Friday, September 20, 2013

رواية الحفيدة الامريكية للعراقية / إنعام كجه جى رواية الجراح الموجعة وصراع الهوية المتبدلة


رواية (الحفيدة الامريكية) للكاتبة العراقية (إنعام كجه جى) المقيمة فى فرنسا هى رواية اخرى تتكىء على التاريخ وتلامس جراحه الموجعة  فهى تروى قصة العراقية (زينة بهنام) حفيدة عقيد فى الجيش الوطنى العراقى ، تركت بلدها مراهقة صغيرة واستقرت مع والدتها فى الولايات المتحدة الامريكيةبسبب الإضطهاد في وطنها وعادت الى العراق بعد الغزو الامريكى للعراق ، جندية فى صفوف جيش الاحتلال ، الرواية تجسد فصلا مهما من التاريخ العربى والانسانى المعاصر،  فصل الاحتلال المباشر للعراق ، فصل تبديل الهوية الوطنية وسلخ الجلد والتخلى عن الانتماء للعروبة والوطن ،فصل العودة الي عصور الغزو والاحتلال والاستعباد للشعوب. الرواية عبارة عن سياحة مؤلمة فى ردهات التاريخ المعاصر ، الرواية صدرت طبعتها الثانية فى 2009 عن دار الجديد / بيروت – لبنان وتقع احداثها فى مائة خمسة وتسعون صفحة من القطع الصغير المتوسط وهى واحدة من ست روايات اختيرت على اللائحة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) 2009 .
تصور الرواية رحلة عودة الامريكية من اصل عراقى (زينة بهنام) الى وطنها ومسقط رأسها مع الجيش الغازى بعد ان بدلت هويتها الوطنية وباتت مواطنة امريكية على الورق الرسمى ولكن هويتها الاصلية لم تمت بداخلها بل ظلت حية تعذبها وتجلدها جلدا موجعا تصفه البطلة فى الرواية بشكل دقيق حيث تصور التقائها مع ابناء وطنها المحتل بعد ان باتت جندية فى الجيش فى الجيش الغازى (مررنا برجال ذوى شوارب كثيفة ولباس ابيض ، يعتمرون كوفيات ناصعة ظهروا من وراء اشجار السرو راحو يرمقون رتلنا بنظرات من نار  وددت لو اقفز من العربة المدرعة واصيح (الله ساعدهم) ! ان اتبادل واياهم اى حديث ، كنت اريد ان اتباهى امامهم بأننى منهم ، سليلة منطقتهم ، اتكلم لغتهم بلهجتهم ، وبأن جدى هو العقيد اركن يوسف الساعور الذى كان فى اربعينات القرن الماضى مساعدا لمدير التجنيد  فى الموصل ، لكن كل ذلك كان مخالفا للتعليمات ، التعليمات تريدنى خرساء ، لذلك تضايقت ، للمرة الاولى من بزتى العسكرية التى تعزلنى عن الناس كأننى فى خندق وهم فى اخر وعلى ان اكون ابنتهم وعدوتهم فى آن ، وان يكونوا هم ، فى الوقت عينه أهلى وخصومى ) .
تصور الرواية كيف اقنع الاعلام الامريكى العراقيين المقيمين فى امريكا بأن احتلال بلدهم مهمة وطنية (كنت اقول مثلما تقول (فوكس نيوز) إننى ذاهبة فى مهمة وطنية ، جندية اتقدم لمساعدة حكومتى وشعبى وجيشى ، جيشنا الامريكى الذى سيعمل على اسقاط صدام وتحرير شعب ذاق المر .) وتقول لتقنع نفسها بنبل مهمتها : (مساكين اهل العراق ، لن يصدقوا اعينهم حين تتفتح على الحرية ، حتى الشيخ العجوز منهم سيعود ولدا صغيرا وهو يرشف حليب الديمقراطية ويتذوق طعم الحياة كما عشتها انا هنا . ) ، وتقول فى الوقت نفسه بوقاحة امريكية حقيقية السبب الحقيقى لمشاركتها فى المهمة النبيلة : (افكار كانت تشع فى راسى وتضىء سيارتى وتزداد إلتماعا حين تعثرت بالمائة وستة وثمانين الف دولار ، ثمن لغتى النادرة ، بل ثمن دمى . ) .
ان السبب الحقيقى إذا هو الدولار المنتظر حصاده ليس الا .
