Monday, March 24, 2014

القصة القصيرة عند نجيب محفوظ (2) القصة القصيرة مشهد نابض بالحياة والحيوية( دنيا الله) أنموذجا



تجربة نجيب محفوظ القصصية تجربة خاصة جدا وفريدة جدا وتستحق الوقوف عندها، فهى مختلفة من حيث قالبها الفنى ومن حيث طريقة السرد فيها والتى تتميز بالتمهل الذى يجعلها أقرب للرواية خلافا لمحاذير النقاد وقوالبهم الجامدة بشأن القصة القصيرة التى تشدد على الإيجاز وسرعة التوجه نحو الخاتمة، والحقيقة أن القصة القصيرة عند كتابها الكبار مثل نجيب محفوظ والدكتور يوسف ادريس وتشيخوف لم تتميز بالإيجاز والسرعة  الشديدة نحو الخاتمة، بل تميزت بالاقتراب من الرواية فى التمهل وهى تتجه نحو النهاية حسب ايقاع القصة نفسها وليس وفقا لمعيار النقاد الجامد.بذلك تبدو القصة القصيرة فى الممارسة الإبداعية مشهدا يغص بالتفاصيل المختارة بعناية بحيث يمكن وصفها بالمضغوطة
ويتميز السرد بالتركيز على الحدث الرئيس والشخصية الرئيسة وتوظيف كل ما عدا ذلك لخدمة المغزى الكلى، دون التوقف عند المسائل الجانبية التى ترد عرضاً،  ولذلك نجد القصة القصيرة عند هولاء المبدعين الكبار تتميز باللغة السردية التى تبدو مثل الكاميرا فى واقعيتها فى تصوير الاشياء المادية كما هى ، وفى تصويرها للعالم الداخلى للشخوص عبر السرد والوصف المباشر دون حذلقة وتأنق للمفردة، ولايوجد أى توجه نحو التهويم الشعرى والمجاز فى تلك النصوص، وهذه ملاحظة جديرة بالتوقف عندها.
فى قصة (دنيا الله) المنشورة ضمن المجموعة القصصية الحاملة لذات الأسم تبدأ القصة مباشرة بمشهد سينمائي بديع للمكان والشخوص(دبت الحياةفى إدارة السكرتارية بدخول عم ابراهيم الفراش.فتح النوافذ واحدة بعد أخرى، ومضى يكنس أرض الحجرة الواسعة بلب شارد ودون إكتراث.واهتز رأسه بانتظام وبطء، وحرك شدقاه كأنما يلوك شيئا. فقلقت تبعا لذلك منابت الشعر الأبيض فى ذقنه وعارضيه،أماصلعته فلم تكن بها شعرة واحدة. وعاد الى المكاتب ينفض عنها الغبار ويرتب الملفات والأدوات.) ص 6.
هذا المشهد يدخل القارئ مباشرة فى عالم القصة المتخيل، لايعود الأمر وصفا مكتوبا فى كتاب، بل عالما يموج بالحياة والواقعية يدخله القارئ، فيكاد يلامس الغبار والملفات ويكاد يلامس صلعة العم ابراهيم الغارق فى هذا العالم ، وندرك من الوهلة الأولى أن الحكاية محورها هذا الرجل المهمل (بالضم) فى هذا المكان الرتيب الممل الباعث على التمرد بطبيعته.
بعد ذلك المشهد الإفتتاحى ينفتح المسرح ( المكان) لبقية الشخوص :( كان السيد أحمد كاتب المحفوظات أول من حضر، جاء بكاهل ينوء بخمسين عاما  ووجه نقش على صفحته امتعاض ثابت كأنه سجل لقرف الزمن.)ص 6.
وينفتح لشخص ثالث:(وتبعه السيد مصطفى الكاتب على الآلة الكاتبة الذى يضحك كثيرا لكنه ضحك متوتر يدارى به همومه اليومية.) ص 6.
ومثلما يحدث فى العروض المسرحية يتوافد الشخوص على الخشبة: (ثم جاء سمير أو الرجل الغامض كما يدعى فى الإدارة، والجندى الذى ينم تطلق أساريره على أنه لم يخرج من نعمة الطفولة. ودخل يتبختر السيد مصطفى، أنيقاً ذهبى الخاتم والساعة ودبوس الكرافتة. ولحق به حمام .رقيقاً نحيفاً منطوياً على نفسه. وأخيرا حضر سيادة مدير الإدارة الاستاذ كامل، محوطاً بهالة من وقار، وفى يده مسبحة.) ص 6. ونلاحظ الإيجاز فى عرض الشخوص وتركيز الكاتب الوصف لكل منهم فى كلمات قليلة كافية لإعطاء ملمح مهم عنهم، ونلاحظ انهم جميعا أرفع مكانة من الشخصية الرئيسة عم ابراهيم الفراش، وهذه المقارنة بينهم وبين عم ابراهيم مقصودة ، فالتطور اللاحق وحبكة القصة يصبح فيها الفقير قليل المكانة مهيمنا على السرد وعلى مصائر هولاء، وحتى يعمق نجيب محفوظ المغزى والمقارنة يعطى إشارة استباقية لمجرى الأحداث بهذا التصوير لمشاعر عم ابراهيم وهو فى مرحلة التخطيط للحدث الذى سيجعله المهم فى مجرى الأحداث بحيث يخرجه من ركنه المظلم الى دائرة الضوء، يصور نجيب محفوظ ذلك هكذا(وإذا بعم ابراهيم يعود بصينية ممتلئية. وراح يوزع سندوتشات الفول والطعمية والجبن والحلاوة الطحنية. وطحنت الأفواه الطعام وتجاوب التمطق فى الأركان ولم تتحول الأعين عن أعمدة الصحف. ووقف عم ابراهيم عند مدخل الإدارة يرقب الآكلين بنظرة غريبة من عينيه الذابلتين.) ص 7.
سبب نظرة عم ابراهيم الغريبة كان هو أنه فى تلك اللحظات كان قد قرر أن يسرقهم جميعا ويختفى بمرتباتهم التى اعتادوا ارساله لاحضارها، عم ابراهيم وقع صريع هوى متأخر ، حيث عشق فتاة مشردة تعمل بائعة يانصيب فى قهوة، لذلك اتخذ قرارا بالاختفاء بالنقود وقضاء وقت طيب فى مصيف مع الفتاة . ومن الروائع فى القصة تصوير نجيب محفوظ للمكان الذى عاش فيه الرجل مدفونا وهو  حى (كبس البوليس بيت عم ابراهيم بدرب الحلة. وكان المسكن عبارة عن حجرة أرضية بحوش قديم تهدم سوره أو كاد. لم يكن بالحجرة الا مرتبة متهرئة وحصيرة وكانون وحلة وطبق صاج وامرأة عجوز عوراء تبين أنها زوجته. ولم يكن له من ثياب إلا جلباب.) ص 13. وانتهت مغامرة عم ابراهيم بقضائه اسبوعا فى الحياة كما اراد ومن ثم انتهى به الأمر مقبوضا عليه خاوى الوفاض من المال وسؤال المخبر الذى القى عليه القبض  يرن(تقدر تقول لى ماذا دفعك الى تلك الفعلة وأنت فى هذا العمر؟؟) كانت الخاتمة هى رد عم ابراهيم على السؤال :(الله....) ندت عنه كالتنهيدة... ص 20.
القصة تصور تمرد الإنسان البسيط على واقع لا إنسانى يرزح تحته ويبدو الأفق مسدودا أمامه الى ما لانهاية، عندها يقرر أن ينتزع من الحياة حقه عنوة ولو للحظات قليلة.  القصة تصور البطل فى لحظة فارقة من حياته، لحظة يقف فيها على حد السيف غير مبال بما يصيبه من جراح، فينتزع بذلك تعاطف القارئ الذى ينسي أى وصف أخلاقى يمكن إطلاقه على سلوك البطل، ويتسامح معه ويملؤه شعور مماثل بالراحة كون البطل انتصر لذاته فى وجه القبح الذى حاصره فلم يترك له مجالا سوى الاختيار الذى اختاره.
الدروس الأساسية المستخلصة من قراءة هذا النص هى أن أفضل طريقة لكتابة القصة القصيرة هى قراءة نصوص مبدعيها الكبار، وأن معايير النقاد يجب أن تخضع للأمتحان على ضوء النصوص الجيدة وليس العكس، فليس كل قالب يصيغه النقاد صحيح بصورة مطلقة، ففى بعض الأحيان تكون قواعد النقاد الصماء مثل الملابس الجاهزة( جيدة ولكنها لاتصلح لجميع الناس) بعض الناس من الأفضل أن تؤخذ مقاساتهم وتفصل ملابسهم على ضوءها، وبعض النصوص هى القاعدة التى يجب أن يقاس عليها وليست الجسد الذى يجب حشره فى قالب جامد قسراً. القاعدة الذهبية التى نخرج بها من الدراسة هى أن
النقد يجب أن يكتشف قوانين كتابة النصوص من داخلها وليس له أن يفرض عليها قوالب جامدة من خارجها.
نواصل قراءة نصوص المجموعة فى الأجزاء القادمة من الدراسة.
 صلاح الدين سر الختم على

