Friday, September 20, 2013

رواية الحفيدة الامريكية للعراقية / إنعام كجه جى رواية الجراح الموجعة وصراع الهوية المتبدلة


رواية (الحفيدة الامريكية) للكاتبة العراقية (إنعام كجه جى) المقيمة فى فرنسا هى رواية اخرى تتكىء على التاريخ وتلامس جراحه الموجعة  فهى تروى قصة العراقية (زينة بهنام) حفيدة عقيد فى الجيش الوطنى العراقى ، تركت بلدها مراهقة صغيرة واستقرت مع والدتها فى الولايات المتحدة الامريكيةبسبب الإضطهاد في وطنها وعادت الى العراق بعد الغزو الامريكى للعراق ، جندية فى صفوف جيش الاحتلال ، الرواية تجسد فصلا مهما من التاريخ العربى والانسانى المعاصر،  فصل الاحتلال المباشر للعراق ، فصل تبديل الهوية الوطنية وسلخ الجلد والتخلى عن الانتماء للعروبة والوطن ،فصل العودة الي عصور الغزو والاحتلال والاستعباد للشعوب. الرواية عبارة عن سياحة مؤلمة فى ردهات التاريخ المعاصر ، الرواية صدرت طبعتها الثانية فى 2009 عن دار الجديد / بيروت – لبنان وتقع احداثها فى مائة خمسة وتسعون صفحة من القطع الصغير المتوسط وهى واحدة من ست روايات اختيرت على اللائحة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) 2009 .
تصور الرواية رحلة عودة الامريكية من اصل عراقى (زينة بهنام) الى وطنها ومسقط رأسها مع الجيش الغازى بعد ان بدلت هويتها الوطنية وباتت مواطنة امريكية على الورق الرسمى ولكن هويتها الاصلية لم تمت بداخلها بل ظلت حية تعذبها وتجلدها جلدا موجعا تصفه البطلة فى الرواية بشكل دقيق حيث تصور التقائها مع ابناء وطنها المحتل بعد ان باتت جندية فى الجيش فى الجيش الغازى (مررنا برجال ذوى شوارب كثيفة ولباس ابيض ، يعتمرون كوفيات ناصعة ظهروا من وراء اشجار السرو راحو يرمقون رتلنا بنظرات من نار  وددت لو اقفز من العربة المدرعة واصيح (الله ساعدهم) ! ان اتبادل واياهم اى حديث ، كنت اريد ان اتباهى امامهم بأننى منهم ، سليلة منطقتهم ، اتكلم لغتهم بلهجتهم ، وبأن جدى هو العقيد اركن يوسف الساعور الذى كان فى اربعينات القرن الماضى مساعدا لمدير التجنيد  فى الموصل ، لكن كل ذلك كان مخالفا للتعليمات ، التعليمات تريدنى خرساء ، لذلك تضايقت ، للمرة الاولى من بزتى العسكرية التى تعزلنى عن الناس كأننى فى خندق وهم فى اخر وعلى ان اكون ابنتهم وعدوتهم فى آن ، وان يكونوا هم ، فى الوقت عينه أهلى وخصومى ) .
تصور الرواية كيف اقنع الاعلام الامريكى العراقيين المقيمين فى امريكا بأن احتلال بلدهم مهمة وطنية (كنت اقول مثلما تقول (فوكس نيوز) إننى ذاهبة فى مهمة وطنية ، جندية اتقدم لمساعدة حكومتى وشعبى وجيشى ، جيشنا الامريكى الذى سيعمل على اسقاط صدام وتحرير شعب ذاق المر .) وتقول لتقنع نفسها بنبل مهمتها : (مساكين اهل العراق ، لن يصدقوا اعينهم حين تتفتح على الحرية ، حتى الشيخ العجوز منهم سيعود ولدا صغيرا وهو يرشف حليب الديمقراطية ويتذوق طعم الحياة كما عشتها انا هنا . ) ، وتقول فى الوقت نفسه بوقاحة امريكية حقيقية السبب الحقيقى لمشاركتها فى المهمة النبيلة : (افكار كانت تشع فى راسى وتضىء سيارتى وتزداد إلتماعا حين تعثرت بالمائة وستة وثمانين الف دولار ، ثمن لغتى النادرة ، بل ثمن دمى . ) .
ان السبب الحقيقى إذا هو الدولار المنتظر حصاده ليس الا .
