Tuesday, October 29, 2013

( أفكار أولية وانطباعات) عن بعض النصوص المنشورة في مجموعة القصة القصيرة جدا / دراسة منشورة بمجموعة القصة القصيرة جدا

( أفكار أولية وانطباعات) عن بعض النصوص المنشورة في مجموعة القصة القصيرة جدا 
تكرار اشكاليات( العنوان التقريري والصور الشاعرية والتقريروتعجل النشر) 
صلاح الدين سر الختم علي


نحاول هنا التعرض لبعض النصوص المنشورة بالتحليل بصورة مختصرة بهدف القاء الضوء علي بعض الاخطاء الشائعة في الكتابة والنشر منبهين الي ان الاحكام الواردة هى وجهة نظر قابلة للقبول والرفض وليست حكما باعدام النصوص أو استحسانها أو تقليلا من شأنها. هو حوار شفاف حول اشكالات الكتابة وبعض الاراء النقدية . وذلك بهدف تطوير ممارسة الكتابة منطلقين من كون القصة القصيرة جداً ليست تهويماً بلا معنى وليست صورا بلاغية لارابط بينها و ليست مقالاًأو خاطرة وليست نكتة أو طرفة وان كان نسيجها قد يتضمن النكتة أو الطرفة والصورة البلاغية محددة الهدف والوظيفة، القصة القصيرة جدا نص قصير جدا يتميز بالاحكام والإيجاز والإقتصاد في الكلمات والجمل والتكثيف والمغزى المخبوء .

النموذج الأول ( التعجل في النشر )
رصاص طائشه 
أغمض عينيه ,وأفرغ مخزن ذخيرته في الهواء .
ثم ذهب ليبحث عن قيراطان.
أحمد يحيى العفيري


هذا نص نشر علي عجل يبين من عنوانه الملتبس المكتوب ( رصاص طائشه) فالعنوان الصحيح إما ( رصاصة طائشة) أو( رصاص طائش) فلايمكن أن يكون المعدود جمعا والعدد مفرداً أو العكس، ولايمكن ان تكتب كلمة طائشة بالهاء لأن ذلك يغير المعنى. ثم أن القصة بها مشكلة أخري وهى قوله( أفرغ مخزن ذخيرته في الهواء) فتبدو الجملة هكذا كأن الرجل أفرغ مخازنه من الحبوب ولو كان المقصود ذلك واظن الكاتب يقصد ذلك فهو لم يكن بحاجة الي إغماض عينيه لأن ذلك يحدث عند اطلاق الرصاص وتغمض عين واحدة، وكذلك لم يكن بحاجة الي ايراد كلمة في الهواء فقد كان يكفي القول أنه أفرغ مخازنه فقط لأن الإفراغ في الهواء يرتبط بالذخيرة الحية وعملية إطلاق النار، وواضح ان المقصود في القصة هو ان البطل بعثر مخزونه من الحبوب ثم جاع فلم يجد مايسد به الرمق!! تبدو الفكرة رائعة لكن الثوب اللغوى الذي خرجت به ثوب غير لائق ويشتت أفكار المتلقي ويصرفه عن المغزى المراد ويجعل القصة مترهلة وملتبسة.

النموذج الثانى:
ق.ق.ج
ناقد ..
احتفل بإصدار موسوعته النقديّة ...التي تتحدث عن قصّة كتبها الملك مؤلّفة من جملتين


"موسى الزعيم "

المبالغة في النقد لسلوك الناقد جعلت النص علي قوة فكرته يبدو اعلانا لموقف حاد من الناقد يبلغ حد المبالغة، فمثلما بالغ الناقد في تقديره لكتابة الملك نفاقاً فاصدر موسوعة تمجد عبقرية الملك الظاهرة في قصة من كلمتين، كذلك بالغ المؤلف للقصة في نقده لسلوك الناقد حين صوره هكذا، فهذا تصوير كاريكتيري مبالغ فيه وغير متصور حدوثه في الواقع، لذلك بدا النص أصغر من الفكرة المراد التعبير عنها، وعنوان القصة نفسه يبدو بعيدا عن مضمونها، فالمراد القول ان الناقد مزيف ووصولي والملك ليس بكاتب، مثل هذا المضمون عنوانه الملائم في تقديري ليس هو اثبات صفة الناقد للوصولى ، كان يمكن ان يكون الأسم ( نقد) فذلك يعنى ان القصة تتتهكم علي هذه النوعية من السلوك وهذا النوع من الكتابة. مع ذلك يتعين الإقرار بان القصة القصيرة جدا موجودة في ثنايا النص وهى تعتمد المفارقة للايحاء بالمغزي، لكن المفارقة نفسها يجب ان تقاس بميزان الذهب، بدقة وإحكام دون إفراط ضار بالمغزي ومشتت للانتباه.
النموذج الثالث ( المشهد هل هو قصة دوما؟)
جريمة
بعد أن خلع ملابسه 
وجد أن البانيو قد إمتلأ بالدم 
فتذكر أنه نسى أن يغسل يديه 
فى قسم الشرطة حيث يعمل
مصطفى الحكيم


هذا النص يبدو مشهدا عاديا جدا، رجل شرطة عاد من عمله خلع ملابسه، غسل يديه فوجد الحوض قد امتلأ بالدم، لو كان المشهد هكذا فقط دون تدخل الكاتب للتفسير بقوله في الختام ( فتذكر انه نسي أن يغسل يديه في قسم الشرطة حيث يعمل) لكان مقبولا جدا القول بانه قصة قصيرة جدا وكان يمكن التلميح الي عمل الشخص بدلا من التصريح به، مثلا القول( عاد بعد يوم عمل مرهق، خلع بزته العسكرية،غسل يديه،بشرود، انتفض مذعورا، فقد كان حوض الغسيل ممتلئيا بالدم!!) أما تسمية النص ( جريمة) والشرح المطول في آخره لمكان وقوع الجريمة ومرتكبها فهو أمر جعل النص بيانا سياسيا صارخا ضد الشرطة ليس فيه شئ من القصة، الا اذا كان المقصود من القصة المصطلح الاعلامى للاحداث التى يلاحقها الاعلام (story). المشهد يمكن ان يكون قصة شرط عدم التدخل في المشهد وشرحه والتعليق عليه، فذلك التعليق والشرح يجعله نصا تقريريا لاعلاقة له بفن القصة التى تعتمد علي الايحاء والتلميح وتتجنب التصريح.