الخرطوم 25 مارس 2014

Wednesday, March 5, 2014

كبسولة حول القصة القصيرة جدا (قواعد كتابة القصة القصيرة جدا) صلاح الدين سر الختم على

         
من قواعد كتابة القصة القصيرة جدا المهمة مايلى:
أولا:عدم الإسراف في الجمل والعبارات، كل جملة وكلمة لها وظيفة، وإذا أمكن حذفها دون أن يتأثر النص بالحذف، فاحذفها بلا تردد ، لأنها زائدة ولاوظيفة لها.
ثانيا/فكرة النص يجب أن تكون واضحة ، والوضوح لايعنى التقرير، بل مزيدا من الإضمار  والخفاء.
ثالثا/ تجنب تعدد الشخصيات والحوادث، فتلك سمات الرواية لا القصة.
رابعا/النص يجب ان يكون متجها بقوة نحو الخاتمة، ولاتمهل فيه،بل يكون فيه توترا عاليا وتصاعدا مع الاقتراب من الخاتمة.
خامسا/ الخاتمة يجب أن تتميز بالقوة والتوهج وأن تحتوى على المغزى كملمح وليس تقريرا وصياحا به.
سادسا/ تجنب التصريح بالمضمون فى العنوان، العنوان يجب الا يكون شرحا للقصة، بل جزءا من لعبة إخفاء المغزى.
سابعا/ اللغة يجب تخليصها من المجاز والشاعرية والتحكم بها.
ثامنا/ ضرورة أن يروى النص حكاية، النص بلا حكاية تثير التساؤلات ليس قصة قصيرة جدا.
صلاح الدين سر الختم على
مروى

5مارس 2014