Friday, November 22, 2013

استخدام المفارقة في القصة القصيرة جدا (فاطمة السنوسى) نموذجاً دراسة تطبيقية بقلم /صلاح الدين سر الختم على


فاطمةالسنوسى رائدة القصة القصيرة جدا في السودان تتميز ببصمة خاصة في الكتابة ، فهى من جهة سبقت في انتاجها الكتابة النقدية عن فن القصة القصيرة  جدا فى السودان وربما في العالم العربى، وهى كتابة تأخرت كثيرا ولازالت شحيحة، فاطمة السنوسى قدمت نماذج ناضجة لفن القصة القصيرة جدا فى وقت مبكر نسبيا ، هو مطلع الثمانينات، وجاءت نصوصها المبهرة  نصوصا تعليمية مكتملة النمو ولم تحفل باخطاء البدايات التى لاتزال مصاحبة لكثير مما ينشر على انه قصة قصيرة جدا ، وهو أمر مثير للدهشة ويعنى ان فاطمة السنوسى كانت ملمة بشكل عميق بفنيات كتابة القصة القصيرة ومطلعةعلى نماذج محكمة لذلك النوع، فالمعرفة لاتستحدث من العدم، وبسبب قلة الظهور الأعلامى للكاتبة التى انسحبت من المشهد الثقافى السودانى  منذ نهاية الثمانيات وعاشت فى المنفى، لم يلامس النقاد السيرة الذاتية لها ليتم القاء الضوء على ينابيع تجربتها الثرة المدهشة بالرغم من أن نصوصها المعروفة نشرت بالصحف السيارة فقط ولم يتم جمعها ونشرها بكتاب على حد علمى. لكن التجربة المتفردة وقفت بناية شاهقة تلفت نظر المهتمين بتاريخ القصة القصيرة جدا في السودان ، وان لم تلق نفس الإهتمام والإنصاف من النقاد العرب الذين كتبوا عن تاريخ القصة القصيرة جدا  في العالم العربى، بل تجاهلوا تجربتها وريادتها واهتموا بكتاب لاحقين لها و ليس عذرا لاولئك النقاد عدم وجود كتاب مطبوع لاعمال القاصة فاطمة السنوسى، فمعظم كتاب القصة القصيرة جدا يكتفون بالنشر للتجارب في الصحف السيارة والمجلات المتخصصة ومؤخرا النشر الالكترونى. نحاول التعريف بفاطمة السنوسى وتجربتها المهمة ونصوصها وطريقتها في الكتابة زاعمين ان نصوصها تعتبر نصوصا تعليمية ذات فائدة كبيرة لكل من يهتم بهذا الفن المستحدث. ومن جهة أخرى نريد انصاف الكاتبة ونصوصها ووضعها فى المكان اللائق بتفردها وتجربتها. فى هذه الدراسة نستعرض جانبا من تجربة فاطمة السنوسي مع القصة القصيرة جدا وهو تقنية استخدام المفارقة بأنواعها المختلفة في كتابة القصة القصيرة جدا، وننهج منهجا تطبيقيا في هذه الدراسة لتكون إمتدادا لدراستنا النظرية عن المفارقة، والغرض واضح وهو يحقق عدة أهداف مجتمعة: ربط الدراسة النظرية بالواقع العملى وعملية انتاج النصوص وتحليلها لتقريب الصورة للكتاب والنقاد، تبيان الإحكام الفنى والتجويد فى نصوص فاطمة السنوسى للتدليل على ريادتها واهميةتجربتها الابداعية. تمليك القارئ منهجية علمية لتحليل وفهم النصوص .

تعريف المفارقة:
مصطلح المفارقة،وهي أن تفهم لفظ على عكس معناه أو تكّوِّن فكرة عن شيء على عكس حقيقته .
      تعتبر المفارقة من أهم مقومات النص الإبداعي ، خاصة في الرواية  والدراما. سواء كانت مفارقة  في اللغة بين الدال والمدلول  والدلالة؛ أقصد مرونة الدلالة بين اللفظ والمعنى. أو مفارقة في الموقف  بين التصور أو المعرفة والفهم لعكس الحقيقة . أو مفارقة  في الحركة بين الحركة الطبيعية للإنسان والحركة غير الطبيعية ،سواء كانت  آلية أو حيوانية أو معوقة    ( و هذه عادة توظف في  الكوميديا ).
      عند الرجوع إلى «قاموس أكسفورد» وجدناه يشير إلى أن مصطلح(Irony )  مشتق من الكلمة اللاتينية (Ironia) التي تعني التخفي تحت مظهر مخادع، والتظاهر بالجهل عن قصد، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
١- هو شكل من أشكال القول يكون المعنى المقصود منه عكس المعنى الذي تعبر عنه الكلمات المستخدمة، ويأخذ - عادة - شكل السخرية حيث تستخدم تعبيرات المدح، وهي تحمل في باطنها الذم والهجاء.
٢- نتاج متناقض لأحداث كما في حالة السخرية من منطقية الأمور.
٣- التخفي تحت مظهر مخادع أو الادعاء والتظاهر، وتستخدم الكلمة - بشكل خاص - للإشارة إلى ما يسمى بـ «المفارقة السقراطية» من خلال ما عُرف بفلسفة السؤال، وكان سقراط يستخدمها ليدحض حجة خصمه.
 هى كلام يبدو على غير مقصده الحقيقي،أو أّنها كلام يستخلص منه المعنى الثاني الخفى  من المعنى الأول السطحي، إ ذ ن المفارقة لعبة لغوية ماهرة وذكية بين طرفين: صانع المفارقة وقارئها، على نحو يقدم فيه صانع المفارقة الّنص بطريقة تستثير القارئ، وتدعوه إلى رفضه
بمعناه الحرفي، لصالح المعنى الخفي، الذي غالبا ما يكون المعنى الضد. وهو في أثناء
ذلك يجعل الّلغة يرتطم بعضها ببعض، بحيث لا يهدأ للقارئ بال إ لا بعد أن يصل
إلى المعنى الذي يرتضيه ليستقر عنده،فالمفارقة إًذا "لغة اتصال  سري بين الكاتب
والقارئ أو بين المرسل والمستقبل. والمفارقة قد تكون جملة، وقد تشمل العمل الأدبي كلَّه. وتتعدد أشكال المفارقة وأهدافها، فقد تكون سلاحا للهجوم الساخر، وقد تكون أشبه( بستا ر رقيق يخفي ما وراءه من هزيمة الإنسان".)
وتحتاج المفارقة - في صناعتها- إلى مهارة لغوية خاصة، كما تحتاج إلى
إحكام بالغ الدقة للعلاقة بين الشكل والوظيفة،أو بعبارة أخرى بين المقال والمقام. "وُتعد المفارقة من زاوية المعجمية التاريخية عاملا من عوامل الّتطور الدلالي لّلغة، من حيثإ ن الّلفظ يكتسب معها معنى جديدا هو من معناه القديم بمنزلة النقيض، وذلك حين يكون الخطاب للّتهكم ونحوه"( 1). والمفارقة صيغة من التعبير تفترض من المخاطب ،بمعنى أن المخا طب يد رك في التعبير ،(Double audience) ازدواجية الاستماع المنطوق معنى حرفيا يكمن في ناحية، ومن ناحية أخرى فإّنه يدرك أَ  ن هذا المنطوق -في هذا السياق- لا يصلح أن يؤْخذ على قيمته السطحية، ويعني ذلك أَ ن هذا المنطوق،يرمي إلى معنى آخر يحدده الموقف التبليغي، وهو معنى مناقض- عادًة - لهذا المعنى الحرفي، وبناء على ذلك تبدو المفارقة نوعا من الّتضاد بين المعنى المباشر المنطوق،والمعنى غير المباشر"ويتخصص هذا المفهوم قليلا بالمفارقة الدرامية حيث تنطق الشخصية المسرحية بشيء له عندها وعند ،(Ironie Dramatique)الشخصية الأخرى التي تخاطبها معنى ما، ولكن هذا الشيء الذي تنطق به له -عندالنظارة- معنى مختلف تما ما".( 2) إ ن هذا الَتضاد الذي نتحدث عنه يلحظه القارئ أو المخا طب من خلال السياق.
1)- خالد سليمان: المفارقة والأدب، دراسات في النظرية والتطبيق، دار الشروق للنشر والتوزيع،  عمان، د.ط، . 1991 ، ص: 08
. 2)- نبيلة إبراهيم: فن القص في النظرية والتطبيق، ص: 197 )
.
هذا باختصار تعريف نظرى موجز للمفارقة كمصطلح نقدى وفلسفى.  ولابد للناقد والكاتب من منهجية معينة يستخدمها لمعرفة المفارقة وبنائها فى النصوص والتعرف عليها وعلى دلالتها حيث وجدت.  والمفارقة لا تكون إلا عندما يكون أثرها مزيجا من الألم والّتسلية، ولا تترك القارئ  إ لا بعد أن تكون قد رسمت على شفتيه ابتسامة هادئة تصحبها السخرية من الضحية. وهي -أي المفارقة- رفض للمعنى الحرفي من الضحية، هذا الرفض للمعنى الحرفي للكلام يكون لصالح المعنى الآخر، المعنى الذي لم يعبر عنه.   وقد استقر النقد والنقاد على منهجية معينة للتعرف على المفارقة فى النص. وتتمثل العملية فيما يلى:
الخطوة الأولى: رفض المعنى الحرفى للنص:
 ينبغي على القارئ أن يرفض المعنى الحرفي، وليس أمرًا كافيًا أن يرفض القارئ هذا المعنى لأنه لا يوافق عليه، وليس كافيًا أيضًا أن يقوم بإضافة معانٍ أخرى من عنده. فإذا كان القارئ يقرأ قراءة دقيقة، فإنه لن يستطيع تجاهل هذا التنافر أو التعارض بين الكلمات وما يعرفه هو «أى القارئ». وفي كل الأحوال، فإن السبيل إلى معانٍ جديدة يمر عبر اقتناع صامت لا يمكن أن يتوافق مع المعنى الحرفي.
 وينبغي أن نلاحظ شيئين فيما يخص هذه الخطوة الأولى، وهما رفض افتراض ما، لأننا ينبغى علينا أن نرفض هذا الافتراض الصامت أو غير الواضح،.
 كما ينبغي على القارئ أن يتمكن من الإمساك بما يعتبره البعض مفاتيح خارجية. 
الخطوة الثانية: التأويل البديل :
 يقترح القارئ تأويلات أو شروحًا بديلة، وسوف تكون كل هذه التأويلات متعارضة إلى حد ما مع المعنى السطحى الظاهر لما يقوله النص، ومن المحتمل أن تكون غير متوافقة، ولكنه بالتأكيد سوف يراجع نفسه. وربما يقول: إنها سقطة من الكاتب، أو أنه مجنون، أو قد مرَّ شىء في البداية لم ألاحظه، أو أن هذه قد تعني شيئًا لا علم لى به.
الخطوة الثالثة :التعرف على القصد المحتمل أو المرجح للكاتب:
 وبناء عليه يجب أن نتخذ قرارًا بشأن معتقدات الكاتب، فعندما يقول فولتير: «إنها تمطر»، فإن ثقتنا في أن فولتير كان يستخدم المفارقة تكون عظيمة لدرجة ترقى إلى مرتبة الحقيقة، ونعتمد على قناعتنا بأنه مثلنا، يرى ويرفض ما تتضمنه العبارة «كلا الجانبين يستطيع أن يكسب الحرب نفسها». إن هذا الحكم على معتقدات الكاتب يتماشى مع تأويل المفارقة الثابتة Stable Irony ولا يتم إدراك المفارقة الثابتة بدون الوصول إلى هذا الحكم.
ونلاحظ أن الخطوتين الأولى والثانية في حد ذاتيهما لا تستطيعان أن تقولا إن العبارة بها مفارقة.
 ولا يهم إلى أي مدى نكون مقتنعين اقتناعًا راسخًا بأن العبارة غير منطقية وغير معقولة وأنها محض زيف واضح. ويجب علينا أن نقرر: هل الأمر الذي نرفضه مرفوض أيضًا من وجهة نظر الكاتب؟ وهل للكاتب سبب منطقي يجعله يتوقع أن نتفق معه؟. من البديهي أن الكاتب الذي يثير اهتمامنا به ليس إلا الشخص المبدع المسئول عن الاختيارات التي صنعت العمل، وهو ما يسمى بـ «المؤلف الضمنى» Implied Author الموجود في العمل. والحديث عن «المغالطة المتعمدة» أو «المقصودة» حديث صحيح لكنه لا يستطيع أن يحل مشكلاتنا النقدية، فنطلب الكاتب على الهاتف ونسأله ماذا كان يقصد بعبارته تلك أو هذه. إن أفضل دليل على النوايا الخفية التي تكمن خلف أية عبارة في نص هو النص كله. ولأجل بعض الأهداف النقدية، سوف يكون من المعقول أن نتحدث عن مقاصد «النص» وليس عن مقاصد «الكاتب». ولكن التعامل مع المفارقة يجعلنا نشعر بأن الحكم - بشكل نهائي - على دعوتنا ما يزال متجسدًا في وعي الكاتب حينما نكون مدفوعين باتجاه التأويل الصحيح.
 وفي نهاية الأمر: ينبغي أن نقول إنه ليس من المنطقي أن يكون الكاتب قد وضع هذه الكلمات بهذا الترتيب دون أن يكون قد قصد هذه المفارقة الدقيقة.

