التناص بين مريم السودانية ومريم الجزائرية: هذا الدمع من ذلك النهر
بين مريم واسينى
الأعرج** ومريم *الطيب صالح ملامح مشتركة
صلاح الدين سر الختم
على
فرغت للتو من قراءة
رواية سيدة المقام للروائى الجزائرى واسينى الأعرج، وهى رواية رائعة بكل ماتعنى
الكلمة، هى أنشودة طويلة وحزينة للحياة والحب والحرية والجمال، مثل بطلتها راقصة
الأوبرا الجزائرية مريم التى ترقص مذبوحة من الألم فى زمن توارت فيه كل ملامح
الجمال ومظاهره من عالمنا العربى بفعل فاعل زنيم وأخلت السبيل لقبح القادمين الجدد
الذين شنقوا الشجر والزهور وأحرقوا اللوحات والمراسم والمسارح والحقول وزرقة
السماء والبحر ولونوا كل شئ بلون الدم والفجيعة والموت المجانى والتصحر الفكرى
والثقافى.تتماهى الرواية مع موضوعها حين تختار راقصة أوبرا تحتضر على طول الرواية
بطلة لها فى أشارة لإحتضار الثقافة ورموزها فى الأوطان العربية وذبولها،تموت مريم
وهى تحاول عبثا حماية عالمها من الانهيار، ترقص وفى رأسها رصاصة مستقرة تشكل
تهديدا مباشرا لحياتها، ترقص والمسارح تغلق ويتم تحويلها الى معسكرات إيواء يسيطر
عليها القادمون الجدد من كهوف التاريخ.تموت مريم موتاً أسطورياً يصاحبه ضجيج كبير
داخل بطل الرواية استاذ مادة الفن الكلاسيكى، ويصاحب الموت صمت خارجى رهيب، صمت
يقول ان موت الثقافة ليس جريمة فرد واحد وليست جريمة ضد مبدع وحيد، بل هى مقتل أمة
وجريمة عصبة سوداء أخطبوطية الأيادى.الرواية تستدعى الدمع ماطرا من الغلاف الى
الغلاف، لاتترك لك مجالا لأخذ الأنفاس، يسكنها الموت والفجيعة والمصائر المظلمة
والشخصيات المسحوقة المنزوعة الخصوبة والجمال بقدر ما تسكنها أرواح متوهجة مثل روح
مريم التى تبدو وسط الخراب الشامل مخلوقا نورانيا قادماً من عالم آخر. ترصد الرواية
بقسوة معالم ومظاهر ما يجرى فى الوطن العربى من تدمير متعمد للبنية الفكرية
والثقافية لمجتمعاتنا العربية وإحلال لبنية عدوانية شرسة حاقدة مسكونة بالكراهية
وعاشقة للدم والتدمير لكل ماهو قائم ، يبدو المشهد برمته مسكونا بالغرابة، قوة
مدمرة تصول وتجول ، تهدم بسرعة وتدمر وتدخل العقول كالسرطان وتستولي عليها مثلما
يستولى لص على مفاتيح سيارة ثم ينطلق بها الى الاتجاه الذى يريده، هكذا سيطرت هذه
القوة المدمرة على مفاتيح العقول وحولت أصحابها الراسفين تحت وطأة الفقر والجهل
الى أبشع أدوات تدمير عرفتها البشرية، هكذا يبدو المشهد على امتداد الرواية وهو
مشهد يبدو مألوفا على امتداد الوطن العربى،ابتداء من العراق الذى جرى مسخه ويجرى
تدميره حجرا حجرا وحقلا حقلا وتسقط نخلاته على وجهها فى كل صباح وتغيب فى رقصة
الموت الأخيرة،الكل مشغول بالتدمير الذاتى عن العدو المبتسم هانئا سعيدا ممسكا
بخيوط الفوضى موزعا لها على الأيادى التى يفترض بها ان تردعها، ونفس المشهد يتكرر
فى ليبيا ، حيث يتقاتل المتقاتلون وتوزع عليهم الساحرة الشريرة المتفجرات والأسلحة
بالتساوى وتغنى لهم أغنية الحرب والموت والاحتراق الداخلى، وهو المشهد نفسه يتكرر
فى اليمن والسودان ومصر وسوريا بدرجات متفاوتة، يختلف اللاعبون والملعب واحد وخيوط
الدمى بيد واحدة،تمضى العروبة مثل مريم بطلة الرواية نحو موتها راضىة
مستسلمةورصاصة مستقرة بالرأس تزعج ماتبقى لها من حياة، رصاصة أطلقتها يد وطنية فى
احتراق داخلى. رصاصة استهدفت مركز الفكر فى الجسد دون سواه، فهى رصاصة ذات دلالة
لاتغيب عن الفطنة.والغريب ان الرواية مكتوبة فى 1991 حسب تذييل الكاتب لها، مما
يعنى انها اشتملت على نبوءة مبكرة بما جرى
فى السنوات اللاحقة على الساحة العربية، وليس فى ذلك عجب فقد بدأ الذبول العربى فى
الجزائر فى الثمانينات حيث شهدت بدايات هجمة التصحر الثقافى ومشهد تلوين البحر
وزرقة السماء بلون الدماء، وكانت الرواية أحد أهم الأصداء التى رصدت ذلك التحول فى
المجتمع الجزائرى وكانت رواية ذاكرة الجسد للكاتبة أحلام مستغانمى اللاحقة لها فى
الصدور( بعد سنة من صدور سيدة المقام) التى صدرت فى 1996 فى طبعتها الأولى.كانت
علامة أخرى على طريق قراءة المبدعين لما يجرى.