النموذج الرابع:( اللغة الثوب الجميل للأفكار)
نفاق
رفع صوته عاليا وهو يتحدث فى مؤتمر عن اضرار التحرش 
ولكنه نسى سحاب بنطلونه مفتوح
مصطفى الحكيم


هذا النص للكاتب السابق نفسه نص يعانى من عدم الإهتمام باللغة والتعجل في النشر، فالنص القصير جداً يتيح لصاحبه مراجعته نحويا ولغويا كلمة كلمة وجملة جملة والخطأ فيه لايغتفر ، مثلا كلمة مفتوح التى اختتم بها النص من الواضح ان الصحيح انها( مفتوحا) كونها حالا منصوبا، ولكن التعجل جعل النص ينشر بعلته تلك، اللغة هى حامل أفكارنا وهى الثوب القشيب الذي تعرض عبره وكل بقعة سوداء في ذلك الثوب الأبيض تشوش علي الفكرة وتحكم عليها بالموت. وليس ذلك هو عيب النص الوحيد فالنص يعانى من تقريرية مفرطة فى العنوان، عنوان القصة يجب ألا يكون تلخيصا لفكرتها فذلك تقرير يفسد متعة القص والقراءة معا، القراءة بحث عن كنز مخبوء بين السطور، والقص وضع لعلامات علي الطريق تفضي الي الوصول الي الكنز ويشكل البحث عنها متعة في حد ذاته، فيجب علي الكاتب ألا يفسد علي القارئ متعته ويهمس في أذنه بالمعنى أو يصيح به. والعلامات يجب ان تكون دقيقة وصحيحة، فمثلا نسيان سحاب البنطلون مسحوبا لايعنى علي وجه اليقين ان صاحبه متحرش، فقد ينساه لسبب أو آخر، فليس كل فتح للسحاب وراءه تحرش، هذه نفسها فكرة مهووسة، فقد ينسي لسبب برئ، وكان الأفضل تقديم علامة قاطعة ، مثلا( حين كان يتحدث كانت سكرتيرته الحسناء تحدق في صورته وهى تتحس مواضع يديه علي جسدها وتبتسم.) المهم ان تكون العلامة الدالة لاتحتمل معنى آخرا غير ما تدل عليه.



النموذج الخامس:( الشاعرية خطر ماحق علي القصة)

نورا مجدي ابو المجد
السموم التي نفثتها افاعي المهرج في النهر ليلا، جمٌعتها رياح الصبر وابلا ،ثم ارسلته عليه فجرا


لغة القصة القصيرة والقصيرة جدا لغة تتميز في الأساس بالدقة والإيجاز وأن كل كلمة في النص لها وظيفتها ومبرر وجودها ودلالتها التى تجعل تغييبها أمرا يخل ببناء النص، القصيدة تحتمل الاستطراد وتوالي الصور وتتابعها وتكراراها بطبيعتها والرواية تحتمل هي الأخري الاستطرادات والتشبيهات والاستعارات بدرجة أقل من القصيدة وأوسع من القصة، لكن القصة لاتحتمل الاستطرادات والغموض المبهم ، هذا النص يبدأ بكلمة مبهمة هى( السموم) الاسئلة تثور فورا: ماهى هذه السموم؟ تأتى الاجابة( التى نفثتها أفاعي المهرج في النهر ليلا) وتحيلنا الاجابة الي اسئلة جديدة: ما هى الأفاعي؟ ما المقصود بها؟ البشر؟ من هم ؟ ومن هو المهرج؟ ولماذا نفثتها افاعيه في النهر ولماذا ليلا؟ !والاسئلة تقود الي اسئلة ولا إجابة حتى خاتمة النص. لذلك يبدو النص فاقد الروح فليس فيه قصة مطلقا ولافكرة واضحة وهو أقرب الي التهويم الشعري منه الي النثر أو القصة. القصة يجب ان ترتبط دوما بالانسان، وان كان موضوعها مشهدا فيجب ان يتضمن المشهد قصة مكتملة الاركان وثيقة الصلة بالانسان وحياته بشكل أو آخر. هذا النص ليس بقصة. وانا سعيد لان الادارة لاتتشدد في النشر فتنشر النصوص علي علاتها ، فذلك وحده السبيل لادارة حوار جاد علي ضوء نماذج واقعية حول القصة ومفهومها وشروط كتابتها.

النموذج السادس ( التقرير في العنوان يهدم النص الجيد)
Nabil Benfaida
إغتصاب
++++++++++++
زرع فيها بذرته عنوة .. فلم تنبت سوى الخراب.


لو كنت مكان كاتب القصة اعلاه لما اخترت لها عنوانا مطلقا لو كان خياري هو تسميتها بهذا العنوان التقريري الذي هدم جمال النص، فالنص يشي بالمعنى ولايصرح ، لكن العنوان هدمه هدما، بالرغم من ان النهاية غير موفقة وفيها شاعرية مرسلةلاتليق بالقصة ( فلم ينبت سوي الخراب) كان الأفضل مثلا(لكن براكينها تفجرت فلفظتها ) أو (فماتت البذرة من البرد)المهم ان تكون النهاية فيها شئ واضح محدد يعطى معنى الرفض والمقاومة والتحرر من العار. هى مشروع ق ق ج أجهض في الطريق.

النموذج السابع ( الصورة الشعرية لاتكفى لبناء قصة قصيرة جدا)


محمد ابوالكرام

(ق ق ج)
المناضل
فى ركعته الأخيرة.طعنته يد وطن ضرير


في هذا النص يقدم الكاتب صورة شعرية تصور رجلا منهمكا في اداء الصلاة ولكن الجزء الاخر من الصورة يصعب تصوره كونه مجازا وليس واقعا، مجازا يصور الوطن متنكرا في هيئة رجل أعمى يحمل سكينا ويطعن المصلى!!