ولا تستحى الفتاة العراقية الاصل الامريكية الهوية من القول (كيف تكون المشاعر الوطنية ؟ خزعبلات لم تكن تعنى لى الكثير ، لا فى طفولتى العراقية ولا فى شبابى الامريكى ، لكن ما حدث فى الحادى عشر من سبتمبر اصابنى بمس كهربائى سرت حرارته فى اجسام كل من اعرف من اصدقاء وجيران ، تحولنا الى كائنات تهتز وتنتفض وتطلق اصوات استنكار وهلع. )
تؤرخ العراقية التى باتت امريكية لحدث العصر (احداث الحادى عشر من سبتمبر ) وترصد اثرها على الحياة والناس (رأيت طائرة تصطدم ببرج ، وكان هناك على الشاشة برج مجاور يحترق ، جمدت فى وقفتى ولم اجلس ، كنت اعرف هذين المبنيين ، رأيت امريكا تحترق امامى وشممت رائحة الشواء) .
الرواية مكتوبة بضمير المتكلم الذى يتولى اسرد من البداية الى النهاية مسيطرا على فضاء السرد راويا عليما يمثل مركز المعرفة ولا يسمح لغيره بمشاركته السرد – انها رواية الصوت السردى الواحد المهيمن ، كأنما ارادت المؤلفة ان يتماهى القالب الفنى مع الشخصية الامريكية المهيمنة بطبيعتها والتى تجعل من نفسها مركزا للعالم وجلادا وقاضيا يصدر الاحكام وينفذها ويبررها منفردا ، ولكن شخصية البطلة المركبة (عراقية تحت الجلد وامريكية فوقه ) تجعل الصوت السردى الوحيد يبدو كأنه صوتان يتنازعان السرد ، فالصراع داخل شخصية البطلة بين هويتها الاصلية وهويتها الجديدة المكتسبة يجعل السرد متنازعا بين رؤيتين للعالم رؤية الامريكية المنتصرة الراغبة فى تبرير كل فعل ، ورؤية العراقية المهزومة التى تنظر بعين المهزوم وعين الريبة والتجريم لما جرى ويجرى بارض العراق ، انه صراع القوتين المتصارعتين في شوارع بغداد واحيائها المدمرة بالقذائف الامريكية ينتقل الى داخل (زينة) العراقية الامريكية التى جاءت لتترجم للجيش الغازى كفرد منه فوجدت نفسها تتحول الى وثيقة إدانة ومراسل صحفى يوثق لما جرى من وجهة نظر المفعول به ، لقد تحولت المترجمة الى مترجمة للأهالى العراقيين المسحوقين تحت الدبابات الأمريكية بدلا عن كونهامترجمة للجيش الامريكى الغازى.
فى كل سطر من الرواية نشتم رائحة التاريخ ، ففى الرواية تروى البطلة تاريخها الشخصى منذ ان كانت طفلة فى العراق وكيف انتقلت مع اسرتها جبرا من العراق الى الأردن ثم لاجئين الى امريكا وتحكى رحلة العودة الى الوطن غازية مع جيش غازى بعد خمسة عشر عاما من مغادرته هاربة لاجئة بهوية مستعارة ، وتحكى حكاية والدها المذيع الرقيق فى التلفزيون العراقى الذى افاق ذات صباح ليجد نفسه مطلوبا امنيا نتيجة وشاية كاذبة ، يعتقل من بيته ويصفع امام اسرته ثم يعذب تعذيبا نكرا بواسطة زبانية صدام حسين ن وعندما تشكو زوجته لاستاذ جامعى تعذيب زوجها يقول لها انه لم يعذب بل تم اللهو معه قليلا فقط ، عند افتقاد الاسرة للشعور بالامان تهرب الى الاردن ثم الى امريكا لاجئين من عسف السلطات العراقية ، لكن (بتول) الام تبقى مع ذلك تحن الى وطنها وتبقى وفية له بشكل مدهش تصوره البطلة فى الرواية بشكل رائع وحزين حين تصف لحظات تحول امها الى مواطنة امريكية فى الرواية وبكائها حزنا وطلبها الغفران من والدها بدلا من الفرحة (بتول لم تتهندم وتترتب مثل الالاف الذين غصت بهم المنطقة المحيطة بجامعة (وين ستيت)) (مشت امى مبتعدة عنا كمن تسير فى جنازة وجست ملمومة على نفسها تحتضن حقيبتها اليدوية وكأنها تتستر على شىء ما فى داخلها ، وبدأت ترمق جيرانها