تتمدد مريم فى رواية
واسينى الأعرج مثل نسر أسطورى يحجب الشمس عن الأرض ، تحلق مريم بجناحيها فوق أسقف
المدن العربية الغارقة فى الدم والخطايا والظلمة والأقبية السرية ومخادع السلاطين
الفاجرة، ترفع عنها ورقة التوت ، تجعل عوراتها ظاهرة تحت الشمس ونباح كلابها أعلى
من صوت المآذن كما هو فى حقيقته المرة،مريم المحرومة من الرجولة الحقة فيتم
تزويجها لعنين كما فعل بأمها قبلها حين قتلوا رجلها الشهيد الذى أودع فى رحمها
مريم نطفة وحيدة مقدسة وغير صالحة للتداول فى هذا الزمان، وبعد ان قتلوه زوجوا
الأم لشقيق الشهيد العنين العاجز المتقلب فى المواقف بين أصله وبين ما هو سائد، إن
وحدة مصير مريم وأمها هى نقطة جديرة بالتوقف عندها، مريم هى كل النساء ، وأمها هى
كل النساء،كلتاهما كانتا لرجل لم تعرفا الرجولة معه بل عرفتاها مع رجل أحببنه، فى
حالة الأم كان الزوج الأول الذى تزوجته باختيارها، وفى حالة مريم كان استاذها
الراوى الذى جمع بينها وبينه حب الموسيقى والحياة، وكأن النص يقول ان التكامل
الروحى والجسدى أساسه الحب والتفاهم وليس ورقة رسمية تسمى عقد زواج.يبكى واسينى مريمه
بكائية تتشابه مع بكائية (محيميد)الطيب صالح لمريمه، فيقول بطل واسينى)ماذا بقى منك الآن يامريم؟ تنامين داخل برادات الموت، وحيدة بعد أن
نزعت منك الرصاصة الطائشة روحك فى ذلك المستشفى البارد القاسى. أقرأ عينيك لحظة
الحسرة التى تنام فى الحلق.ماذا بقى منك يا مريم؟ كثير من الحنين وكسر عميق مثل
محيط هذا الخراب الذى ىزداد اتساعا يوما بعد يوم. كل الأغاني والأحزان ومشاق
الوحدة، صارت تؤدي اليك.)ص 213 سيدة المقام.
ويواصل (رائحة جسدك ماتزال عالقة بجسدى مثل
الذاكرة المثقلة بالأوشام والتواريخ والأرقام والسحب التى ركضنا وراءها ذات طفولة
فقيرة. والبحر الذى كلما اكتشفناه ولمسنا اتساعه، ازددنا صغرا.شئ ما فى طفولتنا
المشتركة، يحن الى ذاته المقتولة، نبحث داخل الكلمات عن أشيائنا الضائعة.)ص217
سيدة المقام.
ولنسمعها وهى
تنعى الوطن والزمن:جاء بنوكلبون.وهاهم
يمضون، يأتى حراس النوايا ويمضون.وتأتى فلول أخرى وتمضى ونأتى نحن ونمضى، لكن شيئا
واحدا سيبقى أبدا، هو هذا الصدى الملئ بالعشق والحب والحنين، الذى يحول قلوبنا الى
نور مشع.) سيدة المقام 252 ،253. ويرسم واسينى لمريم مشهدا فانتازيا مماثلا لمريم
الأخرى عند الطيب صالح:(أغمضت عينيها، غامت وسط الغمامة البنفسجية بهدوء، وظلت
تغرق فى داخلها حتى أختفت نهائيا عن الأنظار، شئ من السحر داخل موسيقى البالية
والأوبرا يحولها إلى نور شفاف جداً.) سيدة المقام ص 254.