هذا المجاز به اشكاليات عديدة أولها قول الشاعر( بلادي وان جارت علي عزيزة وأهلي وان ضنوا علي كرام) فليس من المستساغ تصوير الوطن قاتلا يسدد طعنته لرجل مؤمن، هذا تصوير جائر للوطن ويحمل في داخله خلطا بين الأوطان والأنظمة الاستبدادية، فكراهية الشخص لنظام استبدادى جاثم علي وطنه لايعطيه حق تشويه صورة الوطن نفسه! ولايمكن الاعتذار عن ذلك بالقول ان الوطن أعمي ، فلعمري ماضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق. النص به ايضا اشكالية العنوان التقريري. يبدو ان هناك ظنا عاما بأن العنوان وسيلة لشرح النص وهذا فهم خاطئ، العنوان جزء من القصة القصيرة جدا وهو محكوم بقوانينها التى تمنع الصياح بالمعنى وتقريره. وتبقي المشكلة الرئيسية هى ان الصورة الشعرية لاتصلح لكتابة القصة، فلوكان الكاتب أورد ان أحدهم سدد طعنة للبطل وهو قائم يصلي أو ساجد أو راكع دون أقحام الوطن الضرير لكنا أمام قصة معبرة لو تركناها بدون عنوان أو اعطيناها عنوانا لايقرر مايريد قوله عبر ايرادها.


النموذج الثامن ( التقريرىة تجعل القصة مقالا أو بيانا)



غائبة

نودى: محكمة.هيبة الصمت سادت.اوقد المجنى عليه شمعة.ظل يبث فى القاعة.سأله القاضى عما أفل ونور السمس ساطع.
اجاب: العداله العداله.
Naeem Hamad
النص هنا يعانى من التقرير علي مستوي العنوان الذي يلخص القصة وعلي مستوي الختام الذي يشرح القصة بالقول الصريح ان الغائبة هي العدالة. وهذا النص ليس بقصة فالقصة ليست مقالا سياسيا يعبر كاتبه عن وجهة نظره فيه صراحة ويحشد المؤيدون والأتباع، القصة دعوة للتأمل فيما هو كامن خلف المشهد أو الملمح أو الحدث الذي تقدمه بدون تعليق أو ترجمة للمعانى أو شرح لها، بل يكتفي القاص بما يقدمه ليفصح مايقدمه بنفسه عن نفسه.وفي هذا النص خيال شعري جامح فليس هناك واقعيا ادنى احتمال للسماح لمتهم باشعال شمعة في قاعة محكمة كما حدث وليس هناك قاض رومانسي يكون رد فعله علي ذلك ان يقوم بسؤال المتهم كتلميذ لماذا اشعل الشمعة والشمس ساطعة علما ان الشمس لاتسطع داخل القاعة عادة. القصة في خياليتها يجب ان تكون دوما واقعية.
النموذج التاسع ( الحماس للفكرة هل يقتل النص القصصي؟)
حصحص الحق 


ذهب الجاني بأسبوع من إرتكاب جريمته .. ليتفقد الجثه ويطمئن على دفنها ، وعند نبشه للقبر ، تجمعت حوله قطيع من الكلاب 

وظلت تنبح وتحاصره حتى فزع الرعاه 
وتحققوا من جريمته . 
Musa Agyli


في هذا النص فكرة جيدة ومغزي جميل ولغة موجعة وقاحلة وتركيب فقير للجمل مثل الاستهلال( ذهب الجانى باسبوع من ارتكاب جريمته) والمقصود طبعا ( ذهب الجانى بعد أسبوع) ومثلا آخر قوله ( تجمعت حوله قطيع من الكلاب) والمقصود القول ( تجمع حوله قطيع من الكلاب) لان القطيع من الكلاب مذكر وليس مؤنثاً.. وهناك مشكلة في استخدام علامات الترقيم فجملة مثل ( ذهب الجانى بعد أسبوع من ارتكاب جريمته ليتفقد الجثة ويطمئن علي دفنها) هي جملة واحدة ليس فيها فاصل كما هو الحال في النص.والقول ان القاتل ذهب ليطمئن علي الجثة قول فيه ركاكة لغوية لان الاطمئنان يكون علي الاحياء ، والقول انه ذهب ليطمئن علي دفنها ثم العودة للقول عند نبشه القبر فيه تناقض ، فكيف يكون يريد الاطمئنان علي الدفن ثم ينبش لنكتشف انها مدفونة وبالتالي لاسبب لديه للعودة، ولو لم تك مدفونة لنهشتها الكلاب التى حاصرته، اما القول ان الرعاة تحققوا من جريمته فقول مرسل لأن جريمته الأولي لاتثبت بمجرد نبشه للجثة. أما العنوان فهو تقريري ويغنى عن قراءة القصة. الواضح ان الكاتب لديه فكرة جيدة وهو متحمس لها حد انه أعلن عنها في عنوان القصة ولم ينتبه لقواعد وشروط اللغة فجاء النص أقصر قامة من فكرته ومغزاها.