ولا تستحى الفتاة العراقية الاصل الامريكية الهوية من القول (كيف تكون المشاعر الوطنية ؟ خزعبلات لم تكن تعنى لى الكثير ، لا فى طفولتى العراقية ولا فى شبابى الامريكى ، لكن ما حدث فى الحادى عشر من سبتمبر اصابنى بمس كهربائى سرت حرارته فى اجسام كل من اعرف من اصدقاء وجيران ، تحولنا الى كائنات تهتز وتنتفض وتطلق اصوات استنكار وهلع. )
تؤرخ العراقية التى باتت امريكية لحدث العصر (احداث الحادى عشر من سبتمبر ) وترصد اثرها على الحياة والناس (رأيت طائرة تصطدم ببرج ، وكان هناك على الشاشة برج مجاور يحترق ، جمدت فى وقفتى ولم اجلس ، كنت اعرف هذين المبنيين ، رأيت امريكا تحترق امامى وشممت رائحة الشواء) .
الرواية مكتوبة بضمير المتكلم الذى يتولى اسرد من البداية الى النهاية مسيطرا على فضاء السرد راويا عليما يمثل مركز المعرفة ولا يسمح لغيره بمشاركته السرد – انها رواية الصوت السردى الواحد المهيمن ، كأنما ارادت المؤلفة ان يتماهى القالب الفنى مع الشخصية الامريكية المهيمنة بطبيعتها والتى تجعل من نفسها مركزا للعالم وجلادا وقاضيا يصدر الاحكام وينفذها ويبررها منفردا ، ولكن شخصية البطلة المركبة (عراقية تحت الجلد وامريكية فوقه ) تجعل الصوت السردى الوحيد يبدو كأنه صوتان يتنازعان السرد ، فالصراع داخل شخصية البطلة بين هويتها الاصلية وهويتها الجديدة المكتسبة يجعل السرد متنازعا بين رؤيتين للعالم رؤية الامريكية المنتصرة الراغبة فى تبرير كل فعل ، ورؤية العراقية المهزومة التى تنظر بعين المهزوم وعين الريبة والتجريم لما جرى ويجرى بارض العراق ، انه صراع القوتين المتصارعتين في شوارع بغداد واحيائها المدمرة بالقذائف الامريكية ينتقل الى داخل (زينة) العراقية الامريكية التى جاءت لتترجم للجيش الغازى كفرد منه فوجدت نفسها تتحول الى وثيقة إدانة ومراسل صحفى يوثق لما جرى من وجهة نظر المفعول به ، لقد تحولت المترجمة الى مترجمة للأهالى العراقيين المسحوقين تحت الدبابات الأمريكية بدلا عن كونهامترجمة للجيش الامريكى الغازى.
فى كل سطر من الرواية نشتم رائحة التاريخ ، ففى الرواية تروى البطلة تاريخها الشخصى منذ ان كانت طفلة فى العراق وكيف انتقلت مع اسرتها جبرا من العراق الى الأردن ثم لاجئين الى امريكا وتحكى رحلة العودة الى الوطن غازية مع جيش غازى بعد خمسة عشر عاما من مغادرته هاربة لاجئة بهوية مستعارة ، وتحكى حكاية والدها المذيع الرقيق فى التلفزيون العراقى الذى افاق ذات صباح ليجد نفسه مطلوبا امنيا نتيجة وشاية كاذبة ، يعتقل من بيته ويصفع امام اسرته ثم يعذب تعذيبا نكرا بواسطة زبانية صدام حسين ن وعندما تشكو زوجته لاستاذ جامعى تعذيب زوجها يقول لها انه لم يعذب بل تم اللهو معه قليلا فقط ، عند افتقاد الاسرة للشعور بالامان تهرب الى الاردن ثم الى امريكا لاجئين من عسف السلطات العراقية ، لكن (بتول) الام تبقى مع ذلك تحن الى وطنها وتبقى وفية له بشكل مدهش تصوره البطلة فى الرواية بشكل رائع وحزين حين تصف لحظات تحول امها الى مواطنة امريكية فى الرواية وبكائها حزنا وطلبها الغفران من والدها بدلا من الفرحة (بتول لم تتهندم وتترتب مثل الالاف الذين غصت بهم المنطقة المحيطة بجامعة (وين ستيت)) (مشت امى مبتعدة عنا كمن تسير فى جنازة وجست ملمومة على نفسها تحتضن حقيبتها اليدوية وكأنها تتستر على شىء ما فى داخلها ، وبدأت ترمق جيرانها الذين لا تسعهم الفرحة بحلول موعد تجنيسهم ، انه عرسهم الجماعى الذى سيؤدون فيه يمين الولاء لوطن الجديد افائض الخيرات وبعد اداء القسم سيحق لكل منهم ان يدفع صدره الى الامام ويتباهى : (اي ام ان امريكان سيتزين)أنها قمة المأساة أن يفرح شخص بتزوير هويته الوطنىة ، لكن بتول العراقية الحزينة لم تفرح أبدا (حين بدا مكبر الصوت ينقل خطاب حاكم الولاية وهو يقرأ النص الذى يعلن الولاء للارض الجديدة ، حيث راح الامريكان الجدد الحاصلون على الجنسية للتو ، يتعانقون ويتبادلون التهانى ، حينها سمعت صوت امى يتحشرج وكأنها تختنق ، والتفتت اليها ورأيت وجهها الابيض الوديع وقد صار قرمزيا كمن داهمتها حمى ، والدموع تهطل عزيرة من عينيها . )    
ويبلغ المشهد الذروة هنا : (بينما الجموع تضع ايديها على مواضع قلوبها وتلهج بالنشيد الوطنى الذى تعزفه فرقة الجاز : (يارب احفظ امريكا ، غاد بلس امريكا) كان صوت السيدة العراقية بتول الساعور ، امى ، هو النشاز الوحيد الذى يولول بالعربية : (سامحنى يا ابى ... بابا سامحنى) .