ثم يورد مشهدا يصل حد
التطابق مع مشهد رسمه الطيب صالح لمريمه وهى تمسى شعاعا:( تتمايل مريم مثل ورقة
البلاطان، تدور، تدور، كالنحلة، شعرها الآسيوى المتفحم، الذى يميل نحو زرقة مشعة،
ينحل، يتبعثر فى الفضاءمشكلا ظل دائرة عملاقة، أصبح قزحيا تحت الأنوار المنكسرة
التى أعطته انعكاسا فوسفورياً مدهشاً.) سيدة المقام ص 255.
ولنرى روعة التناص بين المبدعين الكبيرين نقتبس هنا المشهد المماثل
الذى كتبه الطيب صالح عن مريم الأخرى ونواح عاشقها عند موتها: (.لم يكن حلماً.
أبداً.كانت مريم نائمة على كتفى، سرت بها على ضفة نهر إلى وقت الضحى، فأيقظها لفح
الشمس على وجهها، انفلتت منى وقفزت فى الماء.كانت عارية، أشحت عنها، ولكننى لم أطق
صبراً فأدرت لها وجهى، نظرت، فإذا هى فى بركة من الضوء، وكأن أشعة الشمس هجرت كل
شئ وتعلقت بجسدها.كانت تغطس وتقلع وتختفى هنا وتظهر هناك، وتضحك لى من جهة اليمين،
ثم إذا هى تنادينى من جهة اليسار. نعم .نعم .نعم. أريد أن أغرق فى نبع ذلك الضوء
الذى ليس من أضواءهذا الزمان ولا هذه الأرض. لكننى ترددت، ليس أكثر مما يطرف جفن
العين، فى تلك اللحظة، عاد الشعاع إلى منبعه، وذهب الطيف.) مريود/ الطيب صالح.
مريم
الأخرى فى رواية مريود للطيب صالح
رواية (مريود) للطيب
صالح الشخصية المحورية والمهيمنةفيها كانت هى الأخرى شخصية أنثى تدعى مريم بت ود
جبر الدار وهى تجسد المرأة السودانية الطموحة المكبلة بالتقاليد والعرف الاجتماعي وهى الأخرى مثل مريم واسينى حلقت بأجنحة من
أحلامها وطموحها وشخصيتها القوية المتمردة على الواقع، ولكنها هى الأخرى أجهضت
أحلامها ووئدت وتحولت إلى أنشودة طويلة حزينة فى جوف عاشقها مريود أو محيميد وهو
الأخر مثل بطل واسينى خرج خارج دائرة الظلام وتعلم فى ثقافة أخرى وعاد الى الواقع
محاولا تغييره، لكن قواه لم تسعفه، ومثلما ماتت مريم السودانية ظامئة عند النهر
وهى تكافح الحمى التى استقرت بجسدها وفتكت بهاوهى تتغنى بالحب والمحبة، ماتت مريم
الجزائرية ظامئة تصارع رصاصة أستقرت فى رأسها. كل منهما ظلت تكافح ببسالة حتى
الرمق الأخير.
مريم السودانية هى
مثلها لها أحلام مشروعة بسيطة، لكن الموت حال بينها وبين أحلامها، لكن روحها بقيت
فى المكان مهيمنة مسيطرة وقوية ورافضة للموت. هكذا يصفها الطيب صالح فى رائعته (مريود)
من داخل ذاكرة عاشقها محيميد أو مريود:
(وأطلق اسمها على مريم " القنديل " تسميه مريود ويسميها
مريوم . رف طيف الصبا مثل برق في أفق بعيد ، وأحس للحظة عابرة ، مذاق الثمر ، ونهد
مريم يضغط على صدره وهما متماسكان في الماء . كان ثغرها مثل برق يشيل ويحط .
ينتظرانها هو ومحجوب خارج الحي في الصباح . ومعهما الجلباب والعمة والحذاء ، وما
تلبث مريم أن تخلع هذا وتكتسي هذا فتتحول من بنت إلى ولد . كانت تتعلم كأنها كانت
تتذكر أشياء كانت تعرفها من زمن . ثلاثة أعوام والخدعة لم تنكشف . لم يتركوا حيلة
لم يلجأووا إليها . ثم فارت الطبيعة فورتها ، وأخذ جسم مريم يذعن لنداء الحياة
الأعمق . وذات يوم استقرت عينا الناظر عليها وهي مدبرة عنه في حوش المدرسة .