النموذج العاشر ( الشاعرية هل تصنع قصة؟)

روح الشهيد
قنصت روحُ الشهيد القناصَ ، فظل باقي عمره يترنح من رصاصته..
Zidan Zidan
النص جميل اللغة والمعنى ، ولكن الاشكالية تبقي في روح النص الشاعرية ، نحن لسنا امام شخص في القصة بل أمام مفهوم وهو روح الشهيد وهى قطعا ليس لها وجود مادى وليست شيئا يري بالعين وهو يفعل فعلا، لكن الكاتب انبت لتلك الروح أجنحة من خيال وجعلها تتصرف كشخص طبيعي وترد الصاع صاعين للقناص الذي ازهقها ولكنها لترد بطلقة من مسدس بل ترد باصطياد روح القناص وجعله طول عمره نادما علي فعله( مترنحا من رصاصته) أي انه بات يعانى من وخز الضمير. المشكلة في هذا النص انه يجعل القناص شخصا له ضمير وبذلك يهزم فكرة النص وهى قائمة علي انتصار الشهيد علي القناص. ان النص من حيث لايريد يرتفع بالقناص الي مكانة سامية لايستحقها ويجعله صاحب ضمير حي. وهنا مفارقة لم يقصدها الكاتب .المهم ان هذه الصورة كلها ليست قصة فهى صورة بلاغية لاتحتوى علي حكاية في ثناياها.
النموذج الحادى عشر( الشاعرية مرة أخري )


أثر

***
وقع المنديل المبتل على زهرة فارتوت بمائه، سألته عن قصته، قص لها حكاية الدمعة...فذبلت.
Shireen Talaat
هذا النص نص مميز بالرغم من شاعريته الواضحة التى طغت علي ملمح القصة فيه ، المنديل المبلل بالدموع يقع علي زهرة فنكتشف للدموع وظيفة جديدة هى الإرواء بدلا عن البكاء
وكان يمكن ان ينتهي النص هنا فيكون قصة مكتملة الأركان وفيها كشف وتنوير وتلميح بالمغزي
لكن الكاتبة زادت فجعلت الزهرة تتكلم وتسأل المنديل عن قصته دونما سبب واضح للسؤال، فيحكى المنديل الذي يمسي شخصا قصته وتشرح الكاتبة هنا القصة بانها ( خكاية الدمعة) ولم تكن الكاتبة بحاجة لهذا التقرير والشرح فالمنديل بداهة تبلله الدموع ، وتنتهي القصة بذبول الزهرة حزنا بالطبع . مشكلة الشاعرية انها تستدرج عشاقها الي فضاءات فسيحة فيسهبون بينما القصة صنو الإيجاز. برغم كل تحفظ اعجبني النص كثيرا واتمنى ان تعالجه كاتبته معالجة مختلفة تلتزم فيها بصرامة القص وتكبح جماح خيل شاعريتها.
أرجو الا اكون قد أغلظت علي أحد ، ويعلم الله اننى مهتم بالنصوص بالدرجة الأولي وبتقديم رؤية متواضعة من خلال تجربتي مع الكتابة القصصية تعين محبى هذا الفن علي تجويده وتطوير كتابته.
صلاح الدين سر الختم علي
مروي/ التاسع والعشرين من اكتوبر 2013

Friday, October 25, 2013

(إمراة من كمبو كديس) لعبد العزيز بركة ساكن ** والتشريح القاسي للواقع وحكاية الضحية والجلاد/دراسة نقدية /صلاح الدين سر الختم على