الخطوة الرابعة
استنباط معنى جديد
 بعدما نكون قد اتخذنا قرارًا بشأن معرفة ومعتقدات الكاتب أو المتحدث، نستطيع في نهاية الأمر أن نختار معنى جديدًا أو نختار حزمة من المعانى التي نشعر معها بالاطمئنان. وعلى عكس الافتراض الأوَّلى، فإن المعاني التي يعاد بناؤها يجب أن تكون متوافقة مع المعتقدات الخفية غير المعلن عنها التي قرر الكاتب أن يعزوها إلى المؤلف.  وهنا تلعب ثقافة الناقد وقدراته وخبراته والمامه بالموضوع وبيئة النص دورا كبيرا فى تاويل النص وترجيح هذا المعنى أو ذاك، ويجب الوضع فى الاعتبار ان شرط الاجادة في استنباط معان جديدة ليس هو موافقة الكاتب على التأويل أو رفضه، بل العبرة بمنطقية التحليل حسب عبارة النص وظروف انتاجه، وقد يكشف الناقد معان خفية حتى على كاتب النص نفسه ، وتلك هى ميزة من ميزات النقد الأمين العميق. إن استنباط المعانى الخفية المضمرة هو فى حد ذاته عملية انتاج  لنص جديد واعادة انتاج لنص مقروء، وحتى عملية إعادة الإنتاج في الحقيقة هى إبداع أصيل للناقد مثلها فى ذلك مثل عملية بناء لحن موسيقي لقصيدة ليست للملحن ومثلها مثل اداء المغنى للقصيدة واللحن ففى العمليات الثلاث هناك بصمة شخصية لكل من الناقد والملحن والمغنى وهناك منتوج إبداعى خاص به لايلغيه كونه يشتغل على نص آخر. وهذا هو مايعرف بالحقوق المجاورة فى الملكية الفكرىة. ومثلما تتطلب  كتابة النصوص الإبداعية المقرؤة ثقافة عالية وإلماما بشروط انتاجها من كاتبها ، تتطلب ذات الشئ مضافا اليه ملكة خاصة وذائقة نقدية ومعارف مفهومىة لدى الناقد تمكنه من فك شيفرة النص ومحاورته وإستنطاقه. على هدى من هذه المفاهيم ندلف الى عالم فاطمة السنوسى المدهش لقراءته وتحليل النصوص بحثا عن كيفية انتاجها ودلالتها الكامنة ومنهجية بناء النص عند فاطمة السنوسى. من خلال قراءتنا لمجموعة كبيرة من نصوص الكاتبة لاحظنا ملاحظات أولية مهمة:
 1/ انتاج نصوص فاطمة السنوسى ليس صورا بلاغية منمقة جميلة ، بل هى كتابة واعية بشروط انتاج الجنس الأدبى الذى كتبت تحت مظلته وهو القصة القصيرة جدا، وتكشف النصوص عن امتلاك الكاتبة لمعارف نقدية متقدمة حول هذا الفن، تجلت في بنية نصوصها بشكل ملفت.
 2/ المفارقة بانواعها المختلفة حاضرة حضورا مدهشا ودائما فى مجمل التجربة الإبداعية للكاتبة، بحيث يمكن الجزم بعدم وجود نص خال منها.
3/ تتميز نصوص فاطمةالسنوسى بالتدقيق في اختيار الكلمات والجمل والإقتصاد الشديد فيها، مما يؤكد وعيها بأهمية التكثيف في القصة القصيرة جدا.
 4/ تميل فاطمة السنوسى الى استخدام الجمل الفعلية.
5/ لاتخلو القصة من الطرفة والسخرية وعنصر الإدهاش والمفاجأة في الخاتمة.
6/ القصة القصيرة جدا دائما تتميز عندها بالوحدة فى الزمان والمكان والحدث وقلة الشخوص والأحداث، والسير مباشرة نحو الهدف دون تمهل أو ابطاء.
المفارقة الدرامية فى نصوص فاطمةالسنوسى: 
 ارتبطت المفارقة الدرامية بالأساس بالمسرح، فهى متضمنة بالضرورة في أي عمل مسرحى، لكن هذا لا يعنى عدم وجودها خارج المسرح، وهى تكون أبلغ أثرًا عندما يعرف المراقب ما لا تعرفه الضحية. كذلك تتحقق المفارقة الدرامية عندما يعرف المراقب ما لا تعرفه الضحية. وهذا النمط من المفارقة متداخل بشكل أو بآخر مع ما يعرف بمصطلح «مفارقة الأحداث»  والمفارقة الدرامىةهي ((المفارقة التي ينطوي عليها كلام شخصية لا تعي أن كلامها يحمل إشارة مزدوجة: إشارة إلى الوضع كما يبدو للمتكلم, وإشارة, لا تقل عنها ملاءمة, إلى الوضع كما هو عليه, وهو الوضع المختلف تماما مما جرى كشفه للجمهور)   ومن خلال قراءة العديد من نصوص الاستاذة فاطمة السنوسى نستطيع التقرير باستخدامها للمفارقة بوجه عام والمفارقة الدرامىة على وجه الخصوص فى نصوصها.
قراءة النصوص: النص الأول :
(خلعت ثوب عافيتي
لأنشره عليك..
ما وجدتك..
صار في الدنيا مريضان.)
فى هذا النص الصغير الرحب، بكلمات قليلة جدا سردت القاصة المبدعة قصة حب خالدة صورت فيها شغف المحبين وتفانيهم واخلاصهم فى الحب، لكنها لم تورد تلك المعانى صراحة، بل فعلت كما يفعل الشعراء فى الإستعارة المكنىة ، حذفت ماتريد قوله وأشارت اليه باشياء وافعال من لوازمه، صورت امرأة عاشقة سمعت بمرض حبيبها، فهرعت حاملة ماتملك وهو عافيتها لتهبها له حتى ينهض من وعكته ويتعافى ولو هلكت هى، لكن المفاجأة كانت أنها سقطت مريضة هى الأخرى مثله، وفقدت عافيتها، وبذلك صار فى الدنيا مريضان، الدلالة هنا، انها حين عجزت عن وهبه عافيتها، شاركته الألم فسقطت مريضة مثله حتى لايتألم وحده، انها صورة شفافة وعصية على التكرار للحب وأحوال المحبين رسمتها ريشة مبدعة بذكاء مفرط،فالنص المخادع يبدو للوهلة الأولى رسالة من حبيبة الى حبيبها أو خاطرة عادية لاقصة فيها، لكن من يطبق منهجية البحث عن المفارقة لتحليل النصوص يدرك حين يرفض المعنى الظاهر الحرفى للنص، أن النص له دلالةمخبوءة وكامنة وحين يبحث عنها تخرج قصة الحب المروية من بين السطور عملاقة هادرة كمظاهرة صاخبة ونرى الدموع تسيل على خد المحبوبة مثل حبات لؤلؤ أنفرط عقدها فأخذت في التساقط واحدة تلو الأخرى، ونشعر بالتياعها والحزن الذى اعتصر قلبها، ونراها تركض لتفدى حبيبها الذى تفتك به الحمى بنفسها، فتسقط فى منتصف الطريق مغشيا عليها ، يحملها المارة صوب المستشفى فتجاوره فى غرفة العمليات حين استعصى عليها أن تخرجه منها معافى ، حينها تبتسم ويدها الصغيرة تتسلل بين السريرين لتلامس يده. حينها نتساءل ( ماذا ارادت الكاتبة قوله بهذه الصور المفعمة بالمحبة والتفانى والشغف بالمحبوب؟) حينها تكون الاجابة هى ان القصة تمجد هذه القيم الجميلة وتدعو لتعزيزها وبقاءها فى عالم لاهث لايعترف بالحب ومشاعر المحبين، عالم يصنع القنبلة الذرية ويمتنع عن بناء أكواخ للمحبين ومستشفيات ولادة وحدائق لاجنود فيها ليتهامس فيها العشاق دون ان يزعجهم قانون العقوبات أو الطوارئ أو الدبابات أو القنابل، انها دعوة لتمجيد الحب فى الأرض واعلاء شأنه. وتطوف بالمخيلة قصة هدية عيد الميلاد للكاتب الأمريكى العصامى أو هنرى التى صور فيها قصة حب بين زوجين، جاء عيد الميلاد وكلاهما لايملك شيئا ليشترى هدية عيد الميلاد للاخر ، فباع الرجل ساعته ليهدى الزوجةدبوسا ذهبيا لشعرها الطويل، ففوجئ بانها قد قصت شعرها وباعته لكى تهديه هدية ذات صلة بساعته.المفارقة فى تلك القصة مفارقة درامية مثل هذه، وفى النهاية أهدى كل من الزوجين الآخر شعورا لايقدر بمال الدنيا وكنوزها، تمجيد رائع للحب والمشاعرالانسانية هو هذا النص البديع لهذه الكاتبة الشفيفة.
النص الثانى: (في قلب سحابة بعيدة
حفرا مخبأ لحبهما
امطرت السحابة
انسكب الحب على المدينة)
المعنى الظاهر لهذا النص ، عاشقان خائفان من ذيوع سرهما ( حبهما) تركا الأرض بما فيها ومن فيها، وحفرا حفرة للحب في جوف سحابة لحمايته من فضول البشر، لكن المفاجأة التى لم تكن في حسبانهما ولم تطف بخاطريهما  تحققت حين هطلت السحابة مطرا على الأرض التى هربا منها وأخفيا حبهما عن أهلها، فتحقق عكس ما اراد العاشقان  وذاع سرهما وانتشر في المدينة. القارئ قد يظن لأول وهلة من الفهم السطحى الظاهر للنص  ان النص ليس بقصة، ولكن النص في الحقيقة قصة قصيرة جدا توافرت فيها كل مقومات القص القصير جدا،فالتكثيف حاضر بقوة، والمفارقة سيدة الموقف وتشمل كامل النص المراوغ الذى لايبوح بكامل اسراره الا اذا ادركنا المفارقة ومغزاها وتوصلنا الى المضمر المخبوء خلف الكلام السطحى الظاهر، المفارقةمفارقة درامية مثل قصة عقدة أوديب المشهورة التى اراد فيها الأب تفادى النبوءة فحققها من حيث لايرغب،بطلا القصة ارادا اخفاء عشقهما وتلك دلالة خفية على كون العشق محرم ممنوع وملاحق ومطارد في البلاد مثل المخدرات والسموم وماهو بمخدر ولاسم حتى يلحق به حكم  التحريم الخاص بهما، محاولة اخفاء العشق اذا دلالة على مدلول هو القمع للحب في مجتمعنا الشرقى وتم حذف المدلول وتركت الدلالة عليه وهو (الإخفاء) ليستخلص منها القارئ الخفى والمضمر بين سطور القص، والاخفاء للحب  في( السماء) دون غيرها لم يورد اعتباطا أو عبثا، بل أن له دلالتان: الأولى : هى ان الخوف من البشر، من الأرض، لا من السماء، فالأرض هنا دلالة على البشر . وهناك دلالة ضمنية هى ان البشر هم مصدر القمع الذى يخاف منه العشاق.
الثانية: هى أن الخوف الذي يعترى العاشقين خوف من البشر، وليس من الله، ذلك أن الله لم يحرم الحب ولم يقمعه، بل حرمه البشر وقمعوه ولاحقوه بالهمس الظالم والظنون والصفات الحاطة من قدره برغم انه فطرة الله التى فطر الناس عليها وجعلها أساسا للتزاوج حين جعل السكينة الى الاخر من اسباب تشريع الزواج، وهل السكينة الى الاخر هى شئ سوى الحب؟! وفي الدلالة هنا حوار فلسفى طويل حول الحب والمفاهيم الخاطئة عنه. تتحقق المفارقة الدرامية فى النص حين تمطر السحابة فتخرج السر المخبوء بجوفها وتعيده الى الأرض مشاعا ً منتشرا على الجميع وهنا يتحقق عكس ما اراد العاشقان( أرادا الستر، فحدث هتك الأستار، أرادا الخفاء والإخفاء ، فحدث البوح والإعلان،ارادا الباطن ، فوجدا نفسيهما فى الظاهر) وهناك دلالات لهذا الإفشاء للسر من قبل السحابة:
الدلالة الأولى: أن مايخبئه الناس باعتباره عاراً يستوجب المساءلة والقمع، هو خير عميم لاتستقيم الحياة بدونه، فبدون الحب والزواج والعطاء لاينبت شئ فى الأرض ولايتحقق التكاثر، تماما كما يحدث للطبيعة كلها، فالأرض بلا سحاب يجلب الخير لاتنبت شيئا.الدلالة هنا أن عدالة السماء نصرت الحب ، فوضعته في قلب الغيث وهطلت به على الكون كله حجة على الناس الذين انكروه وجعلوا أهله يخبئونه خوفا منهم.السحاب لايحمل في جوفه سوى الخير، اذن الحب خير مستفيض وليس شرا.
الدلالة الثانية:حين فر الحب الي السماءمن القمع وحيدا ليختبئ، تمت اعادته منصورا بالغيث الى الأرض معززا مكرما، علانية وليس خفية، وهذه دلالات خفية على النصرة والأنتصار. هكذا يخرج المضمر الخفى من بين السطور القليلة عملاقا ضخما لاحدود لجماله وقوته وتعدد معانيه الكامنة. وقد لاح لى هنا تناص ظاهر _مع الفارق_ بين خروج الحب من الأرض خائفا يترقب، وبين خروج سيدنا موسى من مدينة فرعون خائفا يترقب فى سورة القصص (: ( فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ( 21) وذلك بجامع الخوف من الظالمين فى كلا الحالتين.والاستعانة بالسماء فى كلتا الحالتين.والفارق الظاهر هو قتل سيدنا موسى عليه السلام نفساً.بينما المحبين لم يفعلا ذلك. هكذا نجد ان استخدام المفارقة في النص كان استخداما مقصودا ومتعمدا وتم باحترافية عالية جملت النص واعطته أبعادا ساحرة وعمقاً.