اعترفت في الحال كأنها كانت قد سئمت اللعبة . غضب أول الأمر ، ثم لاحت له وجوه
الطرافة في الموضوع ،) الأعمال الكاملة/ الطيب صالح / مريود ص 255.
ثم يصور من ذاكرته طموحها وإصرارها
على التعلم فى مجتمع ينكر على المرأة حقها فى التعليم(مضوا يحفرون القبر وأنا أرى
مريم طفلة دون الرابعة، تقرأ معنا القرآن فى خلوة حاج سعد، فعلت ذلك قدرة واقتدارا.لاراد
لرغبتها العارمة فى فك طلاسم الحروف، تجئ فنطردها فلا تنطرد، فاضطررنا أنا ومحجوب
أن نعلمها، فكأننا أطلقنا جنا من قمقم.أخذت تقرأ وتحفظ وتفهم، حتى لحقت بنا وكادت
تفوتنا، وصارت تقارعناالآية بالآية والسورة بالسورة.) الأعمال الكاملة/ الطيب
صالح/ مريود/ ص285 ويصور كيف تنكرت مريم فى زى صبى حتى تدخل المدرسة وتقرأ فيها
متجاوزة قانون منع البنات من التعليم.
ويصور طموحها ورغبتها في حياة
أفضل(تقول وهى تجر عمامتى من رأسى:
"نسكن البندر، سامع ؟ البندر، الموية بالأنابيب والنور بالكهرباء
والسفر سكة حديد، فاهم؟ اتمبيلات وتطورات، اسبتاليات ومدارس وحاجات وحاجات، البندر
، فاهم؟ الله يلعن ود حامد، سجم ورماد.فيها المرض والموت ووجع الرأس. أولادنا كلهم
يطلعوا أفندية.فاهم؟ زراعة أبدا، وحياة محجوب أخوى زراعة ما نزرعها أبدا!")
الأعمال الكاملة / الطيب صالح/ مريود ص 282.
ثم يصور الطيب صالح مريم فى لحظات الرحيل وهى تعود الى النهر ليصنع
منها أسطورته الخالدة فى مشهد فانتازى مهيب ( كانت مثل طائر. رفعها محجوب من نعشها فشهق ضوء المصابيح على حافة القبر،
وسمعت هبوب أمشير تنادينى بلسان مريم" لاشئ.لا أحد." خطا بها نحو القبر
فاعترضت طريقه ومددت يدى، نظر الى برهة ، ورأيت عينيه ترفان وتغرورقان، فتركها لى،
كانت خفيفة مثل فرخ طائر وأنا أسير بها فى طريق طويل يمتد من بلد الى بلد ومن سهل
الى جبل.لم يكن حلماً. أبداً.كانت مريم نائمة على كتفى، سرت بها على ضفة نهر إلى
وقت الضحى، فأيقظها لفح الشمس على وجهها، انفلتت منى وقفزت فى الماء.كانت عارية،
أشحت عنها، ولكننى لم أطق صبراً فأدرت لها وجهى، نظرت، فإذا هى فى بركة من الضوء،
وكأن أشعة الشمس هجرت كل شئ وتعلقت بجسدها.كانت تغطس وتقلع وتختفى هنا وتظهر هناك،
وتضحك لى من جهة اليمين، ثم إذا هى تنادينى من جهة اليسار. نعم .نعم .نعم. أريد أن
أغرق فى نبع ذلك الضوء الذى ليس من أضواءهذا الزمان ولا هذه الأرض. لكننى ترددت،
ليس أكثر مما يطرف جفن العين، فى تلك اللحظة، عاد الشعاع إلى منبعه، وذهب الطيف.)
مريود/ الطيب صالح / الاعمال الكاملة/ص290
ثم تخاطبه مريم بلهجة صوفية خالصة(واحسرتا عليك يامحبوبى، خير الزاد
أنا..إنني مفارقتك من هنا. لاشبع لك من بعدى ولارى، ولاشفيع ولانجى، فأضرب حيث
شئت، وتزود إن استطعت وأطلب النجاة ،إلى أن تلقانى فأعطيك المن والسلوى)ص 292
المرجع نفسه.