 ان العراقية بتول الهاربة من جحيم الاضطهاد فى وطنها ظل شعورها الوطنى هو الأعلى فى داخلها فى لحظة تبديل الهوية ، ظل احساسها بالذنب وشعورها بأنها قد خانت وطنها وارثها الانسانى والعائلى اعلى من اى فرحة زائفة قد يفرحها من يمنح جنسية اكبر دولة فى العالم . إن الاضطهاد في الوطن لايبرر تغيير الجلد ونزع الهوية الوطنىة.
ان المؤلفة هنا تكتب تاريخا مزدوج الزوايا ، تاريخ العراق / تاريخ امريكا / تاريخ اسرة البطلة / التاريخ الانسانى ، هكذا تقارب الرواية التاريخ من خلال متابعة سرة شخص ثم سيرة أسرة ثم سيرة شعب ومن خلال ذلك كله تكتب الرواية تاريخ الانسانية جمعاء ففى الرواية تلتقى نيران الحادى عشر من سبتمبر المشتعلة فى قلب امريكا بالنيران التى اشعلها الجيش الامريكى فى بغداد ، تلتقى انهار الدماء فى نيو يورك بانهار الدماء فى بغداد وتكريت والحلة والرمادى وتلتقى انهار الدموع هنا بتلك هنالك . لافرق بين دماء يسأل عنها صدام ونظامه ودماء تسأل عنها القاعدة ودماء تسأل عنها الإدارة الامريكية، كلها دماء وكلهم قتلة وأن صار القاتل مقتولا فيما بعد كما هو حال صدام ورجال القاعدة وجنود الجيش الأمريكى نفسه.
لذلك كان طبيعيا ان يبقى فى البنت (زينة بهنام) التى وثقت هذه اللحظات فى حياة امها شىء مماثل من الشعور الوطنى الحى والارتباط الروحى بالعراق برغم كونها امتلكت جنسية امريكية وباتت جندية فى الجيش الامريكى الغازى للعراق – تكتب البطلة ذلك بشكل شفاف :- (ورغم حماستى للحرب اكتشف اننى اتألم الما من نوع غريب يصعب تعريفه ، هل انا منافقة ، امريكية بوجهين ؟ ام عراقية في سبات عميق مؤجل مثل الجواسيس النائمين المزروعين فى ارض العدو منذ سنوات ؟ لماذا اشعر بالاشفاق على الضحايا وكأننى تأثرت بالأم تريزا، شريكتى فى اسم القديسة شفيعتى ؟ كنت انكمش وانا اشاهد بغداد تقصف او ترتفع فيها اعمدة الدخان بعد الغارات الامريكية كأننى ارى نفسى وانا احرق شعرى بولاعة سجائر أمى ، او اخز جلدى بمقصف اظافرى . لماذا أعجز عن الجلوس فى مقعدى لخمس دقائق ، اقول للأخرى التى هى انا إن هناك اطفالا يفزعون وأبرياء يموتون بلا سبب ولا ذنب فى بغداد ، اقول لها ان الاطفال يمكن ان يكونوا ابناء رفيقاتك فى الدراسة ، والابرياء قد يكونون اولاد عمك وبنات خالاتك .) .
هكذا تبقى (زينة) رغم أنفها وانف من أرادوا محو هويتها الوطنية والثقافية وتدجينها وتلويث أيديها بدماء شعبها ، هى زينة العربية العراقية التى لا تغير فيها مسألة انتمائها الى امريكا والجيش الامريكى شيئا يبقى جوهرها الوطنى والانسانى حياً برغم كل شىء فظلت ( تنكمش ) حين تشاهد بغداد قصف بنيران امريكية وترتفع فيها اعمدة الدخان – وظلت تقول لنفسها ان آلة الحرب التى حاولت وسائل الاعلام الامريكية جعلها حربا مقدسة تحصد كل صباح اطفالا وابرياء يموتون بلا سبب ولا جريرة !!.