النص الثالث:
(اخذت حبل وصلك المقطوع
حاجزاً من شك وعقدة من خوف
ونصبت مشنقة لحبك
كان الحب كبيراً ما طوقته المشنقة
فشنقت أوهامى
وحررت شهادة بقاء ابدي للحب الكبير)
النص هنا نص مراوغ  يقدم نفسه فى شكل رسالة حب برئية جدا موجهة الى الحبيب تفيده انها باقية على العهد، لكن يجب ملاحظة الكلمات( حبل) و(حاجز) و(عقدة)و ( مشنقة) و( شهادة) وملاحظة الافعال(أخذت) و(نصبت) و(طوقته) و(شنقت) و(حررت). المفارقة حاضرة في هذا النص بقوةممثلة فى  أن الحبيبة ونتيجة للشكوك والظنون والمخاوف التى فتكت بها بسبب قطع الحبيب للتواصل قررت ان تحرر شهادة وفاة للحب بعد أن تنصب له مشنقة إفتراضية( بمعنى ان تحكم على العلاقة بالموت والإنتهاء بقرار من جانب واحد) وحين حزمت أمرها وقررت اتخاذ ذلك القرار فوجئت بأن مابينهم من حب أكبر من حبال المشنقة التى نصبتها، توارت المشنقة خجلا، واكتشفت هى عظمة الحب وأنه أقوى من غضبتها العابرة وظنونها وهواجسها، لذلك وبدلا من كتابة شهادة وفاة له كما اعتزمت، قامت بتحرير شهادة خلود للحب. وهكذا انتصر الحب الكامن داخلها بلا( حبل) ولا (حاجز) ولا( عقدة) ولا (مشنقة) منصوبة ولا ( شهادة ميلاد أو وفاة) على كل أدوات القمع ممثلة في القرار المتعسف من جانب واحد ( الدكتاتورية) هى الرمز هنا، وكل ادواتها في القمع من طنون وهواجس وحواجز وحبال معقودة للشنق وللقيود ومشانق واجراءات بيروقراطية لاتضيف شيئا لحقائق الحياة الموجودة بدونها وباستقلال عنها ف ( الموت) و( الحياة) موجودان سواء صدرت شهادة ميلاد أو وفاة أو لم تصدر. مرة أخرى ينتصر النص للحب في مواجهة القمع وللحياة في مواجهة الموت وللحرية في مواجهة القمع.فاطمة السنوسى قصصيا هى خير معبر عن المرأة العربية وشوقها للحرية والحب ودفاعهاعنهما. نصوصها تنتصر دوما لإرادة الحياة في وجه ارادة الموت وارادة الحب فى وجه الكراهية.
النص الرابع:
(كتب إليها وكان على فراش المرض
«لن أموت حتى لا تبكي فتحمر عيناك الجميلتان»
لكنها حين قرأت الرسالة
بكت.. فأحمرت عيناها الجميلتان)
يبدو هذا النص قريبا من سابقه، فهو يصور تبادلا جميلا للمحبة بين عاشقين يخاف كل منهما على الآخر من النسيم، فهو يعدها وعدا مستحيلا( بأنه لن يموت) حتى لاتبكى فتحمر عيناها الجميليتان، فهو على فراش المرض لايخاف من الموت بقدر مايخاف عليها من البكاء وإحمرار عيناها!! كان قصده من الرسالة والوعد المستحيل تخفيف وقع خبر مرضه عليها، لكن الرسالة حققت عكس ما أراده، فقد تسببت في بكائها واحمرار عيناها!!   وهنا تكمن المفارقة المدهشة والخاتمة المتوهجة، فكل ما أتخذه البطل من احتياطات لدرء الخطر عنها باء بالفشل وتحققت مخاوف البطل، فهل تحققت المخاوف لأن وعده كان كاذبا ومستحيلا؟ أم انه كان فى الأصل يقصد خلافا للظاهر أن تبكيه وتحمر عيناها؟ّ! ولماذا بكت هى هل أبكتها الرسالة والمشاعر المخبوءة فيها ؟! هل كانت الرسالة وداعاً مبكرا وحين وصلتها كان المرسل قد غاب غيابه الأخير لهذا بكت لأنه كان يفكر فيها حتى آخر رمق؟! أم أبكاها خبر مرضه وشعوره نحوها؟! تتناسل الأسئلة ولاأجابة حاسمة تلوح، لكن المؤكد والثابت ان المفارقة تحققت ونال البطل عكس ماتوقع وأراد. الملفت للنظر في هذا النص هو وجود أكثر من مكان وحدث في النص برغم تكثيفه، فالمكان الأول سرير المرض حيث البطل يكتب رسالته، المكان الثانى مكان الحبيبة وهو مجهول حيث قرأت الرسالة وبكت. هناك مقابلات جميلة بين الأفعال في النص فهو(كتب) وهى (بكت) يجب ألا تفوتنا ملاحظة التلاعب بالحروف ذاتها وصيرورة المعنى مختلفا، فالحروف نفسها تتكون منها الكلمتان السابقتان. وهناك (فتحمر) و(فاحمرت)  ينطبق عليها نفس الشئ ، فالكلمة واحدة، لكن الأولى تعنى شيئا سيحدث ولم يحدث بعد، بينما تعنى الأخيرة شيئا حدث فعلا وانتهى. هذه المقابلات هى مما يميز أسلوب الكاتبة. المعنى الخفى للنص هو معنى بعيد جدا عن المعنى الظاهر أشارت اليه الكاتبة بدلالتين هما ( المرض) و(الموت) ، ودعمت الإشارة بتقنية (الإستباق ) أو التوقع لحدث ما قبل وقوعه،و (القدر) المشار اليه بما حدث فعلا. وبينهما زرعت محاولة لتفادى وقوع المتوقع. وبذلك كله نشأ صراع الارادات في النص، فالحبيب الذى داهمه( المرض) تذكر القدر المتربص (الموت) وخاف من أثره على الحبيبة( والتوقع لبكائها هو نوع من الاستباق)  وحاول الحبيب منع حدوث ذلك الأثر بارسال رسالته تلك، ولكن القدر كان أقوى فتحقق ماخشى منه. المغزى الخفى هنا ان المرض والموت يتربصان بالحب الدوائر، وتبدو فرص النجاة معدومة من كلاهما مهما فعل المحبون لتفادى ذلك،فدوام الصحة محال والخلود محال، لذلك فأن الأفضل ان نتعايش مع حقائق الحياة ولاندع الهواجس تفسد علينا حظنا في الحياة.
النص الخامس:
(سألها عن مدى حبها له
فأجابت بأنفاسك أحيا
فكتم انفاسه مداعبا فماتت!)
هذا نص باذخ في تصويره لحقيقة الحب،  فقد سألها عن مدى حبه لها فقالت له انها تعيش بأنفاسه، فظنها تتلاعب بالألفاظ وتتحدث مجازا، فكتم أنفاسه على سبيل المزاح، فانقلب المزاح ماساة ، ماتت البطلة وتبين أنها تعيش بأنفاسه فعلا، لكن البطل وقع ضحية المفارقة، فهو لم يك يدرى أنها تقول الحقيقةوحين حاول التأكد مزاحا فقد الحبيبة فلم يعد للحقيقة التى عرفها من قيمة فقد اصبحت مجازا! كانت الحقيقة أمامه فظنها مجازا، وحين أدرك أنها حقيقة لم يعد لها وجود وباتت مجازا.المغزى الخفى للنص ان الشك يقتل الحب الحقيقي، لأن الحب حين يحوطه الشك يتبخر مع الظنون ويبقى الهلام فقط. موت الحبيبة هنا مجازى وليس حقيقى والمقصود به، ان الشك فى قلبه طرد حبه من قلبها، فبات قلبها ميتا تجاهه.وهكذا تحذق الكاتبة تقنية المفارقة وتبنى نصوصها دائما على مستويين: ظاهر دال على آخر خفى، وخفى مدلول عليه ببعض آثاره وعلاماته.مع ملاحظة الأنسنة الدائمة للنصوص عند فاطمة السنوسى، فهى تكتب دوما عن الإنسان وصراعه فى الحياة وتنتصر للقيم الإيجابية وتدين القسوة والفظاظة والأوضاع المزرية التى يرزح تحتها الإنسان المعاصر.

النص السادس:
 (تحاببنا بصدق
توحدنا..
سألني صورتي..
فأعطيته المرآة..) 
هذا النص روعته في في خاتمته، فالخاتمة عند فاطمة السنوسى تحمل اللغز وحله، المضمرودلالته القوية، الخاتمة عندها هى القنبلة الملقاة من طائرة والتى يتوهج المكان بضوئها فتلمح العين الإبرة فى كومة القش، لكن تلك الومضة قصيرة العمر، فهى لاتدوم طويلا ، ولكنها تتجدد مع كل قراءة للنص.سؤال النص لماذا اعطته المرآة؟! الإجابة مضمنة في الكلمة السابقة لجملة (سألنى صورتى) وهى كلمة( توحدنا) المغزى هو قطعة احجية مخبوءة بين ( توحدنا) و(فأعطيته المرآة)  وتفسيره بسيط جدا: توحد العاشقان صارا روحا واحدة وعندما سألها صورتها أعطته المرآة لان صورتها باتت محفورة فيه وداخله ولم تعد منفصلة عنه، فحين ينظر فى المرآة سيراها هى وبذلك لايحتاج الى الصورة وقد ملك الأصل!! يا للروعة. صراع الظاهر والخفى والدال والمدلول عليه فى قمته فى النص.

النص السابع:
 (عبر منفذ صغير
اقتحمت حياته..
دخلت عالمه الرحب..
استغرقتني كنوزه..
ضاعت مني بوابة الخروج)
المفارقة هنا هى مفارقة الورطة،فهى دخلت حياته بالصدفة(عبر منفذ صغير) ومن ثم اقتحمت عالمه الذى تبين لها انه (رحب) ومتسع وليس صغيرا كالمنفذ الذى دخلت به، واخذت تتجول فى هذا العالم وتكتشف في كل لحظة جديدا، حتى تاهت فيه ولم تعد تعرف كيف تخرج ، الورطة هنا تشير الى انها غيرراغبة في الخروج فقد اختارت الإقامة الدائمة ولم تعد بحاجة لمعرفة طريق الخروج، وهكذا نكتشف ان رسالة النص هى ان الورطة ورطة جميلة في الحقيقة ، بل هى اختيار واع مارسته. نلاجظ المقابلات في النص ( منفذ صغير) دخلت به( مقتحمة) ونلاحظ انها دخلت من (المنفذ) وليس( المدخل)  وتقا بل ( المنفذ الصغير) ( بوابة الخروج) المخصصة أصلا للخروج وهى بوابة كاملة وليست منفذا صغيرا، الإشارة هنا الى كونها تسللت الى حياته وطابت لها الإقامة ورفضت الخروج لكنها تتظاهر بانها تائهة عن بوابة الخروج عمدا.الخفى فى النص هو أن الحب لايطرق الباب ولايستأذن أحدا عند الميلاد، فهو يأتى كالعاصفة بلا ميعاد، لكنه لايرحل سريعا كالعاصفة والبرق، بل يبذر بذوره فى المكان ويركل عصا الترحال ومفتاح الخروج ويبقى سيدا للدار والمكان. انه تمجيد آخر لعاطفة نبيلة.
النص الثامن :السخرية المرة وثنائية الحب والقمع:
(اقتادوه إلى مركز الشرطة
لأنه حين يذكرها
ينبض قلبه بعنف
مسبباً الازعاج العام.)
خلافا للعادة المتبعة عند فاطمة السنوسى وهى انها تبدأ بايقاع هادئ ثم يتصاعد الإيقاع كلما اقتربنا من النهاية حيث يبلغ قمته، فى هذا النص بدأت من أعلى نقطة(اقتادوه الى مركز الشرطة) حتى يثور السؤال في الذهن مباشرة( ماهو جرمه؟) فيأتى الرد العجيب المدهش (لأنه حين يذكرها ينبض قلبه بعنف مسبباً الازعاج العام) !!!! وعلامات التعجب من عندى.ينتهى النص وتتقافز الأسئلة الموجعة (أى بلاد هذه التى تعتبر الحب جريمة وضربات قلوب المحبين جريمة تسبب الإزعاج العام وتستوجب الإقتياد الى قسم الشرطة؟!) ان المفارقة هنا تتفق مع تعريف بعض النقاد لمصطلح المفارقة بما يفيد انها السخرية الواعية والتهكم المقصود الذى يخبئ في ثناياه رسائل كامنة ودلالات.فالنص تهكمى ولكنه يحوى نقدا مراً لأوضاع تساوي بين الحب والجرائم الموصوفة في قانون العقوبات وتقتاد المحبين الي اقسام الشرطة لاسباب مضحكة ونتذكر ان النص كتب بعد تجربة قوانين سبتمبر 1983 في السودان التى أثارت الرعب في الشوارع وبات السير في الشارع مع فتاة أو سيدة شبهة تبرر الاستيقاف والاقتياد الى قسم الشرطة، فجاء النص ساخرا من تلك الأوضاع مفلتا من الرقابة باعتماده المفارقة والسخرية لاخفاء مغزاه الحقيقي. انه نص يشكل امتدادا لثنائية الحب والقمع الموجودة فى معظم نصوص فاطمة السنوسي والتى تعبر عن هموم المرأة والشباب السودانى في حقبة مظلمة من التاريخ شهدت انتهاكات رسمية جسيمة للحريات الشخصية وشكلت قطيعة مع إرث سودانى عظيم من التسامح وسيادة روح سودانية لاتعتمد الشك أساسا للتشريع ومحاصرة الحريات.
النص التاسع:(الطرفةوالمدح بما يشبه الذم والذم بما يشبه المدح)
 (قرأت مرة بالصحف إعلاناً
من دائرة الشرطة برصد مكافأة
لمن يدلهم علي رجل يملك إمتاع
العقل والروح والعين والفؤاد
في لحظة واحدة..
خنت حبيبي..
أرشدتهم إلى مكانه وقبضت المكافأة)
فى هذا النص تلجأ فاطمة السنوسي الى مفارقة تعتمد على الطرفة والمدح بمايشبه الذم والذم بما يشبه المدح للايحاء بالمضمون المخبوء بين السطور والمموه جيدا،فهى تريد أن تتحدى ادوات القمع ممثلة فى الشرطة وتجاهر امامها بحبها علنا دون ان تعاقب ودون ان تفهم الضحية( الشرطة) انها موضع سخرية وتندر،فصاغت النص بحيث يفهم من ظاهره أن الشرطة اعلنت عن حاجتها لرجل تنطبق عليه مواصفات حبيبها ولأن الشرطة تعرف ان الشعب لن يتجاوب معها بلا مقابل فقد اعتاد الشعب انها تقبض على الناس وتعرض المكافآت مقابل ارشادها على المطلوبين ولن يصدقها ان قالت انها تريده لطلب برئ، لذلك قرنت الشرطة الإعلان بمكافأة لمن يرشد عنه( لم تنس اداة القمع اساليبها السيئة فى افساد الناس) هذه هى الإشارة الخفية، ومن ثم قامت البطلة بخيانة حبيبها وأرشدت الشرطة عنه وقبضت المكافأة، هذا على حد تعبيرها وظاهر القصة، لكن القصة تفيض سخرية فمن تخون حبيبها لاتتغزل فيه وتصفه بأنه(رجل يملك إمتاع العقل والروح والعين والفؤادفي لحظة واحدة..)  والشرطة لايمكن ان تصف مطلوبا لديها بهذه الأوصاف، ولايمكنها ان تتحول فجأة من أداة مهمتها قمع المحبين ومطاردتهم في الشوارع والحدائق العامة بالسياط والهروات ، الى حمامة وديعة ورسول سلام يجمع شمل العشاق ودور رسول المحبة، إذن ماذا تقصد الكاتبة بهذا النص؟ هل خانت حبيبها فعلا؟ هل الشرطة بحثت عن رجل بمواصفات حبيب؟ هذه الاسئلة تقودنا الى قناعة راسخة بان النص لايجسد حقيقته ، انما يحتوى على رسالة مخبوءة ومضمرة مفادها ان الشرطة يجب ان تكون في خدمة الحب وليس هراوة في وجهه، وانها يجب ان تكف عن ترويع العشاق وافساد الناس بالرشاوى والقمع ويجب ان تكون اداة محبة لا كراهية . وهكذا تتوغل فاطمة السنوسى مجددا فى ثنائية الحب والقمع وترفع زهور الحب الملونة في وجه القيود والهراوات الغليظة.