عبد العزيز بركة ساكن القاص وجه آخر لعبد العزيز بركة الروائي الذي يحتل مكانة مرموقة في المشهد الثقافي السودانى، لعلى أكون محقا إذا ذهبت الي القول أن بركة القاص غير مكتشف كما هو الروائي فيه، فهو قاص متمكن من أدواته ويبدو نفسه القصصي أكثر نضجا وأصالة وإحكاما من نفسه الروائي، فالقصة عنده تشريح قاس لواقع أشد قسوة، واقع تحتشد فيه صور الجمامجم المثقوبة والنساء الراسفات في القيود والأطفال المفزوعين الضامرين الذين يتنقلون مع أمهاتهم في بئيات مسكونة بالفقر والقهر والعذابات فتختزن ذاكرتهم صورا لاتخرج منها أبداً ويبدو عبد العزيز نفسه واحدا من أولئك الأطفال المعذبين بالتبعية مع أمهاتهم  مثل ذلك الطفل الذى تحمله أخته الضامرة الي أمه المحبوسة ثلاث مرات في اليوم ليرضع في قصة ( لبن دافئ من أجل منتصر) في مجموعته التي تحمل اسم (أمراة من كمبو كديس )ومثل ذلك الطفل ود أمونةفي روايته الجنقو مساميرالأرض الذي يتعرض لاستغلال بشع بسبب وضع أمه،  هكذاولجت طائعا الأجواء المرعبة للمجموعة القصصية (إمراة من كمبو كديس) للكاتب عبد العزيز بركة ساكن الصادرة عن دار عزة للنشر . المجموعة تتصدرها قصة موسومةب (عاشق) وحين تلج القصة المكتوبة بأسلوب تقليدي هو أسلوب الرسالة المرسلة الي شخص  هو معلم الراوي في صباه الباكرتكتشف منذ الوهلة الأولى ان العنوان مراوغ وان القصة لاعلاقة لها من قريب أو بعيد بالعشق والحب  والمشاعرالانسانية النبيلة كافة، بل علي العكس تماما نجد قلوبا صماء متحجرةوشلالات من الدم المراق بلا جريرة وجبال من الحقد الأسود المستوطن في قلوب مظلمةوضمائر خربة جرداء ونفوس لايعرف الحب أو أي شعور نبيل طريقا اليها. ليس هناك بطل رومانسي وسيم ساحر وليست هناك بطلة حسناء حالمةتداعب خيالات النظارة وتتثنى كغصن جميل، بل هناك وحوش كاسرةودم مراق وضحايا لاحول لهم ولاقوة ومواكب جنائزية صامتة وضمائر ميتة . الراوى العميد الزين كاتب الرسالة  الي معلمه يكتب بوقاحة وصفاقة من بات قلبه كالحجارة أو أشد قسوة مستمتعا ومتلذذا باستعادة قصص تعذيبه وقتله لضحاياه الابرياء  مدعيا أن دخوله للجيش لم يكن الهدف منه مواصلة انحرافه المبكر الذى تجلي في قتل الكلاب والقطط والأشجار وسلخ قشرتها والاستمتاع بموتها البطئ المتدرج في صباه وهو الأمر الذى ذكره به معلمه في رسالة أرسلها اليه متهما إياه بانه ولج الكلية الحربية ليس بهدف الدفاع عن الوطن كما يدعى بل بهدف الانتقال من القتل المنظم للحيوانات والأشجار الي القتل المنظم للبشر. يكتب هذا الوحش الآدمى ليحكى مغامراته الوحشية ببرود أعصاب وعدم شعور بالذنب يحسد عليهما وهما في الحقيقة يبرزان نفسية المجرم المتلذذ بدماء الضحايا وأناتهم بصورة دقيقة تؤكد أنه أنسان معطوب وعسير علي الأصلاح لأن تلك البقعة المظلمة في تكوينه الروحى قد هزمت كل شئ إنسانى ونبيل فيه وأزهقته فبات لايشعر الا بتلك اللذة المريضة التى تعتريه حين يسحق ضحاياه الذين تحولوا عنده الي أرقام وأوهام مريضة عن الآخر ، أوهام لاترى في الآخرين إلا أعداء وحشرات يجب سحقها بلا رحمة
ونراه في رسالته يتفنن في تلطيخ وجوه الآخرين بصفات يطلقها عليهم من عنده بلا هوادة كما يطلق عليهم الرصاص فهو يصفهم كما يلي(الخائن معاوية الدكين)( الحزب البائد بقيادة ذلك الكافر أبو رؤوف)
( المتمردين العملاء المحليين)( كانت هناك قلة تمثل طابورا خامسا، فئة خائنة)وفي المقابل فهو يطلق علي نفسه ومن معه انبل الصفات(انحاز الشارع  كله في لحظة صدق وطنية غالية الي الحكومة الوطنيةفي شخص الرئيس مؤيدة له كحاكم أوحد للبلاد وقائد أبدي للجماهير)  أن هذا الجمل الذي لايري (عوجة رقبته) كما يقول المثل السودانى يحكى بلا أدنى شعور بالذنب كيف قتل أسيرا لاحول ولاقوة له وكيف عذبه هو وجنوده بلا شفقة ولارحمةوكيف أنهم حين عبثوا في جيوب القتيل وجدوا صورا لافراد اسرته وسمح القاتل لنفسه بالاحتفاظ بصورة زوجة القتيل لانها جميلة!! أنه تصوير بشع لنفوس خراب ليس فيها شئ من سمات البشر. ويبدو البطل معجبا بتفرده في وحشيته فيورد قصصا أخري تبين قسوته حين قتل شيخافوق الخمسين جريمته انه يقيم في قرية احتلها المتمردون قتله السفاح ببرود اعصاب رميا بالرصاص وهو يصفه بانه كلب وجاسوس والرجل يتوسل اليه أن يبقي علي حياته بلا طائل. القصة جميلة افسدتها النهاية وهي اضعف مافيها حيث ختمها المؤلف بعبارة تقريرية تقول(هذا الخطاب مثل الوثيقة الوحيدة التى قدم بواسطتها العميد الزين طه للمحكمة الدولية في لاهاي لمحاكمته كمجرم حرب) هذه الأضافة جاءت شرحا للقصة لم يكن المؤلف في حاجة له وكان عليه أن يثق في القارئ الحصيف ويترك له استخلاص النتائج والأحكام من خلال الصور واضحة الدلالات التى قدمها. فضلا عن أن القارئ سيتعاطف مع العميد الزين لأنه تعرض للخيانة من استاذه الذي استغل ثقته فيه وقدم مراسلاته الخاصة كدليل ضده فخان الأمانة مرتين مرة كمعلم ومرة كصديق، وهذا يهدم الغرض من القصة وهو حشد الغضب علي العميد الزين وليس علي المعلم.
في قصة بت الجزار تصوير طريف وموجع لجانب آخر من الأمراض الاجتماعية المتفشية في المجتمع السودانى وتوثيق لوحش من نوع آخر هو معلم يغرر باحدي الفتيات المتدربات عنده باسم الزواج العرفى ويعلم أبوها بالأمر فيسافر من ريفه البعيد الي المدينة ليعالج الأمر حيث يستخدم حيلة طريفة يرعب بها الوحش فيرضخ ويتزوج البنت تحت وطأة خوفه من وهم هدده به الأب. يبدو مكر الأب في القصة رد فعل مشروع علي مكر من غرر ببنته وكأن المؤلف يقول أن الشر لايخرسه إلا شر مماثل. هذه هى رسالة القصة فهل هى دعوة لاستخدام العنف المضاد أم هى دعوة لانهاء كل اشكال العنف؟ يبقي السؤال منفتحا علي أكثر من أجابة فهو في الحقيقة دعوة للمناقشة لا الاجابة. قصة (لبن دافئ من اجل منتصر) التى
تحمل المجموعة الأسم المشتق من أحداثها قصة فريدة وهي تذكرنى بابطال انطون تشيخوف من الفقراء الراسفين في الأغلال والفقر في روسيا القيصرية قبل الثورة