ان (زينة) هى ضمير حى لا يموت ،هى ضمير البشرية كله . لكنها لا تخلو من تشوهات مع ذلك فهى حين ترى الحطام والدمار فى بغداد اول مرة تميل الى تبريرة باحداث سبتمبر كما فعل الغرب فى تبريره لجريمة احتلال العراق وتدميرة فتقول (وقد رأيت ونحن نعبر جانبا من بغداد ، حطاما لم ار مثله من قبل ، بلى ... ان هذه المبانى المحترقة المتداعية التى تصفر فيها الريح تشبه الرماد الذى هطل  على نيويورك بعد ذلك الحادى عشر الاليم من سبتمبر ، ألم يقابل الما وخراب يقود الى خراب ، هذا ما كنت اتصوره وانا فى تلك المرحلة المبكرة من سذاجتى ) وفى مقطع ملىء بالسخرية تجسد الكاتبة على لسان البطلة الفرق بين ما تنشره آلة الدعاية الامريكية حول حرب العراق وبين ماهو يجرى على الارض حقيقة (لم اكن قد فكرت كيف سيستقبلنا العراقيون ، لكن ما رأيته فى القنوات الامريكية لم يكن محبطا ، هذا شعب متحمس لتغيير النظام ، يحلم بالحرية ويرحب بقدوم الجيش الامريكى ، لماذا إذا ، تطفح العيون السود البارزة من شقوق العبايات بكل هذا الصد ؟ نظرات لا تعكس الفة ولا فرحا .) .
فبينما تصور القنوات الامريكية حرب العراق بأنها حرب لتحرير شعب تواق للحرية والجنة الامريكية الموعودة ، تجد الراوية الكراهية للجيش الامريكى مرتسمة على وجوه العراقيين فى ابهى معانيها فى تكذيب صريح لآلة الحرب الاعلامية الامريكية .
وتمضى الرواية من اولها الي اخرها نغما حزينا ومرثية صادمة وصادقة للعراق الذى كان ملء السمع والبصر قبل الغزو الامريكى المدمر وتنتهى الرواية بعبارة ذات مغزى (شُلت يمينى إذا نسيتك بغداد .) .
ان الراوية تعود الى جذورها فى الختام وتخلع البدلة العسكرية الامريكية والانتماء الامريكى الطارىء لتعود الى بحرها الاصيل – بحر بغداد والعروبة الضائعة فتعود حفيدة عراقية وليست امريكية بعد ان اغتسلت فى نهر الحقيقة فى العراق من كل اكاذيب الدعاية الامريكية ومبرراتها لشن الحرب على بلاد حرة ذات سيادة وتدميرها ، ان الرواية تنتهى بعقد محاكمة قاسية لمن خططوا ونفذوا حرب العراق بحجة الاطاحة بنظام ينعقد الإختصاص والحق بشأن قبوله ورفضه وتغييره والإبقاء عليه لشعب العراق وحده . لكن من خططوا للحرب علي العراق كانوا يبحثون عن ذريعة وثياب تنكرية يخفون خلفها الوجه الحقيقي والأغراض الخفية الكامنة وراء تدميرهم لبلاد عظيمة وجيش عظيم  
الرواية قبل كل شئ لوحة انسانية رائعة عامرة بالشجن تجبر كل من يقرأها علي اعادة النظر فيما جري ويجرى بارض الحضارات باياد امريكية أصيلة ووكيلة.
صلاح الدين سر الختم على

(معاوية محمد نور) السراج الذي لم يطفئه الموت - مفكرا وناقدا وقاصاً - / صلاح الدين سر الختم على



(معاوية) العبقري الذي رسم صورة دقيقة عن مصيره قبل رحيله باثني عشر عاماً!!
قصة (إيمان) قصة سابقة لعصرها كتبها مبدع سابق لعصره0
(التيجاني يوسف بشير) و(معاوية محمد نور) و(علي عبد اللطيف) هل كانوا ضحية مؤامرة استعمارية؟
تمهيد:
يشكل القاص والناقد والمفكر والكاتب الرائد"معاوية محمد نور" فصلا مهما في كتاب الفكر والأدب السوداني – بل والعربي والعالمي – يصعب ويستحيل تجاوزه أو المرور عليه مرور الكرام فقد كتب (معاوية) في عصره القصير "1909 – 1941" اسمه بأحرف من نور في تاريخ الفكر السوداني والعالمي ولا تزال النصوص التي خطها يراعه  الغض في ذلك الزمن المبكر نسبيا تحتوي أحكاما صحيحة ونافذة إلى يومنا هذا ولا تزال كنوزا للمعرفة العميقة التي لا ينضب معينها ولا تنتهي صلاحيتها.