النص العاشر: الأمومة محبة طاهرة( مفارقة الطرفة والإدهاش)
(يضحكنى حبيبى
فهو قصير القامة جدا
مستدير الوجه جدا
صغير الوجه جدا
يفشل فى تقبيلى لاننى عندما انظر اليه
انفجر بالضحك
احببته معنى..همت به حقيقة
اعطيته الحياة.. اطال لي حياتى
نادانى.. ياماما
ناديته ..يارجل
فقد بلغ من العمر .. ثلاث سنوات)
تقدم فاطمة السنوسي فى هذا النص الرائع صورة تتدفق أمومة وحياة تجسد فيها مشاعر أم تجاه طفلها، وتتمهل في السرد عمدا لتوحى للقارئ والمستمع انها تتحدث عن حبيب  وعن علاقة حسية نوعا ما وتخبئ مفاجأتها حتى النهاية  عند جملة( فقد بلغ من العمر ثلاث سنوات) التى تنفجر فى وجهنا كقنبلة ،لنكتشف ان من تتحدث عنه الراوية هو محض طفل صغير هو طفل الراوية نفسها، فنضحك. وكان حقيقا بنا أن نبكى على أنفسنا، فقد غررت الراوية بنا جميعا واستدرجتنا الى فخ أعدته بعناية وعلى مهل، فحتى عندما ناداها( ياماما) لم نظن انه طفل وكنا لازلنا ننتظر مزيدا من أسرار تلك العلاقة التى انصرفت أذهاننا إليها..وثمة ملحوظة هنا وهى أن ورود الطرفة والإدهاش في الخاتمة كان هو مركز الثقل في القصة ولحظة الكشف المفاجئ الصادم وليس التقرير، مع إن البوح بشخصية الحبيب يعتبر تقريرا، لكن فى سياق القصة لم يكن ذكر شخصية الحبيب شرحا للقصة أو لمغزاها، بل كان هو لحظة الصدمة وأداتها وأداة الكشف عن المغزى، فالطرفة هنا ليست مقصودة لذاتها، ولكن بهدف السخرية من انصراف ذهن الناس كل ماجاء ذكر الحبيب والحب إلى علاقة حسية بين رجل وامرأة، النص يقول لاتعتقلوا مارد الحب ومفهومه الكبير فى زجاجة الأفكار المسبقة ولا تختزلوا الحب في العلاقة الآثمة بين رجل وامرأة، لاتبحثوا عن سر مخبوء خلف كل استخدام لكلمة حبيبي.باختصار سخرت الكاتب من المجتمع بأكمله وأخرجت لسانها له فى آخر جملة في القصة.
النص الحادى عشر( نوستالجيا الحنين فى  لوحة )
(في مطار ناء فخم وأنيق
رأى حقيبة متهالكة
فبكى وضج في اعماقه الحنين
لم يعرف الحقيبة لكنه
عرف ذرات التراب التي على الحقيبة)
تعزف فاطمة السنوسي ببراعة علي أوتار الحنين  في هذا النص وتتنقل ببراعة بين المعنى الظاهر للنص الذى يجسد حالة فردية لشخص غائب عن وطنه وتشير اليه بضمير الغائب  وتورد حالته ولاتصف ملامحه ولاتعطى أى معلومةعنه، ربما لتؤكد بصرامة على أنه نموذج مختار ليمثل قطاعا واسعا من الناس أو مفهوما ورمزا أكثر منه شخصا معينا بالذات، ونشعر ان هناك معنى ومعانى مستترة بين السطور الظاهرة،فالرجل الذى هو فى مطار بعيد وفخم نعرف انه لاينتمى لتلك البلاد البعيدة فهى منفى  اجبارى بالنسبةله، والحقيبة المتهالكة المجهولة بمعنى انها تخص غيره عليها ذرات تراب عرفها صاحبنا هى دلالة على انها حقيبة تخص مهاجرا جديدا قادما من ذات الوطن الذى قدم منه الرجل، بمعنى انه قادم جديد ذكر الرجل بماضيه ، بيوم بعيد جاء فيه من الوطن بحقيبة متهالكة عليها ذرات تراب حملها صاحبها عمدا لتذكره بالوطن أو صاحبته سهوا، وفى الحالتين لاتغنى تلك الذرات الصغيرة من تراب الوطن عن الوطن، لكنها ذكرت الرجل بلحظاته تلك بشجنها وحزنها ومرارتها، فبكى وطنا نائيا بعيدا أكرهته الظروف وأجبرته على مغادرته. الرجل في الحقيقة نموذج لعشرات الألوف بل مئات الألوف من السودانيين الذين تخطفتهم المنافئ الاجبارية بسبب الظروف القاسية في بلادهم على امتداد فترات الحكم الوطنى، فجميعها بلا استثناء عجزت عن وقف نزيف الهجرة وعجزت عن توفير حياة كريمة لابناء السودان. النص انشودة مطر حزينة مماثلة لصرخة السياب في الخليج حين داهمه الحنين الي العراق فبكى شعرا:
مطر ..

مطر ..

أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر ؟

وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر ؟

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع ؟

بلا انتهاء – كالدَّم المراق ، كالجياع ،

كالحبّ ، كالأطفال ، كالموتى – هو المطر !

ومقلتاك بي تطيفان مع المطر

وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ

سواحلَ العراق بالنجوم والمحار ،

كأنها تهمّ بالشروق

فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ .

أَصيح بالخليج : " يا خليجْ

يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والرّدى ! "

فيرجعُ الصّدى

كأنّه النشيجْ :

" يا خليج

يا واهب المحار والردى .. "

أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ

ويخزن البروق في السّهول والجبالْ ،

حتى إِذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ

لم تترك الرياح من ثمودْ

في الوادِ من أثرْ .

مفارقة التحول عند فاطمة السنوسى:
تتكرر عند فاطمة السنوسى مفارقة التحول وهى تقنية تلجأ فيها الراوية الى تقمص شخصية الحبيب بطرق مختلفة ثم ترصد رد فعل الآخرين.
(وضعت قلبي على لساني
لأكون صادقة القول
ولأنك ملء القلب
تلونت بك كلماتي
فأصبحت إمرأة عذبة الحديث) فى هذا النص الساحر فاض شعورها بالحب تجاه الحبيب فوضعت قلبها على لسانها حتى تأخذ من صدقه المستقر بقلبها صدقا، فكانت النتيجة أن كلماتها تلونت به فأصبحت فى نظر الآخرين (عذبة الحديث)، انها تبحر صوب ضفافه الآمنة بإصرار ، هى تبحث عن الذوبان فيه مثلما يذوب جدول صغير يحمل ماء عذبا فى النهر. وتتكرر المسألة نفسها في نص آخر مشابه:
(وضع طپيپهآ آلسمآعة على صدرهآ .. نظرت آليه معآتپه.. إستدرگ آن قلپهآ لم يعد معهآ فوضع آلسمآعة على صدره)
في هذا النص الأخير تعلن التحول للاخرين وتلزمهم به، فهي تجبر الآخرين على رؤية الحب ، هى لاتخبئه هنا في جوف سحابة ، بل تجاهر به وتفرض على الاخرين احترامه، ان العاشقة تتحرر من الضغوط وتنتقل الى مواقع الهجوم بدلا من مواقع الدفاع. في قاعة الدرس تجاورنا
(اخذ قلمي مرة
ولم يرده..
اخذت عقله ولم ارده
على هذا الحال تخرجنا
مر الزمن.. ونسيت قلمي
غير انه ما زال يبحث عني
عله يسترد لبه المفقود)
في النص أعلاه لاتكتفى بقلب الحبيب بل تأخذ لبه معها، وأخذ هو قلمها فى المقابل، المقارنة معدومة، فالقلم اداة والعقل هو كابينة القيادة، هى المنتصرة اذن.
وفى نص آخر  تجملت بالحب وخرجت للشوارع ، فكانت النتيجة مبهرة ومدهشة:
(على الطريق العام
كنت أسير ذات يوم وأفكاري معك..
عاكسني أحد المارة ممتدحاً جمالي..
أدركت في الحال
أن الحب الذي يملؤني..
قد فاض على وجهي..) 
 النص فيه تناص مع مقطع للقاص بشرى الفاضل بعنوان (البنت التى طارت عصافيرها) يقول المقطع(خرجت من عندها ممتلئا بها حتى غازلنى الناس فى الشوارع)
 اكتمال التحول: 
فى هذا النص بلغ التحول والذوبان فى المحبوب قمته، حين باتت ترى بعيون حبيبها وقلبه( اكتمل الذوبان) 
(في وسط السوق..
شاهدت منظرا أدمى قلبي..
فرأيت حماية لقلبي أن أضعك
على عيوني.. وأنظر الدنيا من خلالك..
ما أن فعلت ذلك..
حتى رأيت شحاذاً يعترض المارة
يعطيهم ولا يأخذ منهم)
المخبوء فى هذا النص هو انها حين نظرت بعينيه رأت العالم ورديا وسابحا فى الجمال عملا بمبدأ كن جميلا ترى الوجودجميلا، فقد رأت بعينيها ما أدمى قلبها، وحين نظرت من خلال المحبوب رأت مشهدا غاية فى الروعة والجمال:
رأت شحاذا يعترض المارة ويعطيهم ولايأخذ منهم شيئا!! هل ثمة جمال فى الكون مماثل لهذا الوضع المقلوب؟
جمال الوضع المقلوب هذا معناه ان الحب يطهر القلوب ويجعل العالم مكانا جميلا. نصوص فاطمة السنوسى تبقى موسيقى حالمة وصورا رائعة من الحياة تعزف فيها قاصة متمكنة على سلالم المفارقة بذكاء وإدراك عميق لأدوات عملها مما جعل من تلك النصوص نصوصا ذات قيمة فنية عالية فهى تجسد ابداعا مميزا ومتعة لاحدود لها. والمدهش ان النصوص من حيث المضمون تعالج بإصرار أوجاع العالم الداخلى للإنسان، تعكس معاناته وجوعه للحنان وتشرده فى عالم متحجر القلب لايرحم ولايعترف بالحب والرحمة وتسود فيه القسوة والفظاظة والعنف، فتشيد الكاتبة بنصوصها عالما موازيا ، رقيقا في عبارته، حالم الإيقاع، له نزعة انسانية واضحة تتجلى فى تقديس الحب والتبشير بالمحبة وفضح كل فظاظة موجودة فى الأرض وتمجيد قيم الجمال والحرية والكرامة الإنسانية.
صلاح الدين سر الختم على
مروى
الثانى والعشرين من نوفمبر 2013

Wednesday, November 20, 2013

منهجية قراءة النصوص والبحث عن المفارقة بقلم /صلاح الدين سر الختم على


                                                        (المفارقة دعوة لإعادة بناء المعاني المسكوت عنها في الكلام.)

قراءة النصوص الإبداعية فن وعلم جميل وملكة يتم تطويرها بالممارسة والإطلاع المستمر تماما مثل عملية الكتابة نفسها، فالنقد نص موازى يشتغل على نص آخر سابق له فى الوجود، وهو في خاتمة المطاف قراءة مستضيئة بأدواتها للنص، وأول تلك الأدوات هى وجود منهجية لقراءة النصوص وفهمها ومحاورتها واستنطاقها، ولاتتحقق تلك المنهجية الا إذا كان الناقد على إلمام بفنون الكتابة الإبداعية ومنهجية كتابتها بشكل عام ومنهجية الكاتب التى استخدمها فى كتابة النص أو النصوص موضوع الدراسة، وهذه المعرفة في الغالب تكون معرفة يقينية في بعض الجوانب ومعرفة تحليلية استنباطية فى بعضها لاتبلغ درجة اليقين وان بلغت درجة الترجيح.وهناك جانب ابداعى اصيل في الكتابة النقدية هو البصمة الشخصية للناقد وتذوقه وثقافته وإطلاعه وملكته وقدرته على التعبير عن نفسه وابراز مفاهيمه واستخلاصاته، هذا الجانب الأخير هو مايميز ناقد عن آخر، وهو ما يجعل الكتابة النقدية كتابة ملهمة وكاشفة أو كتابة باهتة لاتضيف شيئا للنص والقارئ وكاتب النص. وهى نفسها مايميز كتاب النصوص المبدعة عن بعضهم البعض.وتعتبر المفارقة هى حجر الزاوية في القص القصير والقصير جدا، ويشكل التعرف على المفارقة الموجودة بالنص مفتاحا جوهريا لفهم النص وقراءاته قراءة نشطة واستنطاقه وكشف مضمره، لذلك فان المدخل لقراءة النصوص هو كيفية التعرف على المفارقة وكيفية فهمها وفهم وظيفتها في بنية النص.للتعرف على المفارقة يجب بالطبع الإلمام بمعنى المصطلح وهو مسألة شائكة لكنها في النهاية واضحة ،ويجب على الناقد والقارئ انتهاج منهجية معينة للتعرف على المفارقة فى النص. وتتمثل العملية فيما يلى:
الخطوة الأولى: رفض المعنى الحرفى للنص: ينبغي على القارئ أن يرفض المعنى الحرفي، وليس أمرًا كافيًا أن يرفض القارئ هذا المعنى لأنه لا يوافق عليه، وليس كافيًا أيضًا أن يقوم بإضافة معانٍ أخرى من عنده. فإذا كان القارئ يقرأ قراءة دقيقة، فإنه لن يستطيع تجاهل هذا التنافر أو التعارض بين الكلمات وما يعرفه هو «أى القارئ». وفي كل الأحوال، فإن السبيل إلى معانٍ جديدة يمر عبر اقتناع صامت لا يمكن أن يتوافق مع المعنى الحرفي. وينبغي أن نلاحظ شيئين فيما يخص هذه الخطوة الأولى، وهما رفض افتراض ما، لأننا ينبغى علينا أن نرفض هذا الافتراض الصامت أو غير الواضح،. كما ينبغي على القارئ أن يتمكن من الإمساك بما يعتبره البعض مفاتيح خارجية. 

 الخطوة الثانية: التأويل البديل : يقترح القارئ تأويلات أو شروحًا بديلة، وسوف تكون كل هذه التأويلات متعارضة إلى حد ما مع المعنى السطحى الظاهر لما يقوله النص، ومن المحتمل أن تكون غير متوافقة، ولكنه بالتأكيد سوف يراجع نفسه. وربما يقول: إنها سقطة من الكاتب، أو أنه مجنون، أو قد مرَّ شىء في البداية لم ألاحظه، أو أن هذه قد تعني شيئًا لا علم لى به.