الذين لا تسعهم الفرحة بحلول موعد تجنيسهم ، انه عرسهم الجماعى الذى سيؤدون فيه يمين الولاء لوطن الجديد افائض الخيرات وبعد اداء القسم سيحق لكل منهم ان يدفع صدره الى الامام ويتباهى : (اي ام ان امريكان سيتزين)أنها قمة المأساة أن يفرح شخص بتزوير هويته الوطنىة ، لكن بتول العراقية الحزينة لم تفرح أبدا (حين بدا مكبر الصوت ينقل خطاب حاكم الولاية وهو يقرأ النص الذى يعلن الولاء للارض الجديدة ، حيث راح الامريكان الجدد الحاصلون على الجنسية للتو ، يتعانقون ويتبادلون التهانى ، حينها سمعت صوت امى يتحشرج وكأنها تختنق ، والتفتت اليها ورأيت وجهها الابيض الوديع وقد صار قرمزيا كمن داهمتها حمى ، والدموع تهطل عزيرة من عينيها . )    
ويبلغ المشهد الذروة هنا : (بينما الجموع تضع ايديها على مواضع قلوبها وتلهج بالنشيد الوطنى الذى تعزفه فرقة الجاز : (يارب احفظ امريكا ، غاد بلس امريكا) كان صوت السيدة العراقية بتول الساعور ، امى ، هو النشاز الوحيد الذى يولول بالعربية : (سامحنى يا ابى ... بابا سامحنى) .
 ان العراقية بتول الهاربة من جحيم الاضطهاد فى وطنها ظل شعورها الوطنى هو الأعلى فى داخلها فى لحظة تبديل الهوية ، ظل احساسها بالذنب وشعورها بأنها قد خانت وطنها وارثها الانسانى والعائلى اعلى من اى فرحة زائفة قد يفرحها من يمنح جنسية اكبر دولة فى العالم . إن الاضطهاد في الوطن لايبرر تغيير الجلد ونزع الهوية الوطنىة.
ان المؤلفة هنا تكتب تاريخا مزدوج الزوايا ، تاريخ العراق / تاريخ امريكا / تاريخ اسرة البطلة / التاريخ الانسانى ، هكذا تقارب الرواية التاريخ من خلال متابعة سرة شخص ثم سيرة أسرة ثم سيرة شعب ومن خلال ذلك كله تكتب الرواية تاريخ الانسانية جمعاء ففى الرواية تلتقى نيران الحادى عشر من سبتمبر المشتعلة فى قلب امريكا بالنيران التى اشعلها الجيش الامريكى فى بغداد ، تلتقى انهار الدماء فى نيو يورك بانهار الدماء فى بغداد وتكريت والحلة والرمادى وتلتقى انهار الدموع هنا بتلك هنالك . لافرق بين دماء يسأل عنها صدام ونظامه ودماء تسأل عنها القاعدة ودماء تسأل عنها الإدارة الامريكية، كلها دماء وكلهم قتلة وأن صار القاتل مقتولا فيما بعد كما هو حال صدام ورجال القاعدة وجنود الجيش الأمريكى نفسه.
لذلك كان طبيعيا ان يبقى فى البنت (زينة بهنام) التى وثقت هذه اللحظات فى حياة امها شىء مماثل من الشعور الوطنى الحى والارتباط الروحى بالعراق برغم كونها امتلكت جنسية امريكية وباتت جندية فى الجيش الامريكى الغازى للعراق – تكتب البطلة ذلك بشكل شفاف :- (ورغم حماستى للحرب اكتشف اننى اتألم الما من نوع غريب يصعب تعريفه ، هل انا منافقة ، امريكية بوجهين ؟ ام عراقية في سبات عميق مؤجل مثل الجواسيس النائمين المزروعين فى ارض العدو منذ سنوات ؟ لماذا اشعر بالاشفاق على الضحايا وكأننى تأثرت بالأم تريزا، شريكتى فى اسم القديسة شفيعتى ؟ كنت انكمش وانا اشاهد بغداد تقصف او ترتفع فيها اعمدة الدخان بعد الغارات الامريكية كأننى ارى نفسى وانا احرق شعرى بولاعة سجائر أمى ، او اخز جلدى بمقصف اظافرى . لماذا أعجز عن الجلوس فى مقعدى لخمس دقائق ، اقول للأخرى التى هى انا إن هناك اطفالا يفزعون وأبرياء يموتون بلا سبب ولا ذنب فى بغداد ، اقول لها ان الاطفال يمكن ان يكونوا ابناء رفيقاتك فى الدراسة ، والابرياء قد يكونون اولاد عمك وبنات خالاتك .) .