نسمع صوت مريم تناجى مريود فى النسخة السودانية :( وسمعت صوتها كأنه
ينزل من السماء، ويحيط بي من النواحي كافة، تطويه رياح وتنشره رياح: يا مريود. أنت
لا شيء، أنت لا أحد يا مريود، إنك اخترت جدك وجدك اختارك لأنكما أرجح من موازين
أهل الدنيا. وأبوك أرجح منك ومن جدك في ميزان العدل. لقد أحب بلا ملل، وأعطى بلا
أمل، وحسا كما يحسو الطائر، وأقام على سفر، وفارق على عجل، حلم أحلام الضعفاء،
وتزود من زاد الفقراء، وراودته نفسه على المجد فزجرها، ولما نادته الحياة..) مريود
/ الطيب صالح/ الأعمال الكاملة/ ص292.
يصف الطيب صالح رحيل
مريم بشجن ساحر:(دفناها عند المغيب كأننا نغرس نخلة، أو نستودع باطن الأرض سراً
عزيزاً سوف تتمخض عنه فى المستقبل بشكل من الأشكال، محجوب قبل خدها، وأنا قبلت
جبهتها، وكاد الطريفى يهلك من البكاء، وحملناها برفق نحن الستة ووضعناها على حافة
القبر، أسمع ذلك الصوت الذي ليس مثله صوت
يجئينى من بعيد مثل ناى سحرى فى غلالة من أضواء الأقمار فى ليالي الصيف، ولمع
الشعاع على سعف النخل الندى، ووهج النوار فى حدائق البرتقال.) المرج السابق ص 282.
ملامح الشبه بين (المرايم
)فى الروايتين كثيرة ومتعددة، فكل منهما كانت خائبة فى الحب، أحبت ولم تظفر
بحبيبها، بل ظفر بها من لم تحب،أرادت حياة وفرضت عليها حياة أخرى، حلقت بخيالها
وطموحها فاكتشفت أنها مكبلة بقيود من حديد وعانت من الهزيمة النفسية وقسوتها ولكن إرادتها
مع ذلك لم تنكسر،كان المريود فى الحالتين سلبيا يكتفى بالفرجة وذرف الدموع عند قبر
المحبوبة التى تواسيه من داخل قبرها وتحاول بث روح المقاومة فيه،صورة محيميد بطل
الطيب صالح فى (مريود) تكاد تتطابق مع صورة استاذ مادة الفن الكلاسيكى البطل عند
واسينى الأعرج فى (سيدة المقام) فى كل شئ، حتى فى رد الفعل عند موت المحبوبة ورغبة
كل منهما فى منحهاعمرا جديداً وعدم الاعتراف بموتها، فكل منهما جعل منها شعاعاً
وأنشودة للحياة عند أعتاب موتها.كل منهما جعل منها سيدة مقام رفيع وظل يدور حول
مقامه كدرويش مسحور بلا توقف. وبذلك يتحد النصان فى ملمح آخر هو ذلك النفس الصوفى
الواضح حتى فى العنوان( مريود) و (سيدة المقام)فالمفردة الصوفية واضحة جدا وموحية
ومحيلة الى أجواء صوفية حميمة يحفل بها النصان حتى فى طريقة السرد التى اعتمدت على
السرد من الحاضر رجوعا الى الماضى( فلاش باك.) معطوناً فى الحنين والحزن والشجن
والأشواق الموؤدة وبناء الأسطورة الخاصة بصاحب المقام تماما كما يفعل الصوفية حين
يسردون كرامات أصحاب المقام.لكن فى النصين يكتشف القارئ ان ما بدا مرثية شخصية هو
فى الحقيقة مرثية وطن وأمة مسحوقة تحت الأقدام، وأن المرايم فى الحقيقة هن رمز
أكثر منهن نساء من لحم ودم. وذلك ملمح آخر مشترك بين الكاتبين والنصين وهو استعارة
الفردى لخدمة ما هو عام وسرد قصة أمة عبر قصة أنثى تسيطر على السرد مثل نسر أسطوري.
الغرض من الإشارة الى
التناص هنا هو ليس للتدليل على ان هذا النص أو هذا الكاتب أخذ من ذلك، فكلا
الكاتبين قامة سامقة بطريقته وإبداعه، بل الغرض هو مسائل جمالية ومعرفية وثقافية
بحتة،تتعلق بمفهوم التناص نفسه وتجلياته فى الأدب العربى الحديث والقديم.