نحاول في هذه الساحة أن نلقي بعض الضوء على هذا الهرم السوداني الشامخ وان نعطي الأجيال الجديدة لمحات يسيرة عن عظمة هذا المفكر والناقد والقاص الموسوعي علها تكون فاتحة خير تدفعهم الى مزيد من التقصي والتحري عن الجوانب المجهولة في تاريخنا الفكري والثقافي حتى تستبين ملامح الأمة العظيمة للكافة.
من هو (معاوية محمد نور)؟
- ولد (معاوية محمد نور) في عام 1909 وهو ينحدر من عائلة ميسورة الحال عريقة الاصلK وقد كان جده لأمه "محمد عثمان حاج خالد" أميرا من أمراء المهدية>
*وقد عانى (معاوية) من اليتم المبكر حين رحل أبوه عن الدنيا قبل أن يبلغ (معاوية) العاشرة من عمره .
وتولى أخواله تربيته وكان من بينهم (الدرديري محمد عثمان) الذي كان من الرعيل الأول من المتعلمين السودانيين وقد كان أول سوداني يتولى منصب قاضي المحكمة العليا في تاريخ القضاء السوداني وقد كان من رواد الحركة الوطنية في السودان واختير عضوا في مجلس الرئاسة بعد الاستقلال.
- دخل (معاوية) الخلوة وتعلم فيها القراءة والكتابة ثم انتقل إلى مدرسة امدرمان الأولية – ثم انتقل إلى المدرسة الوسطى بعد أن اجتاز الامتحان بتفوق ملحوظ. ومن ثم اختير لدخول (كلية غردون).
- وفي كلية غردون بدأ حبه للبحث والتحصيل واضحا وتملكه حب الاطلاع بدرجة كبيرة حتى صار يدخر كل درهم يحصل عليه كي يشتري به كتباً
- ومن هذا الوقت بدأت ميوله الأدبية تبدو واضحة جلية وبدأ نجمه في عالم الأدب يتألق سريعا حيث كان يكتب في الصحف السيارة والمجلات بالسودان – ومن بينها جريدة الحضارة – الكثير من المقالات والتراجم من الأدب الانجليزي بتوقيع مستعار هو "مطالع".
- وحينما أتم معاوية دراسته الثانوية بكلية غردون سنة 1927 اختير لدراسة الطب وكانت وقفا على قلة مصطفاة من النابغين من طلبة المرحلة الثانوية. وكان الانخراط في كلية الطب – الحديثة التأسيس آنذاك – حلما يراود كل شاب في السودان ولكن (معاوية) سرعان ما جاهر بعزوفه عن الالتحاق بكلية الطب، ذاكرا انه يبغى مواصلة دراساته الأدبية التي علق بها وتملكت شفاف قلبه. وتحت ضغوط أهله وأساتذته وزملائه انخرط (معاوية) في كلية الطب وواصل دراسته بها مدى عامين اظهر خلالها تبرما بمناهجها وكان يبحث عن وسيلة للخلاص من دراسة الطب. ولما لم يجد أذن صاغية لم يجد بداً من الفرار إلى القاهرة عساه يشفي غليله من العلم والمعرفة في المجال الذي يرغب في دراسته.
وكان قراره صدمة قاسية على أهله لأسباب عديدة، ذلك انه ضحى بدراسة الطب التي كان يحسده عليها الكثيرون ، فضلا عن أن مصر في ذلك الحين كانت محرمة على السودانيين سياسيا وكان من يهبط مصر من السودانيين يعتبر هاربا سياسيا في نظر حكومة السودان الانجليزية في ذلك الوقت، لذلك سارع خاله "خالد محمد عثمان" بالذهاب إلى مدير التعليم مبديا عدم رضائه عما أقدم عليه معاوية واعدا بملاحقته في مصر لإرجاعه راجيا الاحتفاظ له بمكانه في كلية الطب ريثما يعود به وقد استجاب المدير لذلك.وفي مصر سعى خاله لدى وزارة الخارجية والمسئولين لمساعدته في العثور على (معاوية) وقد استجاب المسئولون لذلك اذ سرعان ما أتي بالفتى مخفورا بالحراس إلى قسم عابدين حيث احتجز ليلة سلم بعدها لخاله الذي عاد به للسودان.
- بعد الإعادة الجبرية إلى السودان عرض (معاوية) على خاله السماح له بالتحاق بإحدى الكليات الأدبية التي توائم مواهبه في لبنان. 
وبعد استشارة أخواله الاستاذ (ادوارد عطية) الذي نصح بتحقيق رغبة (معاوية) وافقوا على طلبه، وبعد أسابيع قليلة انطلقت السفينة تحمل (معاوية) إلى بيروت حيث التحق بكلية الآداب التابعة للجامعة الاميريكية.