الخطوة الثالثة :التعرف على القصد المحتمل أو المرجح للكاتب:

  وبناء عليه يجب أن نتخذ قرارًا بشأن معتقدات الكاتب، فعندما يقول فولتير: «إنها تمطر»، فإن ثقتنا في أن فولتير كان يستخدم المفارقة تكون عظيمة لدرجة ترقى إلى مرتبة الحقيقة، ونعتمد على قناعتنا بأنه مثلنا، يرى ويرفض ما تتضمنه العبارة «كلا الجانبين يستطيع أن يكسب الحرب نفسها». إن هذا الحكم على معتقدات الكاتب يتماشى مع تأويل المفارقة الثابتة Stable Irony ولا يتم إدراك المفارقة الثابتة بدون الوصول إلى هذا الحكم.

 ونلاحظ أن الخطوتين الأولى والثانية في حد ذاتيهما لا تستطيعان أن تقولا إن العبارة بها مفارقة.

  ولا يهم إلى أي مدى نكون مقتنعين اقتناعًا راسخًا بأن العبارة غير منطقية وغير معقولة وأنها محض زيف واضح. ويجب علينا أن نقرر: هل الأمر الذي نرفضه مرفوض أيضًا من وجهة نظر الكاتب؟ وهل للكاتب سبب منطقي يجعله يتوقع أن نتفق معه؟. من البديهي أن الكاتب الذي يثير اهتمامنا به ليس إلا الشخص المبدع المسئول عن الاختيارات التي صنعت العمل، وهو ما يسمى بـ «المؤلف الضمنى» Implied Author الموجود في العمل. والحديث عن «المغالطة المتعمدة» أو «المقصودة» حديث صحيح لكنه لا يستطيع أن يحل مشكلاتنا النقدية، فنطلب الكاتب على الهاتف ونسأله ماذا كان يقصد بعبارته تلك أو هذه. إن أفضل دليل على النوايا الخفية التي تكمن خلف أية عبارة في نص هو النص كله. ولأجل بعض الأهداف النقدية، سوف يكون من المعقول أن نتحدث عن مقاصد «النص» وليس عن مقاصد «الكاتب». ولكن التعامل مع المفارقة يجعلنا نشعر بأن الحكم - بشكل نهائي - على دعوتنا ما يزال متجسدًا في وعي الكاتب حينما نكون مدفوعين باتجاه التأويل الصحيح. وفي نهاية الأمر: ينبغي أن نقول إنه ليس من المنطقي أن يكون الكاتب قد وضع هذه الكلمات بهذا الترتيب دون أن يكون قد قصد هذه المفارقة الدقيقة.

الخطوة الرابعة/استنباط معنى جديد بواسطة الناقد
 بعدما نكون قد اتخذنا قرارًا بشأن معرفة ومعتقدات الكاتب أو المتحدث، نستطيع في نهاية الأمر أن نختار معنى جديدًا أو نختار حزمة من المعانى التي نشعر معها بالاطمئنان. وعلى عكس الافتراض الأوَّلى، فإن المعاني التي يعاد بناؤها يجب أن تكون متوافقة مع المعتقدات الخفية غير المعلن عنها التي قرر الكاتب أن يعزوها إلى المؤلف.  وهنا تلعب ثقافة الناقد وقدراته وخبراته والمامه بالموضوع وبيئة النص دورا كبيرا فى تاويل النص وترجيح هذا المعنى أو ذاك، ويجب الوضع فى الاعتبار ان شرط الاجادة في استنباط معان جديدة ليس هو موافقة الكاتب على التأويل أو رفضه، بل العبرة بمنطقية التحليل حسب عبارة النص وظروف انتاجه، وقد يكشف الناقد معان خفية حتى على كاتب النص نفسه ، وتلك هى ميزة من ميزات النقد الأمين العميق. إن استنباط المعانى الخفية المضمرة هو فى حد ذاته عملية انتاج  لنص جديد واعادة انتاج لنص مقروء، وحتى عملية إعادة الإنتاج في الحقيقة هى إبداع أصيل للناقد مثلها فى ذلك مثل عملية بناء لحن موسيقي لقصيدة ليست للملحن ومثلها مثل اداء المغنى للقصيدة واللحن ففى العمليات الثلاث هناك بصمة شخصية لكل من الناقد والملحن والمغنى وهناك منتوج إبداعى خاص به لايلغيه كونه يشتغل على نص آخر. وهذا هو مايعرف بالحقوق المجاورة فى الملكية الفكرىة. ومثلما تتطلب  كتابة النصوص الإبداعية المقرؤة ثقافة عالية وإلماما بشروط انتاجها من كاتبها ، تتطلب ذات الشئ مضافا اليه ملكة خاصة وذائقة نقدية ومعارف مفهومىة لدى الناقد تمكنه من فك شيفرة النص ومحاورته وإستنطاقه.

تعريف المفارقة:
مصطلح المفارقة،وهي أن تفهم لفظ على عكس معناه أو تكّوِّن فكرة عن شيء على عكس حقيقته .والمفارقة فيما شرحه البعض ‘إنها تشبه  التورية ولا تماثلها. أن مفهوم المفارقة ليس جديدا لا على النقد الغربي ولا على الثقافة العربية .      تعتبر المفارقة من أهم مقومات النص الإبداعي ، خاصة في الرواية  والدراما. سواء كانت مفارقة  في اللغة بين الدال والمدلول  والدلالة؛ أقصد مرونة الدلالة بين اللفظ والمعنى. أو مفارقة في الموقف  بين التصور أو المعرفة والفهم لعكس الحقيقة . أو مفارقة  في الحركة بين الحركة الطبيعية للإنسان والحركة غير الطبيعية ،سواء كانت  آلية أو حيوانية أو معوقة    ( و هذه عادة توظف في  الكوميديا ).      وكما تقع المفارقة ـ    بأنواعها ـ  في المأساة ، تقع أيضا في الملهاة ..
.عند الرجوع إلى «قاموس أكسفورد» وجدناه يشير إلى أن مصطلح(Irony )  مشتق من الكلمة اللاتينية (Ironia) التي تعني التخفي تحت مظهر مخادع، والتظاهر بالجهل عن قصد، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
١- هو شكل من أشكال القول يكون المعنى المقصود منه عكس المعنى الذي تعبر عنه الكلمات المستخدمة، ويأخذ - عادة - شكل السخرية حيث تستخدم تعبيرات المدح، وهي تحمل في باطنها الذم والهجاء.
٢- نتاج متناقض لأحداث كما في حالة السخرية من منطقية الأمور.

٣- التخفي تحت مظهر مخادع أو الادعاء والتظاهر، وتستخدم الكلمة - بشكل خاص - للإشارة إلى ما يسمى بـ «المفارقة السقراطية» من خلال ما عُرف بفلسفة السؤال، وكان سقراط يستخدمها ليدحض حجة خصمه.
 أما «معجم تاريخ الأفكار» فإنه يعرف ((Irony)) بأنها ذلك التصارع بين معنيين الذي يوجد في البنية الدرامية المتميزة لذاتها: بداية؛ المعنى الأول هو الظاهر الذي يقدم نفسه بوصفه حقيقة واضحة، لكن عندما يتكشف سياق هذا المعنى، سواء في عمقه أو في زمنه، فإنه يفاجئنا بالكشف عن معنى آخر متصارع معه، هو في الواقع في مواجهة المعنى الأول الذي أصبح الآن وكأنه خطأ، أو معنى محدود على أقل تقدير، وغير قادر على رؤية موقفه الخاص.يمكن التلخيص  من عندى وحسب تجربتى مع الكتابة القصصية والكتابة النقدية بأن المفارقة هى الحيلة الفنية التى يستخدمها كاتب النص ، كوسيلة لغاية جوهرىة هى توصيل رسالة النص الخفية، عن طريق اخفائها خلف مظاهر خارجية تقول الشئ وتقصد قول ضده أو قول شئ خفى لم يصرح به النص،ولو صرح به النص فقد عنصرا الإثارة والمشاركة، وهما عنصران لايكتمل القص وهدفه بدون تحققهما، فالقاص في القول الشفوى والمكتوب لابد له من قارئ ومستمع، بدونهما يصبح قوله هراء ومناجاة للذات، لذلك تعمل المفارقة على جذب القارئ والمستمع للنص من خلال إثارة فضوله وتشجيع تفكيره وحفز خياله للإنطلاق فى عملية تفاعل مع النص ينفتح فيها خياله على النص ، فيضيف خياله للنص أبعادا جديدة ربما لم تخطر ببال مبدع النص نفسه عند الكتابة، وبذلك يتحقق التنوير والكشف وتمسى عملية الكتابة والقراءة مغامرة جماعية مشتركة لاحدود للذتها ومضمرها الذى يستنطق ويكتشف فى كل قراءة جديدة، فكل قراءة جديدة للنص المبدع بالضم للميم هى ولادة جديدة له وبعث جديد على يد قارئ جديد.
 عناصر المفارقة:

للمفارقة عند النقاد ثلاثة عناصر تميزها:

١- تضاد المخبر والمظهر

              The Contrast of Reality and Appearance

  حيث نجد أن صاحب المفارقة يقول شيئًا لكنه في الواقع يقول شيئًا آخر مختلفًا تمامًا، وضحية المفارقة مطمئن إلى أن الأمور هى على ما تبدو عليه ولا يحس أنها حقيقة مختلفة تمامًا؛ إذ إن المفارقة تتطلب تضادًا أو تنافرًا بين الحقيقة والمظهر وأنها تكون أشد وقعًا عندما يشتد التضاد.


٢- العنصر الكوميدي The Comic Element

 هذا العنصر الكوميدي يكمن في الخصائص الشكلية للمفارقة: التضاد أو التنافر الأساسى بالإضافة إلى غفلة مطمئنة فعلية أو مصطنعة. وليس هناك امرئ يناقض نفسه عن قصد (إلا عندما يريد حل تناقض على مستوى آخر: الأمر الذي لا يكون فيه تناقض فعلى)؛ وينجم عن ذلك ظهور تناقض مقصود يقيم توترًا نفسيًا لا يسرى عنه سوى الضحك. ويحدث أن يكون العنصر الكوميدى ضعيفًا في بعض أمثلة المفارقة إذ يكون العنصر المؤلم شديدًا، لكن المفارقة قد تكون أكثر تأثيرًا إذا اجتمع فيها العنصر الكوميدى والعنصر المؤلم.


٣- عنصر التجرد The Element of Detachment

 وهو يوجد أحيانًا في الأسلوب المصطنع لدى صاحب المفارقة، وأحيانًا يوجد في الموقف الفعلى لدى صاحب المفارقة أو المراقب المتصف بها.

 أما ميوك فقد قسم المفارقة في كتابه «مجال المفارقة» The Compass of Irony عدة تقسيمات انطلق بعضها من ناحية  الأنواع أو الأنماط، وبعضها من ناحية درجاتها، وبعضها من ناحية الطرائق والأساليب، وبعضها من ناحية تأثيرها، والبعض الآخر من ناحية الموضوع.

 وهي تنقسم عنده إلى مفارقة لفظية ومفارقة موقف.

المفارقة اللفظية Verbal Irony

  وقد ذكر منها نمطين، أطلق على الأول منهما: أسلوب «الإبراز»


High - Relief، أما الثاني فقد أطلق عليه: أسلوب «النقش الغائر» Intaglio.(24)


 كما قسم مفارقة الموقف Situational Irony  إلى خمسة أنماط هي:


١- مفارقة التنافر البسيط Irony of Simple Incongruity


 هذه المفارقة في أبسط أنواعها وأشكالها تكون غير معقدة من جانب تقديم الحدث أو الشخصية أو وجود مفهوم للضحية. وتتحقق مفارقة التنافر البسيط حينما يكون هناك تجاور بين ظاهرتين بينهما تنافر شديد، يمكن إدراكه بسهولة.


٢- مفارقة الأحداث Irony of Events


 تتحقق مفارقة الأحداث عندما يكون هناك تناقض أو تعارض بين ما نتوقعه وبين ما يحدث وحينما يكون لدينا وضوح أو ثقة فيما تؤول إليه الأمور، لكن تسارعًا غير متوقع للأحداث يغلب ويخيب توقعاتنا أو خططنا.


٣- المفارقة الدرامية Dramatic Irony

  ارتبطت المفارقة الدرامية بالأساس بالمسرح، فهى متضمنة بالضرورة في أي عمل مسرحى، لكن هذا لا يعنى عدم وجودها خارج المسرح، وهى تكون أبلغ أثرًا عندما يعرف المراقب ما لا تعرفه الضحية.

 كذلك تتحقق المفارقة الدرامية عندما يعرف المراقب ما لا تعرفه الضحية. وهذا النمط من المفارقة متداخل بشكل أو بآخر مع ما يعرف بمصطلح «مفارقة الأحداث». ولكي يفرق ميوك بينهما، يضرب مثلاً بالمدرس الذي قام بترسيب طالب في الامتحان، في الوقت الذي ظل فيه الطالب يعلن بيقين تام، أنه أدى الامتحان بشكل جيد، وأنه يتوقع النجاح دون شك، فالحالة هنا تمثل حالة مفارقة، ولا يوجد بالنسبة للآخرين شىء من هذه المفارقة إلا بعد أن تظهر نتيجة الطالب.

وعلى هذا الأساس يتم التفريق بين المفارقة الدرامية ومفارقة الأحداث. فمفارقة الأحداث تتحقق بظهور خيبة أمل الضحية (ويمثلها الطالب هنا) بينما المفارقة الدرامية موجودة قبل ظهور النتيجة.

 ويرجع ميوك اختياره لهذا المصطلح دون غيره، لكونه يبدو بالنسبة له أكثر ملاءمة وأقل حيادية من أية مصطلحات أخرى يمكن أن نطلقها. 
٤- مفارقة خداع النفس Irony of Self - Betrayal يشير ميوك إلى أن هذا النوع من المفارقة تم تجاهله من قبل المتخصصين في المفارقة، وأنهم ربما قد فشلوا في التمييز بينه وبين المفارقة الدرامية. ويتمثل هذا النوع من المفارقة حينما يكشف شخص ما بشكل - غير واعٍ -  جهله أو ضعفه أو خطأه أو حماقته بما يقول أو بما يفعل وليس بما يحدث له. وقد وجد هذا النوع في الدراما الإغريقية ومحاورات أفلاطون ولوسيان. كذلك وجد في أعمال شكسبير وموليير. 

٥- مفارقة الورطة Irony of Dilemma

 يذهب ميوك إلى أنه يوجد في هذا النوع من المفارقة مستويان. المستوى الأدنى، وتكون فيه ضحية المفارقة، والمستوى الأعلى، ويكون فيه صاحب المفارقة، أو المراقب. وهذان المستويان يتعارض  أحدهما مع الآخر، حيث تأخذ المفارقة فيه أشكال التناقض الظاهري أو المنطقي أو شكل الورطة.