فالقصة تتناول مشاهد من حياة امرأة فقيرة تعيش في حي فقير يسمي كمبو كديس وربما تكون دلالة التسمية انه مكان لائق بمعيشة الحيوانات كالقطط وليس لائقا لسكنى الانسان لكن هولاء الفقراء يسكنونه ويعانون من ملاحقة السلطات لهم، فتلك المرأة من كمبو كديس تضطر الي بيع الكسرة نهارا والخمور البلدية في باقي اليوم لتستطيع تربية أولادها ولكن الشرطة تلاحقها تنفيذا لسياسات السلطة وتقبض عليها متلبسة بحيازة الخمور فتسجنها وتحكم عليها بالغرامة والجلد وتضطر بنتها لحمل اخيها الرضيع منتصر اليها في محبسها لترضعه رضعاته الثلاث اليومية التى كانت ترضعه اياها اثناء عملها في بيع الكسرة. إن منتصر الصغير الباحث عن لبن دافئ هو منتصر علي السلطة وعسفها وجورها والمتمسك بحقه في الحياة في مواجهة سلطة تحرمه من الانسان الوحيد الذي يطعمه من جوع ويأمنه من خوف ( أمه) فهو بذلك يشكل رمزا لارادة الحياة لدى الطبقات المسحوقة تلك الارادة التى لايطفئها ولايهزمها جور ولاعسف ولاحكم جائر، لهذا السبب عبرت المرأة عن احتقارها للقاضي الممثل الرسمي للسلطة حين حاكمها بالجلد عقوبة علي كفاحها من اجل الحياة في ظل نظام اجتماعى فاسد لايرحم أنوثتها ولا انسانيتها ولاطفولة ابنها، وقف القاضي بعد نهاية الجلد كما يصفه الراوي(وعلي فمه ابتسامة صفراء قاسية محاولا من خلالها ان يكون تقياوعادلا محبوبا وحاسما في نفس الوقت : هيا قومى استغفري ربك الله واعلنى توبتك)
لكن كلتومة تلك المرأة الباسلة كان رد فعلها( نظرت اليه كلتومة نظرة فاحصة عميقة، ثم بصقت علي الأرض بصاقا داميا مرا.وشقت طريقهاعبر الجمع فكان عليها أن تسرع حتى لاتفوت منتصر الصغير رضعة الصباح.) انه مشهد بديع لصراع الضحية والجلاد، مشهد انتصرت فيه الضحية بأمومتها الحية علي السلطة بادوات قمعها التى أدمت ظهرها دون ان تطلق الضحية طلقة واحدة أو تصدر عنها آهةودون أن تمارس في مواجعهة القمع شيئا سوي فعل الحياة، فسياط السطة واهانتها لم تنسها رضعة الصباح التى ينتظرها منتصر الذى لاتراه السلطة ولاتكترث لجوعه، انها تفهم انها هى من يصنع الحياة وهم من يصنعون الموت. انها قصة رائعة بحق. وتظل صورة تلك المرأة الباسلة الصامدةتحت السياط والشرطي يرفع عقيرته عقب كل سوط وهى تنتظر انتهاء الجلد لتلحق بطفلها وترضعه رضعة الصباح تجسد صورة رائعة للصمود.
قصة( حذاء ساخن( قصة اقرب الي قصص الرعب وهى تصور أثر الحرب علي الجنود في مناطق العمليات عبر تجربة خاضها مجند  من مجندى الخدمة الالزامية يكلف بمرافقة ضابط صغير متغطرس حديث التخرج ويتعرض المجند الي مايشبه الهلوسة وتنتهى حياته بصورة فاجعة حين ينفجر لغم تحته ويمزقه أربا وتنتهي حياته وهو لايزال تحت تأثير الهلوسة. انه تصوير لمقولة أن الحروب تسحق الابرياء ولايتضرر مشعليها.
أما قصة الاستاذ صابر الدقيس فهي عبارة عن نكتة 
فالرجل الفقير حامل الشهادات الباحث عن وظيفة تعرض عليه وظيفة غريبة وهى ان يحل سجينا بديلا عن أمير ثري لمدة اربع سنوات مقابل مال وفير
يكفيه واسرته كل العمر وحين يوافق تحت ضغط الحاجة تصل النقود أسرته ولكنه يعدم بدلا عن الأمير . لعله (دقس) كما تقول العامية السودانية بمعنى انه تعرض لعملية خداع كلفته حياته بدلا من حريته ولهذا استحق اسم صابر الدقيس فصار اسما علي مسمى  .
في قصته (محاربة قديمة تحسم المعركة وحدها) يصور الرعب الذي يعيشه السكان المدنيون في مناطق النزاعات المسلحة حيث يظلون عرضة لتصرفات الجنود الطائشة حين يقبل الليل ويسكرون ويتصرفون مع السكان بصورة مثيرة للرعب، يصور الكاتب ذلك عبر تساؤلات وخوف ينتاب طفلة صغيرة تقيم مع أمها في منطقة تعيش ذلك الرعب الليلي اليومى، وتضطر الأم في النهاية الي حمل السلاح للدفاع عن نفسها وبنتها، انها قصة تصور جانبا خفيا للنزاعات المسلحة وماتفعله بالسكان المدنيون.
اما قصته (ضلالات) فهي علي ضعفها فنيا، حيث تبدو أقرب الي المسرحية منها الي القصة، إلا انها حافلة بمشاهد مختارة بعنايةمن كمبو كديس وطن الفقراء الطيبون الصغير، مشاهد تتنوع وشخصيات متعددة وحكايات متعددة لكن يربطها خيط واحد الفقر ومعاناة الفقراء ومفاهيمهم المختلفة للحياة وقيمها، وتبدو شخصية اسماعيل كوكو مرفعين نسرا أسطوريا يتمدد في فضاء القصة بفحولته وشجاعته ومغامراته النسائية ومصيره الفاجع حين مات في ميدان القتال في الجنوب في معركة ليس له مصلحة ظاهرة فيها بينما يظن أحد خصومه المحليين انه قتله باستخدام سحر أسود لان اسماعيل اعتدى علي عرضه ولم يجبر خاطره بالمال العرفي الذي يدفع في الأحوال المماثلة، وهكذا يبدو المكان حاضرا بحكاياته واعرافه واساطيره وصدقه الجارح. نجد العنوان مراوغاماكرا فجميع الحكايات ليس فيها من الضلال شيئا اللهم الا اذا كان الفقر ضلالا.
قصة( اسنان لاتغنى) تبدو الكلمة الشاذة في المجموعة حيث انها تدور في امريكا وبطلها سودانى مقيم هناك
وليس هناك ادنى صلة لموضوعها مع الجو العام للمجموعة وأسمها، تبدو القصة اختيارا غير موفق . وموضوعها موضوع متكرر ومطروق كثيرا وهو علاقة عاطفية سريعة الايقاع بين مهاجر شرقي واجنبية متحررة والجنس حاضر بقوة. 
ولكن القصة الأخيرة بالمجموعة( الأخدود) تعيدنا الي الاجواء العامة للمجموعة فهي تصور حال منطقة عانت الأمرين من النزاعات المسلحة الداخلية حد ان بعض أهلها توحشوا واصبحوا آكلي لحوم بشر وينثر بركة في اجواء القصة بهارات الجنس بشكل فانتازي يضيف الي القصة سحرا وغموضا وإثارة وابعادا فلسفية  عميقة فتبدو القصة شمعة تتراقص في ظلمة كهف عامر بالجماجم البشرية ومعاقي الحروب  وحتى البطل نفسه تاجر جلود حيوانات وبنقو ( مخدر محلي) فهو جزء من الشبكة العاملة في تدمير الطبيعة والإنسان. لذلك لم نلمس أي تعاطف أو شعور بالجميل منه تجاه الأنثي التى أنقذته من الموت علي أيدي أهلها المتوحشين، بل جعل منها موضعا للشهوة واللذة
.
تمزيق الأقنعة وتوحش النص:
القاسم المشترك بين نصوص المجموعة هو طابعها الإنسانى ونماذجها التى لاتنسي ولاتغيب عن الذاكرة