- وما إن استقر معاوية في بيروت حتى تجلت مواهبه الادبية وكان معاوية أثناء إقامته ببيروت يراسل المجلات والجرائد المصرية ويبعث إليها مقالاته الأدبية ودراساته النظرية وأبحاثه الاجتماعية والفلسفية وقصصه، وكانت مقالاته تظهر على صفحات "السياسة الأسبوعية" التي كانت صفحاتها وقفا على الأدباء المرموقين – وكتب (معاوية) في أمهات المجلات العربية مثل (المقتطف) و(الهلال) و(الرسالة)و(البلاغ الأسبوعي) و(جريدة مصر) و(الجهاد).
- لما أتم دراسته في بيروت حضر إلى القاهرة ليعمل بالصحافة مدفوعا في ذلك بحماس الشباب المفكر المحب لحياة الأدب والفن، وعين محررا بجريدة مصر ومشرفا على صفحاتها الأدبية التي تضمنت الكثير من مقالاته وأبحاثه وقصصه.
- وكان (معاوية) شيئا جديدا على الأوساط الأدبية في القاهرة وظاهرة جعلت أدباء القاهرة ومفكريها يناقشون عنها في صالوناتهم ، وقد لفت (معاوية) نظر المفكر الأستاذ "عباس محمود العقاد" الذي أدناه منه وقربه إليه ، وكان يجد إمتاعا لا يعادله إمتاع في مناظرته ومناقشته في شتى الموضوعات الادبية. وقد قال العقاد عن (معاوية) بعد رحيله "لو عاش معاوية لكان نجما متفردا في عالم الفكر العربي".
- وكان معاوية) يطبق في كتاباته القواعد الغربية في النقد الأمر الذي اكسبه شهرة واسعة إلى أن ساهم في تأسيس "جماعة الأدب القومي".
- وكان معاوية جريئا في نقده، غزيرا في إنتاجه يلاحق كا ما تخرج به المطبعة ويلتهمه ويقوم بالتعليق عليه، وتميز أسلوبه النقدي بالتجرد والموضوعية وكتب معاوية إلى جانب النقد(الأقصوصة) و(القصة الطويلة) وكتب السيرة والترجمة والرواية وكان له ذوقا فنيا رفيعا فكان يتذوق الموسيقى والأدب والرسم والتصوير وكان يقدس الفن ويتنبأ بسيادته ضروب المعرفة الأخرى فيقول "سيجيء اليوم الذي تزول فيه الفلسفة كما نعرفها الآن وان الفن سيبتلع كل صنوف التفكير والشعور والدين والعلم الرياضي ليخرج بذلك فنا يحمل كل ميزة هولاء ولا يفقد طابعه الخالص وقالبه الدقيق"
- غرفة علي السطوح!!
- واصل معاوية حياته في القاهرة يرتاد آفاق الفكر ويغشي صالونات الأدب وندواته ويقضي يومه متنقلا بين المكتبات ودور الصحف، وحينما يجن الليل يأوي إلى سكنه البسيط في مصر الجديدة، وكان عبارة عن غرفة فوق سطح إحدى العمارات بها أثاث بسيط وكانت تكتظ حسب قول معاوية بالكتب والمراجع المبعثرة في أركانها وفوق قطع الاثاث، وكان (معاوية) يعيش في شظف ولا يصيب من أسباب الرزق إلا ما يقيم الأود  ولم يمض زمن طويل حتى بدا جسده المكدود يترنح تحت وطأة الجوع والإعياء وصار نهبا للمرض والداء وتملكه الأسى حيث ظل طريحا لفراشه لفترة زمنية ليست بالقصيرة لم يعده خلالها إلا القليل من الاصدقاء. ولم يجد مفرا من التفكير في الرجوع إلى بلاده ولكنه ما إن هبط السودان حتى أصبح هدفا لحرب لا هواده فيها من السلطات الاستعمارية التي كانت تنظر إليه بحذر وريبة بعد أن بلغت شهرة مقالاته الآفاق وكانت تلك السلطات تعتبره احد الخطرين على الأمن الذي يحسن التخلص منهم. وقد ظهر هذا في وثيقة سرية نشرتها صحيفة البلاغ في عددها رقم 7777 بتاريخ 30 مارس 1947 والحاوية على المراسلات التي دارت بين مدير الأمن ووزير التعليم والحاكم العام للسودان بشأن (معاوية).