 وقد قسم ميوك المفارقة من ناحية الدرجات إلى ثلاث: صريحة وخفية وخاصة، ورأى أن المفارقة المركبة هي التي تكون داخل مجموعة من المفارقات، وهي تشبه العبارة التي توجد داخل جملة مركبة. وأن درجات المفارقة الثلاثة، يتم تحديدها حسب درجة ظهور المعنى الحقيقي:

أ- المفارقة الصريحة Overt Irony

  يكون فيها الضحية Victim أو القارئ Reader أوكلاهما على وعي وإدراك بالمعنى الحقيقي الذي يعنيه صاحب المفارقة ويدركانه في الحال. وما يميز (المفارقة الصريحة) هو ظهور التنافر أو التناقض فيها بشكل واضح.

 ويرى ميوك أن السخرية Sarcasm يمكن أن تكون أكثر أشكال المفارقة قسوة، لكنه يشير إلى أنه ليس كل سخرية مفارقة. وهذا قول مهم جدا نذكر به من يظنون ان النكتة مطلقا هى قصة قصيرة ويتجاهلون أركان القصة القصيرة والقصيرة جدا.

 وهناك أشكال من السخرية، لا تعد من المفارقة. ويضرب ميوك مثلاً على ذلك: عندما يقول الأستاذ: حسنًا... بالطبع لم أكن أتوقع منك أن تصل إلى الإجابة الصحيحة، يعد هذا القول قولاً ساخرًا وليس من المفارقات. فنبرة الساخر هنا، تظهر المعنى الحقيقي - بشكل واضح - لا يقبل التردد، بحيث لا يغدو من الممكن التظاهر بأنه لا يعي قصده في ذلك المعنى، بينما نجد أن من شروط المفارقة الإحساس بقوة المعنى الظاهر والحقيقي معًا.ب- المفارقة الخفية Covert Irony

 يتميز هذا النوع من المفارقة بخاصية التعمد في إخفائها وجعلها غير مرئية، وصاحب المفارقة فيها يتجنب أية إشارة من شأنها أن تكشف مفارقته بشكل مباشر وواضح، سواء أكانت هذه الإشارة في النغمة أم السلوك أم الأسلوب. فهو يحاول أن يمرر ما يريد أن يقوله دون أن يُكتشف. والمفارقة الخفية ربما تكون هي الأفضل والأكثر ملاءمة للتعبير، وغالبًا ما يتم ذلك عن طريق استخدام التعليقات والمقتطفات القصيرة. لكن هذا النوع من المفارقة يفقد قوته إذا صار مبهمًا أو طويلاً أو مسهبًا، كما أنه يعتمد أكثر على فطنة القارئ وذكائه.


المفارقة الخاصة Private Irony

  تكمن غالبًا المفارقة الخاصة وراء المفارقة الخفية، وليس الهدف منها أن تدركها الضحية أو أي شخص آخر، والكاتب الذي ينخرط في «المفارقة الخاصة» ينبغي عليه أن يمتلك دليلاً خارجيًا أو إضافيًا يستخدمه هو - وحده - بصورة متفردة؛ فهو يستطيع أن يمتدح أحد رجال السياسة علانية، وهو يعرف أن هذا السياسي يمارس الفساد، و يكون هذا الكاتب قادرًا على الاعتماد على ضحيته التي ليس بإمكانها رؤية هذا التناقض الداخلي

 أما «واين بوث» Wayne C. Booth في كتابه المهم «بلاغة المفارقة» The Rhetoric of Irony فإنه يركز جهوده التطبيقية على ما يدعوه بالمفارقة الثابتة Stable Irony. ويستبعد في دراسته المفارقات غير اللفظية Non Verbal Irony، وكل المفارقات الكونية Cosmic Ironies، ومفارقات القدر Ironies of fate ومفارقات الحدث Ironies of Event.)

 ورغم أن «واين بوث» يعترف في هذه الدراسة هو الآخر، بصعوبة مصطلح المفارقة، ويرى أنه موضوع يتسم بالغموض إلى حد بعيد، إلا أنه يعترف بأهمية الموضوع.

ويقدم «بوث» نماذج متعددة من الأمثلة على المفارقة الثابتة التي يجعل لها أربع خصائص تميزها هي:

١- أن المفارقات كلها مقصودة، وهي أُبدعت أو «خُلقت» بواسطة كائنات بشرية كي تُسمع أو تُقرأ ولكي تُفهم بالدقة نفسها من قبل كائنات بشرية أخرى. فهي ليست مقدمات، جاءت عفوية، أو تعبيرات جاءت بمحض المصادفة، تسمح لمن يبحث عن المفارقة أن يقرأها على أنها انعكاسات لأفكار في مواجهة  المؤلف.


٢- أن كل أشكال المفارقة الثابتة خفية، حتى يتم إعادة بنائها بمعانٍ مختلفة عن المعاني السطحية، فهي ليست محض تعبيرات صريحة مثل: «إنه من المفارقة أن...» أو أية إشارة مباشرة مثل القول بأن«هذه الأشياء» ترجع إلى المفارقة أو أنه عالم ذو مفارقة.

٣- وهي كذلك تتصف بالثبات، بمعنى أن إعادة بناء المعنى بمجرد أن يوُضع، فإن القارئ ليس مطالبًا بأن يقوِّضه أو يُحرِّفه بوسائل تدمره. وإذا ما اختار القارئ أن يفعل، فإنه بذلك يحول أي نوع من المفارقة الثابتة إلى مفارقة غير ثابتة. لكننا طالما سوف نأخذ العلاقة الأولى على محمل الجد، فإنه ينبغي علينا أن نبقى مهتمين فقط بالمفارقة المقصودة.

٤- وهي كذلك أيضًا محددة عند التطبيق، على عكس تلك المفارقات غير المحددة منها، الثابتة أو غير الثابتة.

 ويعتقد بوث أن هذه العلامات الأربع التي تميز السخرية الثابتة تفتح أمامنا موضوعًا يمكن دراسته بشكل متعمق، حيث إن هذه العلامات لا تميز بوضوح بين المفارقة والمقاصد الأخرى المقصودة وغير الحرفية والمضللة. وهي دعوة لقراءة ما بين السطور. وثمة حيل لفظية كثيرة: «تقول شيئًا» وتعنى «شيئًا آخر»، وبذا فهي تدعو القارئ لإعادة بناء المعاني المسكوت عنها في الكلام.
ملخص الدراسة:
تلخيصا يمكن القول ان المفارقة في القصة القصيرة جدا هى الركن الجوهرى في نسيج القصة وتركيبتها وهى التى تدفع بالمغزى من القاع الى السطح ومن السفح الى القمة ومن العتمة الى الضوء، وهى التى تكسب السرد القصير جدا حيويته الدافقة وحركته وسحره وهى التى تدفع بفضول القارئ وشغفه الى أبعد الحدود الممكنة وتجعله يتفاعل مع النص تفاعلا يملأ الفراغات والمساحات بين خياله وخيال المؤلف فتنفتح مخيلته على النص باتساع لاحدود له، فتمسى القراءة عملية  ممتعة وكاشفة وساحرة ومشروعا مشتركا بين الكاتب والقارئ ، مشروعا يجعل النص متجددا ومنفتحا على آفاق جديدة مع كل قراءة جديدة له.  ومن المهم جدا القول ان كل قارئ في علاقته بالنص ناقد ولو لم يقرأ حرفا فى النقد، وكل كاتب في علاقته بنصه هو الناقد الأول له، لكنه ليس الأفضل، كونه ليس محايدا فى قراءته وشرحه أحيان يكون من داخله هو وليس من داخل النص . وأظن كل قارئ للدراسة ربما يراجع منهجيته فى النقد فيندهش كونه كان ملما بالمنهجية  بالسليقة دون إلمام بالقوانين النظرية وتفسير ذلك هو أن كل كاتب هو قارئ وكل قارئ ناقد بالسليقة.

في الجزء الثانى من هذه الدراسة سنتناول بعض النماذج القصصية بالتطبيق لما تقدم ذكره من أحكام نظرية بشأن المفارقة ومنهجيتنا في قراءة النصوص.


صلاح الدين سر الختم على

مروى19 نوفمبر 2013


١-        The Shorter Oxford English Dictionary on Historical Principles, Prepared By William little, H. W. Fowler, J. Coulson, Revised and Edited by C.T. Onios, Oxford, At the Clareendon Press, (1956), p.1045


٢-Dictionary of the History of Ideas, Studies of Selected Pivotal Ideas, Volume ?, Charles Scribner s Sons, New York, (1973), p. 626Muecke, D. C; Irony and The Ironic, Methuen, London and New York, (1982)


- Booth, Wayne c; The Rhetoric of Irony, Chicago: University of Chicago Press, (1975); p

Tuesday, November 5, 2013

رواية(رماد الماء ) لعبد العزيز بركة ساكن أنشودة جميلة للحياة عند أعتاب الموت/ دراسة نقدية بقلم/صلاح الدين سر الختم على