التناص في الأدب هو مصطلح
نقدي يقصد به وجود تشابه بين نص وآخر أو بين عدة نصوص. وهو مصطلح صاغته جوليا كريستيفا
للإشارة إلى العلاقات المتبادلة بين نص معين ونصوص أخرى، وهي لا تعني تأثير نص في آخر
أو تتبع المصادر التي استقى منها نص تضميناته من نصوص سابقة ، بل تعني تفاعل أنظمة
أسلوبية . وتشمل العلاقات التناصية إعادة الترتيب ، والإيماء أو التلميح المتعلق بالموضوع
أو البنية والتحويل والمحاكاة.وهو من أهم الأساليب النقديه الشعرية المعاصرة وقد تزايدت
أهمية المصطلح في النظريات البنيوية وما بعد البنيوية. وهو مصطلح أريد به تقاطع النصوص وتداخلها ثم الحوار
والتفاعل فيما بينها.
الناقد الفرنسى ت. تودوروف أشار إلى المصطلح بصفة عرضية قائلاً
"أنه من الوهم أن نعتقد بأن العمل الأدبي لـه وجود مستقل، أنه يظهر مندمجاً
داخل مجال أدبي ممتلئ بالأعمال السابقة وعليه يتحول كلّ عمل فني يدخل في علاقة
معقدة مع أعمال الماضي .
فسواء كان المصطلح
تناصا أم حوارا، تداخلا أم تعالي أم تماهي أم نظير نصي، فهو تقاطع لنصوص اختمرت في
الشبكة الذهنية للمبدع، فهذه الاختراقات تتم بصفة لا شعورية تكون جلية أو خفية
يستقرئها القارئ النموذجي، الذي يستطيع أن يكتشف ما وراء السطور، وهذا الذي سماه
مايكل ريفاتير "بالقارئ الخارق" وسماه نقاد آخرون القارئ المطلع أو
القارئ الكفء". فالقارئ الذي توكل له مهمة البحث بين ثنايا السطّور يختلف عن
القراء العاديين، فهو يقبل على النص بمعرفة مسبقة، وهى التي تكسبه القيم التأويلية
التي تظهر من خلال روافد النص، وذلك بربطه بالنصوص الأخرى، ومعرفة جينية الفكرة
التي يكون المبدع بصدد التعريف بها، في طريقة يتفاعل بها مع الماضي والحاضر
والمستقبل. التناص فى تقديري ينتج معرفة جديدة بالنصوص والعلاقات السرية
بينها والتى قد ترجع الى عوامل عديدة، من بينها تشابه المصائر والواقع والإشكالات
الموجودة فيه، وقد لايتوافر كل ماتقدم، ولكن الينابيع الثقافية المشتركة تجعل
مياها مشتركة كثيرة تجرى تحت الجسر برغم اختلاف الزمان والمكان بين كتاب النصوص.
هذه المقاربة النقدية بين النصين تكشف الشفافية العالية للمبدعين، فكل منهما رأى
ما لم يراه الناس فى زمانه وسبق الأحداث ببصيرته ورأى شجراً يسير ، صرخ بقومه
محذراً، فلم يلتفت إليه أحد، فكان الحريق فى السودان فى مشهد التسعينات العاصف
الذى انتهى بالسودان دولتين ودول تتأهب للانشطار، وفى الجزائر كان المشهد عاصفا
ولايزال.أما فى عالمنا العربى الكسيح فالصورة لاتحتاج الى تعليق، ودموع مريم ومريم
الأخرى سالت فى كل الدول العربية تقريبا، بلا جدوى، ولازال بلدوزر الموت يحصد
الرؤوس ويحيل المسارح مقابرا كما حدث لصالة مريم الجزائرية بأسم ربيع مزعوم هو فى
الحقيقة نقيضه، هو أنهار من الدم والدمار لبنية المجتمعات العربية، ولازالت الصفوف
تمضى نحو القبور باكية حزينة مثل بطلا الروايتين، وكأنهما كانتا ترسما بريشة واحدة
صورة فاجعة لما يجرى.ولايقف التناص فى الروايتين بين (مريم) و(مريم)، بل يمتد
ليكون (محيميد) و(استاذ الفنون) نسخة مكررة فى صراعها ومصيرها واكتشافهما لذاتهما