- نسبة للمضايقات التي وجدها عاوده الحنين مرة أخرى إلى مصر – فعاد وهو حانق وغاضب على السلطة الاستعمارية وتجلى حنقه في المقالات التي كتبها في هذه المرحلة. وجاءت مقالاته تفيض سخرية وفضحا للاستعمار وادعاءات الرجل الأبيض وجاءت مقالاته في سلسلة متصلة تحت عنوان "ماذا في السودان" في هذا السياق مبتغيا كسب التعاطف مع بلاده وفضح الاستعمار وسياساته ففي مقاله المنشور في جريدة الجهاد بتاريخ 23 فبراير 1933 كتب معاوية "ذهبت إلى السودان بعد غياب عامين ونصف، وكنت امني نفسي في الطريق أن أرى وطني على خير ما يود الوطني لبلاده" ثم ينطلق في وصف ما كان عليه حال السودانيين وما ال إليه ويقارن وضع الوطنيين بالأجانب ويتساءل قائلا: "لكن ما هي الأعمال التي يبرر بها الانجليز وجودهم في السودان؟" أهذه هي رسالة الحضارة الأوربية إلى الوحشية الأفريقية؟ أهي تسخير للرجل الأفريقي طيلة يومه لينعم الرجل الانجليزي بكماليات الجسد امن أجل هذا يبقون على الجهل ويحاربون النور والعلم؟"
وفي مقال آخر نشرته جريدة الجهاد بتاريخ 27 فبراير 1923 ينتقد (معاوية) بصورة علمية تجربة الإدارة الأهلية في السودان مشيرا إلى أنها ترمى إلى أبعاد الفئات المتعلمة من السودانيين من شئون الحكم وترمي إلى تحويل الإدارة الأهلية ورجالها إلى موظفين أجانب في خدمة الإدارة الاستعمارية. ويقول معاوية "ان الإدارة الأهلية التي لم يعرفها السودان قبل سنة 1924، أنها هي وليدة الحاجة السياسية للقضاء على مستقبل السودان السياسي من قبل حركة قومية مستنيرة يقودها الرأي العام السوداني المستنير، وهي أيضا حيلة سياسية لصد المفاوض المصري في مسالة السودان بان السودان أصبح يحكم نفسه بنفسه، وهي أيضا تخلي عن المسئولية عن حكم البلاد مباشرة وإلقاء سوء الإدارة على الأهالي أنفسهم بان القوها على عاتق رؤساء القبائل الجهلاء وتفادوا أو أنهم بذلك يتفادون مسئولية سوء الحكم. كما أنهم ارادو بها أن يوسعوا هوة الخلاف بين الآباء والأبناء المتعلمين، وان يجعلوا دافعي الضرائب يكرهون مشايخهم ورؤساءهم فينادون بان حكم الرجل الأبيض اعدل واحق. على أننا نسأل سادتنا الانجليز ، إذا كان السودان يحكم نفسه بنفسه عن طريق رؤساء القبائل كما يقولون، وإذا كانت مسئولية الإدارة غير ملقاة على عاتقهم، فبماذا يبررون وجودهم في تلك البلاد؟.
- وفي يوم مارس من عام 1933 نفسه نشر (معاوية) مقالا آخر حول "الإدارة الأهلية" بجريدة الجهاد
- ثم واصل (معاوية) نضاله بالقلم والفكر الثاقب فكتب مقالا ناريا آخر بعدد 17 مارس 1923 عن "سياسة التعليم في السودان" يفضح فيه سياسة الإدارة الاستعمارية الرامية إلى إشاعة الجهل وتخريج إنصاف المتعلمين الذين يسدون حاجتها ولا يفيدون بلادهم في شيء. وينتقد معاوية مناهج وسياسة التعليم في السودان وفي كلية (غردون) على وجه الخصوص فيقول "الطالب في كلية غردون لا يعامل على انه طالب علم من أهم خصائصه العطف والفهم المتبادل، ولكنه يعامل بالجلد والحبس ومر العقاب. ومناهج التدريس في كلية غردون تجعله غريبا في بلده، فليس هناك مجال للعلوم الطبيعية أو التاريخ الحديث أو الآداب، وإنما تعليمه تمرين على الالة الكاتبة او على شئون الهندسة العملية والمحاسبة لكي يملآ الطالب وظيفة صغيرة في الحكومة لا يصلح في عمل سواها ولا يفقه شيئا في عالم الأدب والتاريخ والاجتماع"
- وفي 25 مارس 1933 نشر (معاوية) مقالا آخر في سلسلة مقالاته الملتهبة دار موضوعه حول الأوضاع الصحية في السودان وكان عنوانه "الأهالي بين المرض والصحة" ونشر بجريدة الجهاد ايضا وجاء فيه: "إن كل ما يقال عن محاربة الأمراض في السودان ذر للرماد في العيون"


معاوية رائدا للقصة السودانية:
وتحتل قصص معاوية ودراسته موقع الريادة والصدارة في الأدب السوداني ويرى القاص والناقد "مختار عجوبة" أن (معاوية هو أول من كتب قصة قصيرة مكتملة من الناحية الفنية)
- أو قصة له هي (ابن عمه) نشرت بالسياسة الأسبوعية بتاريخ 17 مايو 1930م.