تعتبر رواية( رماد الماء) المكتوبة خلال الفترة من (1997 الي 2000) من القمم السامقة للكاتب عبد العزيز بركة ساكن، فهى عبارة عن أنشودة طويلة وجميلة للحياة عند أعتاب الموت وهى تتضمن مرثية عظيمة للوحدة الوطنية الشكلية التى كانت قائمة في السودان عند أعتاب الإنفصال الذي سبق صدور الرواية حدوثه ولكنها كانت نبؤة مبكرة بحدوثه، وكانت الرواية توظيفاً للرعب الذي انغرس في واقع السودان لخدمة السلام المشتهى وكانت توظيفاً للأسطورة في خدمة الحقيقة العارية.الرواية مكتوبة بلغة متميزة ليس فيها استطرادات شاعرية أو إسهاب في التفاصيل وتبدو شحنة انفعالية ووجدانية تم إفراغها مرة واحدة بلا توقف عن الكتابة ولذلك تبدو الأحداث بالنسبة للقارئ شريطا سينمائياً متدفقاً بلا توقف علي شاشة مفترضة يبدو كل حرف فيها جزءا لايتجزأ من المشهد ولوحاته المتتابعة. وأظن الرواية تندرج تحت توصيف الدكتور صلاح فضل للأسلوب السينمائي في السرد بلا أدنى شك. يقول الدكتور صلاح فضل شارحاً ذلك(مفردات الفيلم وهي _اللقطات_ تزخر في تكوينها بعناصر تقنية وجمالية لاتتضمنها أية مفردات للفنون السابقة عليها، فهي اذن لغة شديدة التركيب إذا قورنت بغيرها من اللغات التى تسمي طبيعية أو فنية، السينما لغة ثالثةتفيد من كل من اللغة الطبيعيةوالشعر والتشكيل  والموسيقي والطبيعة والفعل الانساني وغيرها، فهي نتيجة لذلك متعددة الابعاد.) راجع اساليب السرد في الرواية العربية للدكتور صلاح فضل/ الطبعة الاولي 1997 دار  سعاد الصباح ص187.اذا يتميز الأسلوب السينمائي للسرد بالصفة البصريةالوصفية بهدف نقل القصة الي صور. فالرواية تتكون من مجموعة من المشاهد واللقطات والصور المتتابعة، حيث قسم المؤلف الرواية لعدة لوحات أو مشاهد تشكل وحدات قص مختلفة تكون في مجموعها الرواية، بلغت هذه الوحدات أربع عشر وحدة الفواصل بينها عناوين بحيث حملت كل وحدة عنواناً مختلفاً، فيما عدا الوحدة الأولى والأخيرة  فقد حملتا ذات العنوان  ونفس الشئ تكرر بالنسبة للوحدتين السادسة والسابعة  لحاجة في نفس الكاتب . وميزة هذا التقسيم أنه يمكن الراوي والكاتب بالطبع من التنقل بسهولة ويسر بين الشخصيات والأمكنة مستخدماً تقنية المونتاج المستعارة من فن السينما ببراعة دون أن تلتبس الأمور علي القارئ المشاهد وتتداخل ودون أن يشعر بالانتقالات المفاجئة للسرد من بئية الي أخري ومن شخص الي آخر ومن حدث الي حدث مغاير. ويستسلم القارئ لهذه الانتقالات ويتهيأ بنهاية كل وحدة قص للولوج في مكان مختلف. واللافت للنظر حضور الوصف وغياب اللغة الشعرية حتى في أثناء عمليات التداعي يتم التداعي في شكل صور متدفقة من الذاكرة مباشرة. ويتحقق بذلك قول الدكتور صلاح فضل(ان الرواية عندما تعتمد الصيغة السينمائية تتخلص من جميع الشحوم البلاغية العالقة بالخطاب الأدبي لتغدو في رشاقة ممثلات هوليود وهي تقدم أشد الأحداث إثارة للشجن بكلمات قليلة ، ودالة، وبالغة التأثير والقوة) المرجع السابق ص197  .
ومن السمات المهمة للأسلوب السينمائي تقنية الراوي، ففي السرد البصري يكون الراوي هو الكاميرا المتحركة، ومع أن السينما عرفت وتعرف البطل المركزي المهيمن الذي يطغي بحضوره علي الآخرين ويستقطب اهتمام المشاهدين، إلا أنها لاتستطيع إخراج هولاء الآخرين من حيز دائرة الضوء المرئي، ومن ثم يصبح وجودهم موازيا لوجود البطل المركزى، في رواية رماد الماء يقدم هذا المنظور السينمائي فبينما يوجد بطل مهيمن هو سلطان تية  هنالك ابطال آخرون لهم وجود وحضور فاعل في السرد والرواية ومواز لوجود البطل.
في المشهد الإفتتاحى للرواية تجسيد للسرد البصري وحركة الكاميرا كراوي بشكل بديع، المشهد احتل الوحدة الأولي التي سماها المؤلف (السلم جثة  الحرب) وفي تقديري لم يكن بحاجة الي التسمية ، ففي الأسلوب السينمائي تتدفق اللقطات بلا فواصل  وتسميات فكل لقطة تحمل فاصلها وأسمها وموضوعها بلا فواصل ولاتسميات، المشهد مشهد موجع وقاس تدور فيه الكاميرا بشكل محترف في كل أركان الغابة المحترقة وتلتقط صورا لكل شئ وهو يحترق والدخان يتصاعد منه، الأشجار هياكل محترقة وقذائف الراجمات وقنابل طائرات الانتينوف الروسيةالصنع تركت بصمتها في كل شئ، الأرض سوداء، آليات الموت تموت هي الأخرى فنري في استعراض الكاميرا جثثا لآليات عسكرية معطوبة وإطارات مبعثرة وخوذات عساكر متفحمة وبنادق مهشمة ثم يورد الرواي وصفاً حياً لحالة الكائنات التي ماعادت حية( قطط مشوية، قردة مشوية، صقور مشوية، أرانب مشوية، أسد، كلب، قط، ولد، ولد، ولد، نساء مشويات ينمن قرب جنائز الآلة، أشجار مشوية، أحذية عليها بقايا أرجل بترتها الألغام، عسكر اموات، مقابر جماعية، هاونات معطوبة، جندي محترق نصفه الأعلي ، نصفه الأسفل في الخندق، سحلية لا رأس لها، خوذ حديدية بداخلها رؤوس، حراب ودروع من جلد وحيد القرن، نمل شديد السواد منكمش علي نفسه) رماد الماء ص 6.
هكذا يرسم الكاتب بكاميرا دقيقة صورة مروعةللمكان وما جري فيه  يهتز لها كل وجدان سليم ويرتعش ويصاب صاحبه بالغثيان،يصور الكاتب من خلال المشهدوتفاصيله الموجعة أثر الحرب علي الإنسان وكامل حياته وبيئته، فكل شئ يحترق ويعانى من الحرب ودمارها الذي لايستثني أحدا ولاشيئا، يستوي القاتل والمقتول في الحرب، فكلاهما ضحية لآلة الحرب البليدة التي لاتشبع ولاتتوقف عند حد في عشقها للموت والخراب وترقص علي إيقاع الدموع والدم. وتجوس الكاميرا ( الراوى) في المكان لتبرز لقطات أقرب(هيكلان عظميان يتحاضنان تحت شجرة ويتساقط الرماد منها عليهما، سلاما، سلاما، كلما عبثت بها ريح لم تمت ، هل تموت الريح؟) رماد الماء ص 7. وتنتقل الكاميرا لتصور من زاوية أخري لقطة جديدة (المبنى الوحيد بالوادى مشيد بالحجارة، المبنى متهدم، لكنه علامة تدل على أثر انسان، واضح أيضا انه ، اتخذ في وقت ما حامية مؤقتة للجيش، بقايا موتهم تدل عليهم، تشير الي حياتهم السابقة،خنادق، فوراغ القذائف، صفائح الأطعمة الجاهزة، بعضها فارغ، بعضها محترق بما فيه، هياكل عظمية، خوذات الحديد بها جماجم ناضجة، بقايا سترات عسكرية، جسد مشنوق علي شجرة مانجو وهى علي شئ من الخضرة، أوراقها مشوهة وبليدة تنمو علي أشكال مرعبة.)
رماد الماء ص 7.
ولمزيد من التأكيد علي الرعب وحقيقة ماجرى بالمكان من فظائع وجرائم مروعة ضد الإنسانية يتوقف الراوى الكاميرا عند الجثة المشنوقة توقفاً يحبس الأنفاس والدم في العروق( الجثة المشنوقة جسد جاف تماما لم تمسسه حتى الأطيار الجارحة أو الديدان، لشاب في مقتبل العمر، لم تنبت له لحية بعد، ولا شوارب، كان عاريا، علي عنقه تتدلى تميمة كبيرةبين نابين لنمر أبيض كالبرد، بسهولة يمكن التأكد من ان له عينا واحدة فقط، الأخري مفقؤوة)  رماد الماءص 7 و8.
ويواصل عبد العزيز بركة ساكن المشهد المرعب الذي يذكرنا بافلام رعاة البقر الأمريكية حين تصور مكانا كان مسرحا لمعركة قاسية بين (الكاو بويز)  والهنود الحمر ( كانت الريح تدور في المكان ، تصر صريرا مرعبا، تعبث برماد الأشياء ، تعمى أعين الموتى الفارغة، أعين الدبابات المحترقة، لا أثر للحياة في الأرض، لاإنسان، لاحيوان،لكنك اذا تطلعت الى السماءلرأيت من وقت لآخر أسراباً من النسور الصلعاء تدور في حلقات ، فاردة أجنحتها.) ص (8).
هذا المشهد الافتتاحي البديع للروايةهو بمثابة إخبار بصرى بالكلمات بكل ما جرى بالمكان وهو أحراش جنوب السودان ومدنه وقراه الصغيرة من ويلات وفظائع ابان الحرب الأهلية التى استمرت خمسون عاما ولم تتوقف إلا بالانفصال، الكاميرا تنوب عن السرد وتحل محله وتختزن ذاكرة الحرب وذاكرة المكان وذكر ماجرى في مشاهد تعلق بالذاكرة الى الأبد، يكاد المشهد الذي صوره قلم (ساكن) الكاميرا في تسع صفحات من الروايةيختصر كل تواريخ البكاء ويجسد تجسيداً حياً ماجرى بارض السودان منذ عهود سحيقة بشكل يشكل اجابة علي سؤال مقتضاه كيف بات البيت الواحد بيتين بين عشية وضحاها، يلخص المشهد سؤال الرواية الكبير الذي يطرحه العنوان ويطرحه هذا المشهد (كيف صار الماء رماداً؟ كيف أحترق الماء وهو غير قابل للاشتعال أصلا؟كيف به قد صار رماداً؟!) هذا السؤال المركزي للرواية هو في الوقت نفسه السؤال المركزي الذي واجه الوطن السودانى ولم يجد الإجابة حتى اللحظة. 
حين تفرغ من قراءة هذا المدخل المروع للرواية تشعر بالرغبة في الهروب أبعد ما تستطيع مما ينتظرك علي بقية الصفحات في كهف الرعب الذي ولجته، تقول لنفسك ( لو كانت تنتظرنى كنوز الملك سليمان الثمينة داخل هذا الكهف المرعب المحروس بالجماجم والخفافيش والهياكل العظمية، لما رغبت في الحصول عليها أبداً، فما يدرينى اننى ساخرج من هذا الكهف الملعون المسكون بالموت والخراب والأفاعي حياً؟! ما يدريني اننى لن أدوس علي لغم قديم مختبئ أو علي قنبلة تنتظر ضحيتها بشوق وشبق؟! ما يدريني ان ثمة فخ منصوب في كل شبر منه لمن يريد هتك سره؟!)
لكن الفضول البشري المتأصل فينا منذ كان أبونا آدم وأمنا حواء بالجنة ، يتغلب علي المخاوف النائمة فينا،وتهزم شهوة البحث عن الإجابة للاسئلة الخوف الكامن فينا فنندفع الي قلب الكهف غير عابئين بالعواقب. وتلك هي رسالة أولى من رسائل الرواية تتحقق عند عتبة النص وهي تحرير الناس من الخوف من الحقيقة، فالحقيقةدوماً باهظة الثمن مثل الحرية، وعلي من يبحث عنها أن يدفع ذلك الثمن راضياً، وإلا فليهنأ بجهله وظلمته. وهكذا نلج الي المعرفة من باب التحرر من الخوف ومواجهة الحقائق العارية مثل تلك الجثة العارية المشنوقة في العراء. هكذا نلج المتخيل الروائي الجميل رماد الماء من باب كهف الرعب المسحور. ينفتح المشهد الأول علي السؤال ( لماذا جرى  ماجرى؟) نحمل الأسئلة ونلج المشهد الثانى الذي ينفتح علي مفاجأة الانتقال من المشهد الأول الذي بطله هوالمكان الي المشهد الذي بطله الإنسان المنسلخ عن المكان والهوية، وننتقل من فضاءات الخارج الي كهوف النفس البشرية ونبوءاتها لنتعرف علي عوالم (سلطان تية)المستلب ابن المستلبة المحور ثقافياً المعاد الي الجذور هجيناً يحمل من كل بستان زهرةوالحامل لأسلحة الحضارة الفتاكة الذي يقتل حارس الغابة الذئب في يومه الأول فيها ليعلن موقعه كعدو خارجى وابن عاق للطبيعةعاد ليحقنها بجرثومة أمراض حقن بها واستوطنت فيه.
وحدة القص الثانية المسماة (مقتل الحارس) تقع احداثها في أربع عشر صفحة وتبرز فيها شخصية سلطان تية المهيمنة علي السرد والمشاركة فيه فكثيرمن الصور تروي من داخل اعماق هذه الشخصية وبلسانها الذي بات كاميرا تصوير للأعماق السحيقة للشخصية.سلطان تية لاينتمي للمكان جغرافيا فهو من جبال النوبة والأحداث ومسرحها بجنوب السودان، لكننا نكتشف ان أصول سلطان تنحدر من الجنوب ونعرف ذلك من خلال ذاكرة سلطان المحتشدة مثل كاميرا الكوداك التي يحملها بالصور التي تحمل في طياتها تفاصيل انسانية غنية فنعرف ان أمه تنتمى الي الجنوب لكنها هجرت منه وجري طمس ممنهج لهويتها الثقافية فاسمها الحقيقي الذى كان (انجودورنا)صار بعد تهجيرها القسرى (التومة) وتنكرت لأصولها القبلية الأصلية وهى قبيلة جنوبية تسمي الأنكا وربما الاشارة هنا الي الدينكا. فنجد التومة تتحدث عن أصولها بلسان الثقافة السائدة التي الحقت بها فهى تعتبر (الكا) أكلة لحوم بشر وتحذر ابنها من شرورهم وشرور نسائهم(إذا التصقت بها،بظفرها ثقبتك في عدة مواضع، قطعت شريانك في النهاية)(راجع الرواية ص 24و25)، فهي تجسد المستلب الذي يصف نفسه بلسان من مسخه وشوه هويته. ويتحدث الراوي من داخل ذاكرته عن ذلك التهجير ومبرراته ووسائله نري العجب فهجوم التماسيح المزعوم كان سبب التهجير(تسببت هذه التماسيح قبل عشرين عاما في إبادة قرية بأكملها،حينما زحفت في جماعات جائعة نحو القرية تحتطف الأطفال والنساء والشباب أيضا، كان هذا سببا ذكرته الحكومةالمركزية في تعليلها لنقل مائة قرية من الدغل الشمالي الي تخوم المدن الحضرية في الشرق.إلا ان الهدف الأساسي من الترحيل بالتأكيد لم تقله الحكومة، كان سبب الترحيل يتمحور حول مسخ الدغليين، تضييع هويتهم الثقافيةوالعرقية ودمجهم في ثقافة الأغلبية الحاكمة.) ص 12 ان الذريعة الرسمية للتهجير القسرى تبدو مضحكة وبائسة وغير منطقية، فلا التماسيح تنقلب أسودا جائعة وحيوانات برية خلافا لقوانين الطبيعةولا ذلك يصلح ذريعة للتهجير ان صح ، ببساطةعلي الحكومة حماية الاهالي وليس تهجيرهم.
ويمضي الراوي نحو الهدف(بمنطقة الدغل توجد بعض التجمعات البشرية التي قاومت التهجير الحكومى خلال الخمسين سنة الماضية) ص19  فهنا ينقلب الحديث ليصبح حديثا مباشرا عن مشكلة جنوب السودان.)
ثم يقع الراوي ومن بعده المؤلف في خطأ تاريخي فادح حين ينسب سياسة المناطق المقفولة للحكومة المركزية بقوله(اعلنت الحكومة المركزية في الشرق ما اسمته سياسة المنطقة المقفولة، من يدخلها بدون تصريح أو تفويض حكومى يعرض نفسه للجلد والسجن) ص 19 
فالمعروف ان سياسة المناطق المقفولة سياسة فرضتها الادارة الاستعمارية البريطانية منعت بموجبها دخول الشماليين والثقافة  الشمالية للجنوب وهو الامر االذي فاقم الهوة بين الشمال والجنوب، ولم تتبن أي حكومة وطنية سياسة مماثلة. لكن لاعلينا فليس الأمر حصة في التاريخ بل هى رواية وقد تكون الأمور مختلطة في وعي شخصية مشوشة الوعي مثل سلطان تية المتحدث بأكثر من لسان بسبب صراع الهويات المتعددة والثقافات بداخله والاستلاب الذي تعرض له. 