فهى نماذج منتزعة من الحياة العادية تجسد صراع الإنسان في الحياة وكفاحه من أجل البقاء وهى نماذج مكتوبة بمحبة وصدق متوهجين حتى تكاد تلامس قلوب أصحابها وترى أوجاعهم، ففي قصته ضلالات وصف دقيق لشخصية آمنة  الصبية التى تعانى من التبول اللا ارادى كما يلي( ترقد علي عنقريب مفروش ببرش أحمر، تحت العنقريب توجد جوالات خيش فارغة مفروشة علي الارض لتمتص ما قد يتساقط من بول عبر البرش) الوصف هنا وصف لمجمل البيئة الاجتماعية وليس للشخصية وحدها وتبلغ الدقةحد انك تري لوحة مكتملة تجسد المشهد وليس وصفا خارجيا.
وفي جزء آخر من القصة يورد موقف الطفل ابو ذر من انحراف اخته  المراهقة آمنة حيث يستخدم قرنيتا ويفجره قريبا منها محذرا اياها انه سيقتلها في المرة المقبلة ا ن هى واصلت سلوكها، وهنا يقدم القاص بذكاء ملمحا لأثر الحروب علي ثقافة المكان وعلي الأطفال وأحلامهم فنفس الصبي الذى يلعب بالقرنيت المدمر بدلا من اللعب بالطين البانى يحلم بدخول الجيش .بينما تفضل الفتاة ان تعمل في بيع الشاي علي مواصلة تعليمها حتى تساعد أمها بينما يحلم الثالث ان يعمل سائق كارو لتوفير رسوم تعليمه. تزداد الصورة  وضوحا اذا عرفنا ان هولاء الاطفال ابناء جندى مات في كبويتا في الجنوب في حرب ليس له صالح فيها تاركا اطفاله لكلاب الشوارع لتنهش اجسادهم النحيلة، أن اسماعيل كوكو مرفعين تخلي عن مهمته كأب مهمته في صنع الحياة لصالح العمل في خدمة الموت فكان نصيبه الموت في أرض بعيدة تاركا اطفاله مفتقدين للدفء، علي عكس تلك المرأة التى اختارت القتال في ميدان صنع الحياة
ولم تنسها السياط علي ظهرها رضعة الصباح الخاصة بطفلها وهى ذاتها المرأة التى أثقل كاهلها اسماعيل بتركة ثقيلة عليها تحمل عبئها، ان المراة السودانية تتحمل مشاق الحرب والسلم معا وتعانى من الأمراض مثل التبول اللا ارادي والفقر والجهل واستغلال الرجال لجسدها واستغلال الدولة لها وقمعها ومصادرتها لادوات حياتها المتاحة وحتى رجلها تجعل منه وقودا للحرب ولكنها لاتنحنى وتواصل ببسالة منقطعة النظير فعل الحياة والمقاومة بلا شعارات ولابحث عن دعم من أي نوع. لذلك وصف بركة(زهرة)   وصفا مباشرا بكونها الشهيدة في خاتمة قصته الرائعة( ضلالات) حين قال:(بينما كان الناس مشغولين بتفكيك الكعكة...كانت هي ساكنة وعلي شفتيها ابتسامة رضا عظيمة بلهاء وهي ترقب الملائكة يلتهمون كعكتها الطازجة إحتفاء بعرس الشهيدة، التي كانت هي نفسها) واللافت للنظر ان كلتومة صانعة الخمور وبائعة الشاي التى تحدت القاضى وسياطه وهرولت لترضع طفلها هى وجه آخر لصمود زهرة وهي مستقبل آمنة الصغيرة التى تعانى من التبول اللا ارادي ومن استغلال الرجال لجسدها وتفضل بيع الشاي علي التعليم ، اللافت للنظر أن كل النساء في قصص عبد العزيز بركة واقعات تحت قهر مركب من المجتمع ومن الرجال علي وجه الخصوص، والقصة الوحيدة التى غاب فيها النموذج النسائي المباشر هى قصة مجرم الحرب تنتهى باحتفاظه بصورة زوجة الأسير الذى قتله بدم بارد بدعوى انها جميلة وهنا تصوير مرعب لوضع المرأة عند هذا السفاح فهى موضوع لشهوة مريضة. في قصة صاحبة المنزل تصوير دقيق لواقع النساء فالقصة تعج بنماذج نسائية من الطبقة الفقيرة  يعملن في مهن هامشية مثل بيع السمسمية والشاي والتسالي وعرفن الطريق الي بيوت العزابةوميزات العساكر ولهثن خلف الكريمات الرخيصة والعطور الرخيصة علهن يمسحن آثار مالحق بهن من عفن قاع المجتمع بلا طائل. ولكنه في الحقيقة هو عار لايخصهن وعفونة لاتنتمى لهن، بل هو عار المجتمع الذي القي بهن في اليم مكتوفات وقال لهن :اياكن والبلل!! بل أن اقسام من هذا المجتمع لاتريد حتى رؤية وجوهها وقبحها في المرآة فطفقت تحارب بروز الحقيقة العارية في النصوص الأدبية بحجج مختلفة ولكن الغاية واحدة وهى عدم ابراز ما هو تحت القاع الي السطح ليس رفقاً بالناس من القبح بل رفقا بالقبح من الكشف!!انها رغبة مريضة في محاكمة الضحايا باستمرار وغض الطرف عن الجلاد. ان القصة عند عبد العزيز بركة ساكن اداة تشريح وفضح وتنوير
وهى متورطة عاطفياً منذ الوهلة الأولي مع نماذجها الإنسانية الواقعة تحت نير الظلم والاضطهاد ولعل هذا هو سبب توحش النص وعداونيته الظاهرة أحياناً، فالكاتب يتعمد أن يكون النص مستفزا للقارئ ومحفزا له علي اتخاذ موقع وموقف مما يجري، فالنص هنا ليس عارض أزياء يدور ببلاهة اثناء عرض نماذجه لكنه متجذر في تلك النماذج وناطق باسمها ومتورم الخدين مثلها وباحث عن الشمس وعن يد تأخذ بيده وتنتشله من أعماق الجب مثلها.أنه نص تحريضى من الدرجة الأولى.
والملفت في نصوص هذه المجموعة هو غياب الاستطرادات واللغة الشاعرية وإنصراف القاص الي مواضيعه مباشرة، حتى ان القارئ يلهث خلف الصور المتتابعة من أول صفحة الي آخر صفحة بلاتوقف  كمن يشاهد فيلما سينمائيا لاتتخلله أي فواصل اعلانية، وهذا وجه من وجوه جودة هذه النصوص والتى أميل الي القول بأنها منتزعة من الذاكرة الشخصية للكاتب أكثر من كونها من بنات الخيال، فصدق المشاعر وحرارتها ودقة التصوير للشخصيات حتى الجانبية يشير الي أن الشخوص من لحم ودم وخضعت لنوع من المعالجة الدرامية في اختيار زوايا القص وطريقته مع وجود خيط رئيس واحد متصاعد الي الامام بقوة مما جعل المجموعة تبدو كرواية واحدة متعددة الفصول.. ومما يدعم قولنا هذا ما اورده المؤلف في ليلة ثقافية ببيت الفنون بمدينة بحري حين تحدث عن مصادر حكاياته فقال انها قراءاته( فضلا عن انهار الحكايات في بئيته ومصائر بعض من يعرفهم والتي اثارت اسئلة ظلت بلا اجوبة فرفيق الصبا الذي قتل في حرب دائرة في مكان بعيد من الوطن واولئك العائدون بارجل مقطعة كانوا يثيرون الاسئلة دوما في ذهنه ) وقال في معرض حديثه ان روايته رماد الماء مثلا( حاولت الاجابة علي بعض الاسئلة حول الحرب الاهلية في جنوب السودان ، تلك الحرب التي أثرت في طفولته وصباه ومصائر رفاق احبهم لم يكن لهم ناقة فيها ولاجمل لكنهم دفعوا ثمنها باهظ رغم بعدهم جغرافيا عنها)    ولعله يجدر بنا القول ان هذه المجموعة  تعتبرمن أفضل ماكتب عبد العزيز بركة ساكن بعد رائعته( رماد الماء) وهى مجموعة جديرة بالقراءة والتوقف عندها وعند شخوصها وحكاياتهم الموجعة.
 صلاح الدين سر الختم على
مروي
الخامس والعشرين من اكتوبر 2013