على وقع فجيعة موت مريم:يقول بطل سيدة المقام:(مريم!! ما أبهجك!! وأنا داخل آلامك
الكثيرة.إنى متعب.دعينى أنام.أريد أن أغفو إغفاءة المتصوف الحزين الذى لم يعد يرى
إلا أوجه الصحبة الأجلاء) ثم يصرخ:(كه ..كه..بربك انت استاذ جامعى؟ وكاتب؟ وعاشق
للفن الكلاسيكي؟ يارجل يكفى من النكت.أنت لاشئ فى هذا الفضاء المؤكسد.حراس النوايا
كانوا محقين عندما قالوا لك،يكفى من الفستى(الكذب)، أستاذ الزفت، لاشئ فيك يثبت
هويتك التى لم يسأل عنها حتى حراس النوايا.مامعنى الهوية فى وطن ليس لك؟) ص273 ثم يبدأ جلد الذات بقسوة تحت وقع المعاملة المهينة
التى تعرض لها بعد موت مريم لتضيف الى الحزن يأساً:
(من تكون؟رموك فى
مزبلة فى نهاية المطاف.شحنوك فى أول سيارة بلدية مخصصة لجمع القمامة ثم رموك مثل
الأشياء المستهلكة فى مزبلة الأحياء الفقيرة. كنت بين الدوخة والدوخة ،تستنشق كل
وساخات الدنيا. كانت الروائح كريهة جدا)سيدة المقام ص274
وفى مريود يتعرض
محيميد لتجربة مماثلة ولكن السوط الذى لسعه بالحقيقة كان صوت مريم:(العيون عيون
مريود والخشم خشم مريود، والحس حس مريود.لكين انت ما مريود.) ص 289 الإعمال
الكاملة.
( يامريود، أنت لاشئ،
أنت لاأحد يامريود، إنك اخترت جدك وجدك أختارك لأنكما أرجح فى موازين أهل الدنيا)
وتنتهى الرواية ومريود يؤمن على هذا الكشف قائلا( نعم. قلت نعم)ص292. تبقى سيدة
المقام رواية مكتوبة بنفس واحد مثل الصهيل، أنشودة محبة طويلة وكتاب حزن نبيل،
وحفر بالأظافر فى شوراع يخلى الجمال فيها الطريق للقبح، وتسحق الورود فيها
بالأحذية وترفع المصاحف على أسنة رماح القتلة وحرابهم فى كل صباح، إنها بحق رواية
المشهد العربى المعاصر.
صلاح الدين سر الختم
على
الخرطوم
السادس من يناير 2014
المراجع:
1/سيدة المقام/
رواية/ واسينى الأعرج/ موفم للنشر1997/الطبعة الأولى 1996. الرواية مكتوبة فى
1991.
2/مريود/ رواية/
الطيب صالح/ الأعمال الكاملة/ دار العودة/ الطبعة الأولى دار الجيل
الرواية مكتوبة فى
1983 ونشرت فى 1987.
3/
رولان بارث، لذة النص، تر فؤاد صفا والحسين
سبحاز، دار توبقال للنشر، طـ.1 1988.
4/علم
النص – جوليا كريسيتفا : ترجمة فريد النراهي ، توبقال للنشر ،
*الطيب
صالح (1929 - 18 فبراير 2009)، أديب سوداني وأحد أشهر الأدباء العرب أطلق عليه النقاد
لقب "عبقري الرواية العربية". عاش في بريطانيا وقطر وفرنسا.
الطيب
صالح - أو "عبقري الرواية العربية" كما جرى بعض النقاد على تسميته- أديب
عربي من السودان، اسمه الكامل الطيب محمد صالح أحمد. ولد عام (1348 هـ - 1929م) في
إقليم مروي شمالي السودان بقرية كَرْمَكوْل بالقرب من قرية دبة الفقراء وهي إحدى قرى
قبيلة الركابية التي ينتسب إليها، وتوفي في أحدي مستشفيات العاصمة البريطانية لندن
التي أقام فيها في ليلة الأربعاء 18 شباط/فبراير 2009 الموافق 23 صفر 1430 هـ. عاش
مطلع حياته وطفولته في ذلك الإقليم، وفي شبابه انتقل إلى الخرطوم لإكمال دراسته فحصل
من جامعتها على درجة البكالوريوس في العلوم. سافر إلى إنجلترا حيث واصل دراسته، وغيّر
تخصصه إلى دراسة الشؤون الدولية السياسية.
