقدمة بواسطة اسلوب فنى جمالى ، هى التى تعطى لابداعه معنى . معنى الاسهام الابداعى الواعى فى تشكيل الوعى الجماعى للامة والتجربة الجمالية الانسانية العامة .
- ان تميز (أمير تاج السر) فنيا يقوم على كونه يميل الى الصرامة الفنية فى كتابة نصوصه ، يكتب بحس نقدى عالى فهو الناقد الاول لما يكتب ، يدقق فى خياراته الفنية تدقيقا مبالغا فيه لكنه لا يبلغ حد قتل الروح فى النص كما فعل بعض من اسرف فى تقدير القالب الفنى على حساب التدفق الطبيعى للسرد وحيوية الاشخاص والاحداث برغم الالتزام الفنى الصارم ، لهذا السبب فان امير تاج السريضع نفسه فى مصاف اصحاب المذهب الواقعى الذى نشأ على انقاض المذهب الرومانتيكى – على الاقل فيما يتعلق بتقنية كتابة هذه الرواية - اصبح الكاتب الواقعى يتتبع فى قصته الواقع حسب منهج بحث منظم استقصائى ، يجمع فيه معارفه باطلاعه على وقائع الحياة اليومية ويرتب هذه الوقائع لتكون مجالا يحرك فيه شخصياته ، يؤثرون فى الحياة ويتأثرون بها ، حتى ينتهوا الى نتيجة مأخوذة من احداث الواقع نفسها ، على ان يختفى المؤلف وراء العالم الواقعى الذى يصوره تصويرا موضوعيا ، ويصف الكاتب الفرنسى اميل زولا تلك العملية قائلا : (تنحصر العملية الفنية فى اخذ الوقائع من الطبيعة ، ودراسة وظيفة هذه الوقائع ، والتأثير فيها بتغيير الحالات والبيئات دون الابتعاد عن قوانين الطبيعة ، وبذلك تتحقق معرفة الانسان معرفة علمية فى عمله الفردى والاجتماعى .) .
- يشترط فى ذلك كله الا يظهر المؤلف فى قصته ، فلا يضحك ولا يبكى مع شخصياته ولا يحكم مباشرة على أعمالهم ، ولا يستخلص بنفسه نتائجا إجتماعية ، أو مغزى أخلاقيا لقصته ، وعلى القارىء وحده ان يفهم ويستنتج ما يشاء .
- بقراءة نص ( العطر الفرنسى ) نجد أمير تاج السر ملتزما بهذا كله إلتزاما واضحا وفريدا ، إلتزام فنان متمكن من ادواته مدرك لما يريد انجازه .تبقى الرواية عطرا سودانيا جميلا يرصد تحولات كبرى جرت وتجرى بضراوة فى خلفية المشهد المعاصر فى السودان ببراعة وشجاعة مستخدما مشرط الروائى الذى يحاكى مشرط الجراح فى تشريح واقع يتبدل وهوية يجرى طمسها وآمال يجرى وأدها ، انها رواية التحولات الكبرى والقراءات الموجعة للواقع .
- وليست ثمة خاتمة اجمل لهذه السياحة فى عوالم أمير تاج السر من كلمات (على جرجار) بطل الرواية التى تعكس وعيه المتقدم حيث يقول في الرواية (لست مجنونا ، لكننى قد أجن فى اى لحظة ، ولست متوهما ، لكن الوهم قريب ، قريب جدا .) .
- ودعونا نقل معه جميعا : -
(لسنا مجانين ، لكننا قد نجن فى اى لحظة ، ولسنا متوهمين ، لكن الوهم قريب ، قريب جدا.) .
شكرا أمير تاج السر على هذا العطر الجميل الباقى أبدا .
صلاح الدين سر الختم على
مروى
26 – 6 – 2012 


قائمة المراجع 
1 : العطر الفرنسى – رواية – أمير تاج السر
الدار العربية للعلوم – الطبعة الاولى 2010 بيروت 
2 : السرد العربى مفاهيم وتجليات – د . سعيد يقطين – دار رؤية للنشر القاهرة 2006 .
3 : قضايا الرواية العربية الجديدة – الوجود والحدود – د . سعيد يقطين – دار رؤية للنشر – القاهرة 2010 .
4 : النقد الادبى الحديث – الدكتور محمد غنيمى هلال – دار نهضة مصر للطبع والنشر – الفجالة – القاهرة .
5 : ومض الاعماق – مقالات فى علم الجمال والنقد – ترجمة د . علي نجيب ابراهيم – داركنعان للدراسات والنشر – دمشق – الطبعة الثانية 2004 . 
6/توترات القبطي/ رواية/أمير تاج السر/ الدار العربية للعلوم
الشخصيات التاريخية:



ادريس جماع هو شاعر سوداني ولد عام 1922م وتوفي في 1980 له ديوان واحد صدر تحت عنوان ( لحظات باقية ) وقدحمل هذا الديوان عصارة فكر الشاعر وأجمل ماكتب في سنين عمره حتى وفاته حيث القصائد التي تناغمت بفلسفه روحيه حملت الكثير من الالم

التجاني يوسف بشيرهوأحمد التجاني بن بشير بن الأمام جزري الكتيابي ولد في (( أم درمان )) عام 1912 ، و توفي عام 1938 لم يكمل دراسته في المعهد العلمي بعد فصله لأسباب سياسية عمل في الصحافة ن و في شركة شل للبترول صدر له ديوان واحد بعنوان 
اشراقة

علي عبداللطيف هو بطل الوحدة السودانية بين جنوبه وشماله حيث كانت مادته شمولية لا تفرق بين شماله وجنوبه، كان ضابطاً في الجيش السوداني وناضل وكافح لهذا المبدأ وأسس جمعية اللواء الأبيض في يونيو 1924م. وعلي عبداللطيف من جهة والده ينتمي الى النوبة الميري في جبل ليما بجنوب كردفان ومن جهة والدته النصر زين تنتمي الى دينكا قوقريال وإلى فرع دينكا ريك.
أمير تاج السر روائي سوداني معاصر يعتبر أهم صوت روائي في المشهد الثقافي السوداني ، هو طبيب مقيم بالدوحة، وصدرت له مجموعة من الروايات المتميزة هي :نار الزغاريد/ كرمكول/ مرايا ساحلية/ زحف النمل/ توترات القبطي/ تعاطف/ العطر الفرنسي/ صائد اليرقات/مهر الصياح/ أرض السودان الحلو والمر. تتميز اعماله بثراء المواضيع وتنوعها وتنوع اساليب الكتابة ومدارسها بين عمل والآخر وداخل العمل الواحد. ترجمت بعض اعماله الي الفرنسية والانجليزية وهو كاتب غزير الانتاج.

No comments:

Post a Comment