المراجع والهوامش:
عبد العزيز بركة ساكن/ مجموعة ( امرأة من كمبو كديس) القصصية /اصدار دار عزة للنشر. الخرطوم.
عبد العزيز بركة ساكن / رماد الماء/ رواية/ دار رؤية للنشر القاهرة.                                               
انطون تشيخوف / الاعمال الكاملة.
السرد علي الهواء( تغطية لكاتب الدراسة لليلة ثقافية اقامتها مجموعة مشاهد وقصص قصيرة ببيت الفنون ببحري) منشورة بموقع مسارب سودانية / الرابط ادناه
                                                                                             http://www.msarpsudania.net/vb/showthread.php?968-%C7%E1%D3%D1%CF-%DA%E1%ED-%C7%E1%E5%E6%C7%C1-%E3%DA-%C7%E1%E3%C8%CF%DA-%DA%C8%CF-%C7%E1%DA%D2%ED%D2-%C8%D1%DF%C9-%D3%C7%DF%E4
**الكاتب والروائي عبد العزيز بركة ساكن وهو من مواليد مدينة كسلا شرق السودان عام 1963م، وهو صاحب رواية (الطواحين) ورواية (رماد الماء) وله مجموعة قصصية بعنوان (على هامش الأرصفة) وأخرى بعنوان (امرأة من كمبو كديس)، حقق جائزة الـ بي بي سي أكثر من مرة عن قصته (دراما الأسير) ثم عن قصته (فيزياء اللون)، ترجمت بعض أعماله إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية
كتب أيضا عددا من النصوص المسرحية، صدر عن (مكتبة الشريف الأكاديمية) كتاب (البلاد 
الكبيرة) في (552) صفحة من القطع المتوسط، متضمنا روايتيه: الطواحين ورمادالماء،بالإضافة إلى روايته (زوج امرأة الرصاص) التي تنشر لأول مرة، ضمن هذا الكتاب.روايته (الجنقو- مسامير الأرض) حققت جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي في دورتها التي أعلنت ظهر الأربعاء ا 21أكتوبر2009 بمركز عبدالكريم ميرغني الثقافي وسط حضور إبداعي وإعلامي حاشد" وتم حظرها فيما بعد بقرار هئية المصنفات الادبية.
صودرت مجمــوعته القصصية«امرأة من كمبو كديس» في 2009 وجمعت من جناح مكتبة عزة في معرض الخرطوم الدولي للكتاب، كما يقول في حديثه إلى «الحياة».وقبلها كانت أمانة الخرطوم عاصمة للثقافة العربية 2005 أصدرت مجموعته القصصية «على هامش الأرصفة» إلا انهاسارعت إلى سحبها بعد اجتماع ساخن لمسؤولين نشرت وقائعه صحيفة «الحياة»
المحلية وقد استغرب بعضهم محتوى المجموعة القصصية الـ «خادش للحياءالعام.) مؤخرا صدرت له روايتان (مسيح دارفور) (وذاكرة الخندريس).