- ثم نشرت له قصة (إيمان) بالسياسة الأسبوعية 13 سبتمبر سنة 1930 وهي قصة احتوت على نبوءة مبكرة لمصيره الشخصي حيث انتهى (معاوية) نفسه إلى ذات نهاية بطل قصته بعد حوالي إحدى عشر عاما من كتابه القصة فانتهى كبطلهاشاكا مصابا بالجنون في عام  (1941) وهو لا يزال في ريعان شبابه، وكان في أيامه الأخيرة يشك في كل من حوله ويعتقد أنهم يتآمرون عليه وأنهم جواسيس ومخبرين للانجليز. وسنتناول هذه القصة (إيمان) بالدراسة في مقال مستقل.
- من قصصه أيضا (في القطار) التي نشرت بالسياسة الأسبوعية في نوفمبر 1930م 
- وأيضا قصة (المكان) الذي نشرت بجريدة مصر في 11 نوفمبر 1931م0
- ومن قصصه "الموت والقصر" التي نشرت بجريدة مصر بتاريخ (1) يناير 19932م.
- لقد بلغت شفافية معاوية) وعبقريته حد انه رسم صورة دقيقة عن المصير الذي ال إليه فقد سقط (معاوية محمد نور) فريسة لمرض عقلي في سنة (1935) لم توضح أسبابه لكنها قطعا كامنة في الضغوط النفسية والاجتماعية والسياسية والفكرية التي كان فريسة لها في حياته القصيرة الحافلة أو كما قال احد المهتمين بالسيرة الذاتية لمعاوية "انه لمن المرجح أن اختلال قواه العقلية جاء نتاجا لفشله في أن يوفق بين حياته وهمومه الفكرية وواقع بيئته، فضلا عن انه اصطدم أكثر من مرة بمضايقات  العيش أضف إلى ذلك إحساسه العميق بالاضطهاد لدى السلطات الحاكمة في بلاده"
- ادخل (معاوية) مستشفى الأمراض العقلية بالقاهرة وبقى عدة أسابيع بين ( ناقصي العقول) وهو صاحب (العقل الكبير الوقاد) ولما تحسن بعض الشيء رجع إلى بلاده.
- لفترة من الزمن كان (معاوية) قادرا على الحياة بصورة طبيعية – وقد لوحظ انه كان يحمل (مصحفا) بين ثناية جلبابه، يتلو من آياته البينات وكان يميل خلال هذه الفترة للوحدة والعزلة.
- عرضه أهله على (فكي) عساه يشفيه مما الم به – وكان (الفكي) رجلا دعيا اخذ يعالجه بالأعشاب وتلاوة الطلاسم ثم اخذ يمزق جلده بالسياط زاعما انه يخرج منه الأرواح الشريرة القابعة في جسده، وازدادت حالة (معاوية) سوءا ففقد قواه العقلية تماما وانتقلت روحه إلى بارئها في أواخر عام 1941م
- وبقيت آثار (معاوية) الادبية باقية رغم رحيله تلهم الفرسان جيلا بعد جيل. ويبقى السؤال: رحل (معاوية) بعد أن أسلمه المستعمرون إلى (الجنون) وكذلك رحل (علي عبد اللطيف) في ذات الفترة (1942) بعد أن ظل منذ عام 1937 حتى وفاته 1942 في إحدى مستشفيات الأمراض العقلية "العباسية" بمصر رغم أن الطبيب قرر انه سليم عقله – ومات "التيجاني يوسف بشير "مسلولا ومعزولا يوم 28/7/1937م فهل هي الصدفة وحدها التي وحدت المصير الذي انتهى إليه ثلاثة من ابرز مفكري السودان ومبدعيه وقادته آنذاك !! أم أن هناك أياد خفية تنسج خيوط تلك النهايات المأساوية لتلك الكوكبة النيرة من ذوي الفكر الوقاد؟ انه مجرد سؤال والإجابة متروكة لفطنة القارئ و جهدالمؤرخين.
صلاح الدين سر الختم علي
سبتمبر 2001م
المراجع والمصادر:

1- الأعمال الأدبية لمعاوية محمد نور – دار الخرطوم للطباعة والنشر الطبعة الأولى 1994 – إعداد الأستاذ/رشيد عثمان خالد.
2- القصة الحديثة في السودان د مختار عجوبة من منشورات مركز الدراسات السودانية.
3- التيجاني يوسف بشير /لوحة وإطار / أحمد محمد البدوي – المطبعة الفنية للطبع والنشر والتجليد العباسية.
4- كتاب "علي عبد اللطيف" ترجمة مجدي النعيم – مركز الدراسات السودانية – القاهرة