**واسيني الأعرج. روائي جزائري يكتب بالفرنسية والعربية (ولد 8 أغسطس 1954 بقرية سيدي بوجنان الحدودية- تلمسان)
اعماله:
البوابة الحمراء(وقائع من أوجاع رجل). دمشق/ الجزائر 1980
طوق الياسمين (وقع الأحذية الخشنة). بيروت1981 (سلسلة الجيب: الفضاء الحر-2002 Libre Poche )
ما تبقّى من سيرة لخضر حمروش. دمشق 1982
نوار اللوز. بيروت 1983 - باريس للترجمة الفرنسية 2001
مصرع أحلام مريم الوديعة. بيروت 1984 (سلسلة الجيب: الفضاء الحر-2001 Libre Poche )
ضمير الغائب. دمشق 1990 (سلسلة الجيب: الفضاء الحر-2001 Libre Poche )
الليلة السابعة بعد الألف: الكتاب الأول: رمل الماية. دمشق/الجزائر 1993
الليلة السابعة بعد الألف: الكتاب الثاني: المخطوطة الشرقية. دمشق- 2002
سيدة المقام. دار الجمل- ألمانيا/الجزائر 1995 (سلسلة الجيب: الفضاء الحر-2001 Libre Poche )
حارسة الظلال. الطبعة الفرنسية. 1996- الطبعة العربية 1999 (سلسلة الجيب: الفضاء الحر-2001 Libre Poche )
ذاكرة الماء. دار الجمل- ألمانيا 1997 (سلسلة الجيب: الفضاء الحر-2001 Libre Poche )
مرايا الضّرير. باريس للطبعة الفرنسية. 1998
شرفات بحر الشمال. دار الآداب. بيروت 2001، باريس للترجمة الفرنسية 2003 (سلسلة الجيب: الفضاء الحر-2002 Libre Poche )
مضيق المعطوبين. الطبعة الفرنسية.2005 (سلسلة الجيب: الفضاء الحر-2005 Libre Poche )
كتاب الأمير. دار الآداب. بيروت. 2005 - باريس للترجمة الفرنسية 2006 (سلسلة الجيب: الفضاء الحر-2006 Libre Poche )
رواية البيت الأندلسي . دار الجمل - 2010.
جملكية أرابيا منشورات الجمل 2011 م
راواية مملكة الفراشة ٢٠١٣ م
**واسيني الأعرج. روائي جزائري يكتب بالفرنسية والعربية (ولد 8 أغسطس 1954 بقرية سيدي بوجنان الحدودية- تلمسان)
اعماله:
البوابة الحمراء(وقائع من أوجاع رجل). دمشق/ الجزائر 1980
طوق الياسمين (وقع الأحذية الخشنة). بيروت1981 (سلسلة الجيب: الفضاء الحر-2002 Libre Poche )
ما تبقّى من سيرة لخضر حمروش. دمشق 1982
نوار اللوز. بيروت 1983 - باريس للترجمة الفرنسية 2001
مصرع أحلام مريم الوديعة. بيروت 1984 (سلسلة الجيب: الفضاء الحر-2001 Libre Poche )
ضمير الغائب. دمشق 1990 (سلسلة الجيب: الفضاء الحر-2001 Libre Poche )
الليلة السابعة بعد الألف: الكتاب الأول: رمل الماية. دمشق/الجزائر 1993
الليلة السابعة بعد الألف: الكتاب الثاني: المخطوطة الشرقية. دمشق- 2002
سيدة المقام. دار الجمل- ألمانيا/الجزائر 1995 (سلسلة الجيب: الفضاء الحر-2001 Libre Poche )
حارسة الظلال. الطبعة الفرنسية. 1996- الطبعة العربية 1999 (سلسلة الجيب: الفضاء الحر-2001 Libre Poche )
ذاكرة الماء. دار الجمل- ألمانيا 1997 (سلسلة الجيب: الفضاء الحر-2001 Libre Poche )
مرايا الضّرير. باريس للطبعة الفرنسية. 1998
شرفات بحر الشمال. دار الآداب. بيروت 2001، باريس للترجمة الفرنسية 2003 (سلسلة الجيب: الفضاء الحر-2002 Libre Poche )
مضيق المعطوبين. الطبعة الفرنسية.2005 (سلسلة الجيب: الفضاء الحر-2005 Libre Poche )
كتاب الأمير. دار الآداب. بيروت. 2005 - باريس للترجمة الفرنسية 2006 (سلسلة الجيب: الفضاء الحر-2006 Libre Poche )
رواية البيت الأندلسي . دار الجمل - 2010.
جملكية أرابيا منشورات الجمل 2011 م
راواية مملكة الفراشة ٢٠١٣ م

.jpg)
.jpg)