هكذا تبقى (زينة) رغم أنفها وانف من أرادوا محو هويتها الوطنية والثقافية وتدجينها وتلويث أيديها بدماء شعبها ، هى زينة العربية العراقية التى لا تغير فيها مسألة انتمائها الى امريكا والجيش الامريكى شيئا يبقى جوهرها الوطنى والانسانى حياً برغم كل شىء فظلت ( تنكمش ) حين تشاهد بغداد قصف بنيران امريكية وترتفع فيها اعمدة الدخان – وظلت تقول لنفسها ان آلة الحرب التى حاولت وسائل الاعلام الامريكية جعلها حربا مقدسة تحصد كل صباح اطفالا وابرياء يموتون بلا سبب ولا جريرة !!.
ان (زينة) هى ضمير حى لا يموت ،هى ضمير البشرية كله . لكنها لا تخلو من تشوهات مع ذلك فهى حين ترى الحطام والدمار فى بغداد اول مرة تميل الى تبريرة باحداث سبتمبر كما فعل الغرب فى تبريره لجريمة احتلال العراق وتدميرة فتقول (وقد رأيت ونحن نعبر جانبا من بغداد ، حطاما لم ار مثله من قبل ، بلى ... ان هذه المبانى المحترقة المتداعية التى تصفر فيها الريح تشبه الرماد الذى هطل  على نيويورك بعد ذلك الحادى عشر الاليم من سبتمبر ، ألم يقابل الما وخراب يقود الى خراب ، هذا ما كنت اتصوره وانا فى تلك المرحلة المبكرة من سذاجتى ) وفى مقطع ملىء بالسخرية تجسد الكاتبة على لسان البطلة الفرق بين ما تنشره آلة الدعاية الامريكية حول حرب العراق وبين ماهو يجرى على الارض حقيقة (لم اكن قد فكرت كيف سيستقبلنا العراقيون ، لكن ما رأيته فى القنوات الامريكية لم يكن محبطا ، هذا شعب متحمس لتغيير النظام ، يحلم بالحرية ويرحب بقدوم الجيش الامريكى ، لماذا إذا ، تطفح العيون السود البارزة من شقوق العبايات بكل هذا الصد ؟ نظرات لا تعكس الفة ولا فرحا .) .
فبينما تصور القنوات الامريكية حرب العراق بأنها حرب لتحرير شعب تواق للحرية والجنة الامريكية الموعودة ، تجد الراوية الكراهية للجيش الامريكى مرتسمة على وجوه العراقيين فى ابهى معانيها فى تكذيب صريح لآلة الحرب الاعلامية الامريكية .
وتمضى الرواية من اولها الي اخرها نغما حزينا ومرثية صادمة وصادقة للعراق الذى كان ملء السمع والبصر قبل الغزو الامريكى المدمر وتنتهى الرواية بعبارة ذات مغزى (شُلت يمينى إذا نسيتك بغداد .) .
ان الراوية تعود الى جذورها فى الختام وتخلع البدلة العسكرية الامريكية والانتماء الامريكى الطارىء لتعود الى بحرها الاصيل – بحر بغداد والعروبة الضائعة فتعود حفيدة عراقية وليست امريكية بعد ان اغتسلت فى نهر الحقيقة فى العراق من كل اكاذيب الدعاية الامريكية ومبرراتها لشن الحرب على بلاد حرة ذات سيادة وتدميرها ، ان الرواية تنتهى بعقد محاكمة قاسية لمن خططوا ونفذوا حرب العراق بحجة الاطاحة بنظام ينعقد الإختصاص والحق بشأن قبوله ورفضه وتغييره والإبقاء عليه لشعب العراق وحده . لكن من خططوا للحرب علي العراق كانوا يبحثون عن ذريعة وثياب تنكرية يخفون خلفها الوجه الحقيقي والأغراض الخفية الكامنة وراء تدميرهم لبلاد عظيمة وجيش عظيم  
الرواية قبل كل شئ لوحة انسانية رائعة عامرة بالشجن تجبر كل من يقرأها علي اعادة النظر فيما جري ويجرى بارض الحضارات باياد امريكية أصيلة ووكيلة.
صلاح الدين سر الختم على

No comments:

Post a Comment