تتدفق المشاهد من داخل ذاكرة سلطان تيةبلا توقف كما يتدفق نهر من مكان مجهول، نرى في تلك الذاكرة مشهد حادث الحركة الذي أودى بحياة والده الصوفى الملتزم المحب للحكايات والمرح والمتدين في الوقت نفسه، سحق رأس الرجل سحقا أمام ناظرى ابنه الذى نجا من الحادث ليختزن في ذاكرته الوجع ونهاية والده المروعة، ومن تلك الذاكرة نفسها تقفز صور رفاق طفولة سلطان تية والعابهم المأخوذة من بيئتهم المحلية وأساطيرها(يحملون مسحوق لحم الوطواط، مخلوطا برماد ذيل السحلية وهم يختبئون خلف نباتات العشر، علي ضفة خور المقابر الكبير، حيث يقضى الناس حاجاتهم، كانوا ينتظرون نفيسة، الجميلة بنت الاستاذ القادمة حديثا من المدينة الكبيرة،سيضع الأطفال خليط الوطواط والسحلية علي بول نفيسة الجميلة حتى لاتستطيع النوم مالم يضاجعها أكثرهم حظا) ص21  
تبدو الحكايةهنا مشبعة بالمكان وأساطيره الشعبية ومعتقداته التي بلغت من القوة حد مغازلة أحلام المراهقين.
ووسط معتقدات الطفولة هذه التى لاتخلو من معتقدات وثنيةنجد معتقدات دينية أخري تتسرب الي روح سلطان تية من والده الصوفي وتستقر في روحه فيستعيدها في شبابه في أرض الجنوب أرض أجداده المتهمة بوثنية معتقداتها (توضأ بماء المطر ثم شرع يصلى العصر، ثم أخرج مسبحته أخذ يردد أسماء الله الحسنى، اعتاد ان يتلو بعض الأوراد التى اخذها عن أبيه الذي يتبع طريقة صوفية لها طقسها الخاص والعميق.) ص20
ان الرجل كما نكتشف رويدا رويدا حامل لمجموعة من الثقافات والمعتقدات المتصارعة المتعايشة بداخل نفس واحدة وامكنة متعددة، وهو نفسه خاضع لمؤثرات من خارج المكان الجغرافي المسمي السودان كله مثل إذاعة البي بي سي ومنتجات العالم الأول التي يحملها معه كادوات لازمة في ترحاله وحله(بعد ان حوط نفسه آمنا من الشرور،أدار مؤشر الراديو الصغير الي bbc الإذاعة الوحيدةالتي يصدق أخبارها، ويثق في اخبارها ويراسلها أيضا. ومسدسه ماركة النجمة دائما معد لاطلاق النار لكنه لم يستخدمه بعد) وهو يحمل كاميرا كوداك وخرائط وسرير جوال .
ويبدو الحصار المفروض علي سلطان تية بالمكان الجغرافي الذى هو نفسه في المشهد الأول مقصودا ومتعمدا ومتماهيا مع موضوع الرواية، فسلطان منزوع الهوية أعيد الي بيئته الأصلية عودة مؤقتة فبات قطرة في بحرها، بات محاصرا بكل مايتنمى الي المكان من أشجار وزواحف وحيوانات فكلها أصيلة ومحتفظة بأصلها ولها ديمومة في المكان وهو وحده المزيف المشوه المؤقت الوجود الحامل لثقافات دخيلة علي المكان ، لذلك كان صراعه مع حارس الغابة الذئب حتميا، اعتمد الذئب فيه علي أياديه الطبيعة وأسلحته الطبيعية فكان هجومه انتحارا لأنه كان هجوم أعزل علي مدجج بسلاح قاتل، فكانت خسارة الذئب طبيعية وحتمية، لكن هل مثل موت الذئب انتصارا لسلطان تية؟! 
ان الذئب ممثل لثقافة المكان وجزء أصيل منه ، ربما هو متجذر في المكان أكثر من سلطان تية نفسه، ولهذا السبب فان موت ذئب واحد لايمثل تغييبا للمكان وثقافته التى تحضر بقوة في المشهد الثالث ممثلة في ثورة أهل المكان علي سلطان تية بسبب قتله الذئب.
تتخلل المشهد لقطات سريعة من حياة سلطان تية يظهر فيها صديقه الصادق الكدراوى المغرم بالسفر والتنقل الداخلي والنساء والذى وضع هدفا عجيبا نصب عينيه وهو أن يعاشر من كل قبيلة في بلاده امرأة فهو يرى في نفسه مشروعا قوميا بهذا الفهم ، نلاحظ هنا وجود نزوع انسانى عام نحو الوحدة والتلاقح الثقافي الطوعي بين المكونات القومية ،والدة سلطان الحاملة لهويتين واسمين هى قنطرة بين ثقافتين محليتين ومكانين ولكنها تعانى من محو قسرى تم لهويتها الأصلية واحلال قسرى لهوية بديلة محلها، والصادق الكدراوى يتلمس بطريقته الخاصة حقيقةواقع التعدد العرقى والثقافى في السودان ويحاول تجاوز الحدود المرسومة بين التكوينات المختلفة عبر (سلاح الجنس )  ولعله بذلك يكون صاحب مشروع خاص ربما يشكل امتدادا لمشروع مصطفي سعيد بطل رواية موسم الهجرة للطيب صالح الذي اراد الانتقام من أوروبا عبر استخدام ذات السلاح ضد نسائها. حتى سلطان تية نفسه هو الآخر مستلب الهوية ابتداء من اسمه المكون من مقطعين كل منهما يمثل ثقافة مغايرة ومكانا مغايرا بينما جذوره تنتمى لمكان ثالث وثقافة ثالثة، فالاسم (سلطان) ينتمى للثقافة العربية الإسلامية السائدة في السودان وسطه وشماله وشرقه وغربه، بينما ينتمى الاسم(تية) الي ثقافة زنجية أفريقية تنتمى جغرافيا لجزء من غرب السودان يعرف بمناطق جبال النوبة التي تعج بحضارة وثقافة عميقة الجذور ولها ملامحها الخاصة برغم تلاقحها وتمازجها مع ثقافات اخري يعج بها المكان بقدر اقل، وكما نعرف في الرواية يتضح ان جذور سلطان تنتمى لجنوب السودان وقبيلة الكا. وقد تعرض سلطان لعمليةتدجين وطمس للهوية، يرسم المؤلف صورة مضخمة لشخصية سلطان المستلب ثقافيا كما يلى:
1/ من جهة الأم يعانى سلطان من طمس هوية الأم وقبولها لذلك الطمس وتنكرها لأصلها لاحقا نتيجة للتدجين المستمر لها.
2/يبدو سلطان تية بالاشياء التي يستخدمها كاكسسوارات ملازمة له(كاميرا كوداك حديثة/ مسدس/ سريرجوال/ ناموسية/ راديو صغير مفتوح علي الاذاعة البريطانية/ خرائط للأمكنة) يبدو (خواجة أسود) في نزهة في أفريقيا أكثر منه أفريقياً يتجول في مسقط رأس أمه. وهذا وجه آخر للاستلاب ومحو الهويةالممنهج.
3/ لايكتفي المؤلف بالوصف الخارجي فيصف سلطان تية من الداخل وصفا أكثر دقة( سلطان تية بالذات لاتشك السلطة في عدم ولائه، ولو أنه من جذر دغلى بحت، إلا انه لايعترف بما يدعى _سريا_ بالقومية الدغلية، فهو ملكى اكثر من الملك. لذا حصل علي تصريح موقع من رأس السلطة مباشرة.)
فسلطان رمز لمن تنكروا لأصولهم لصالح مصالح ذاتية ضيقة وقبلوا أن يكونوا دمى تحركها السلطة من وراء حجاب. سلطان تية لم يعد الي الجذور في رحلة بحث عن الجذور ولا لخوض معركة لتحريرها وتطويرها، بل جاء لتحقيق هدف ذاتى بحت يصفه الراوي بوضوح(فهو شخص عملى، ولاهدف له الآن غيراستكمال الجزء العملى من رسالة الدكتوراة، التى سيقدمها بعد شهرين للمجلس العلمى، اذا قبلت سيتحقق حلم عمره، يصبح محاضرا في الحياة البرية) الهدف ذاتى بحت اذن، ومن سخرية الأقدار ان من يريد ان يكون محاضرا في الحياة البرية يقتل ذئباً في الغابة بمسدس إثناء بحثه عن مواد علمية تعينه علي الحصول علي الدكتوراة!!  ان سلطان تية المزود باليات القتل الحديثة يبدو في أحسن صوره مخلب قط  للقادمين من خارج المكان واداة لتدميره .يبدو المشهد الثانى من الرواية مشهدا يصور الوجه الآخر للرعب الذي يعانى منه المكان( جنوب السودان) ففضلا عن الحرب وآلياتها المدمرة التي عكسها المشهد الأول للرواية يعانى المكان مثل (سلطان تية) وأمه (التومة)  والقومية الدغلية التى ترمز الي شعب جنوب السودان من الإضطهاد الثقافي  والعرقى والدينى والاستعلاء العنصرى والعرقى الذى يرفض الاعتراف بثقافتهم ووجودها ويسعى الي طمسها وتدجينها وإحلال ثقافة الأغلبية بالقوة مكانها، كأن الكاتب اراد القول ان المشهد الأول هو الابن الشرعى للمشهد الثانى وان المكان الذي احترق الماء فيه قد ناء كاهله بحمله الثقيل من المرارات فتحول الماء بارودا ونفطا وغازا سريع الاشتعال يحول كل ما تطاله يده الي رماد بعد ان كان بستانا أخضرا.
في المشهد الثالث المعنون ب أهل الكهف يظهر أهل المكان من قبيلة (لا لا )في المشهد حفاة عراة مدججين بالتمائم حاملين أسلحة بدائية  ومعهم فتاة منهم ترتدى جينزا وصدرها عار في رمز واضح لاختراق الثقافات الوافدة للمكان ومعهم شخص اوربى الملامح وزعيمهم كهل مدجج بالتمائم هو الآخريسمى الكواكيرو، يتضح انهم غاضبون لمقتل الذئب ويأخذوا في تنفيذ رقصة بدائية وسلخ الذئب علي ايقاعها، ثم تخاطب الفتاة سلطان تية بالانجليزية سائلة اياه من يكون وهنا تصوير آخر لعملية محو الهوية ، فالفتاة وسلطان تية ابناء المكان المنسلخان من هويتهما يختاران لغة اجنبية كوسيط للتحاور وفي ذلك تجسيد لقمة المأساة في مسالة طمس الهوية.يستمر الحوار فيدفع سلطان عن نفسه تهمة كونه صائد تماسيح بقوة، يأخذون منه سلاحه ويقررون انهم سيحبسوه حتى تحل روح الذئب فيه فيمسى ذئبا.الجزاء من جنس العمل فهو أخذ روح الذئب فلتسكنه تلك الروح الي الأبد وتقضي علي جوهره الانسانى. ونعرف ان اللا لا لهم سجن هو كهف يحبس سلطان فيه فاستعان علي الخوف الذى تملكه فيه بأرث والده الروحى بعد مصادرة أدوات أمانه المادية ممثلة في السلاح النارى والعصى ، فشرع في الصلاة وقراءة الأوردة التى حفظها عن ابيه، وفي محبسه ذاك تظهر خلفية ثقافته الإسلامية في استعادته لقصة أهل الكهف الواردة في القرآن، وكانت المفارقة انه كان سجينا في كهفه ويسمع أصوات الذئاب الطليقة في الخارج وهى تعوى، فيدرك انه لم يقتل شيئا وان فعله ضاع هباءا ولم يثمر الا سجنه هو وتقييد حريته فالذئاب متجذرة في المكان وقتل واحد منها لن يمحوها من الوجود. وفي ذلك رسالة كامنة ذات صلة بموضوع الرواية فالقتل والعنف لن يثمرا شيئا ولن يفلحا في محو هوية المكان وشاغليه وثقافتهم، تلك هى الرسالة الكامنة خلف مشهد مقتل الذئب وبقائه طليقا يعوي في المكان وصيرورة قاتله حبيسا في كهف يشابه الكهف الذي نام فيه أهل الكهف نومتهم الطويلة المعجزة، الفارق ان أهل الكهف كانوا دعاة نور وتنوير فكان الكهف نجاة لهم من العسف والجور، بينما كان سلطان تية وكل من يستخدم العنف لتحقيق الغايات دعاة ظلمة وظلم وتعسف وجور فكان الكهف عقابا لهم علي جورهم وحماية للناس من شرهم. 
في المشاهد التالية من الرواية يورد المؤلف قصة قدوم عنصر خارجى للمكان ممثلا في اسرة اجنبية قادمة من اوربا لتعيش في تلك الأحراش (مسس ومستر جين) ويصور توجس أهل المكان منهم وتخوفهم من تجارة الرقيق والاستعمار والتنصير المرتبط بدخولهم المكان وفي نفس الوقت اشواقهم الي التطور والصناعات الحديثة والحياة الرغيدة المرتبطة بهم التى غازلها بروزهم بالمكان، انه تصوير جميل لعلاقة افريقيا بالغرب، مخاوف نائمة مشروعة ترجع الي تاريخ اسود للرجل الابيض مع القارة الفتية وتطلعات مشروعة تغذيها الصورة الجديدة التي يحاول المستعمرون القدامى تسويقها باعتبارهم رسلا للحضارة والانسانية. يصور المؤلف ذلك من داخل اعماق اهل المكان (قبيلة ال لا لا وزعيمهم الكواكيرو):يصور دخول الأجنبيان الي المكان ورد فعل شاغليه(في البدء كانا ملكين هبطا في غفلةالي الارض، عيونهما الخضراء، عربتهما، كل شئ، لكن ما كان يثير القرية ويفتح شهية الكواكيرو شخصيا هو الأمل المتمثل فيما يمكن ان يحدثه هذان الشخصان من تطور، لابد انهما سينشئان بيتا للتعليم وسينشئان بيتا للعلاج وسيعلمان الدغليين طرقا جديدة للحضارة، هولاء البرص اصحاب العيون الخضراء يفعلون المستحيل، لكن يعلم أهل القرية أيضا أن الأبيضين، يبدآن ببناء بيت لعبادة الرب المثلث ثم جند لحماية البيت أو يتاجران بالرقيق، في ذلك الحين سنحرقهما) ص 56
ويخصص المؤلف المشهد المسمي الغرباء لرصد ردود فعل شاغلي المكان فيصور ببراعة متابعتهم للغرباء في صمت والمداولات التى تدور بشأنهم والموقف منهم(لأسبوعين كاملين كانوا يراقبون سلوك الغرباء، أصحاب الحمار الكبير، عندما جاء البناءون وأخذوا في تشييد البيت الكبير، كان المحاربون أيضاً هناك خلف الأشجار يراقبون في صمت، ينقلون ملحوظاتهم في إشارات صغيرة الي بعضهم البعض، اجتمع مجلس المحاربين مرارا وتكرارا متباحثا في شأن الغرباء، هل نجبرهم علي مغادرة الأرض؟ هل نسمح لهم بالبقاء ؟ هل نقتلهم؟ هل نسجنهم بالكهف؟ بعد مداولات كثيرة قرر مجلس الكواكيرو امهال الأبرصين زمنا قبل الحكم عليهما.) ص 60 
وفي المشهد المسمي الجذور نعرف ان الرجل مستر جين هو أول طفل أنابيب أنتج سرا في العالم وبالتالي فهو رجل لاجذور له في الحقيقةوبات الرجل عالما متفوقا في الكيمياء الذرية وزوجته ماريانا عالمة هي الأخري تعمل في مجال تطوير الأسلحة التقليدية وأصيبت بمرض غامض وأختفي الإثنان ليظهرا في أدغال الجنوب وتعلما رطانة القبائل المحلية وباتا يبشران ببدائية الحياة ويقدمان نفسهما كشئ مختلف عن تاريخ وحاضر الرجل الابيض  ويدعى الرجل ان سبب حضوره الي المكان هو ان زوجته اصيبت بالتلوث الكيميائى المشع فاحتمى بهم. وحين طلبوا منه ان يفتح مدرسة لتعليم الأطفال رفض الرجل ( وأخذ يدرسهم فائدة عودة الانسان الي الحياة البدائية البسيطة: أمشوا عراة، كلوا ما يصادفكم من طعام، اشربوا رحيق الازهار، ناموا أينما هاجمكم النعاس، مالكم واللغة والكلام والطائرات والموت ومالكم والكارثة) ص 94 وهذا الكلام المخاتل يفضح حقيقة هذا العالم المزعوم فهو لايسكن في العراء بل ابتنى بيتا للإقامة فيه قبل استقراره وهو يستغل سيارة وهى من منجزات الحضارة ويرتدى ملابس عصرية ويطالب الدغليين برفض الحضارة، بل يضبطه الكواكيرو متلبسا ببذر بذرة التمرد علي الواقع في الاطفال: ذات يوم اندس الكواكيرو خلف سياج البسنتا،سمع جين يقول للأطفال (اتركوا أسركم واهربوا، عيشوا هنالك بعيدا في الدغل مع القرود والأطيار الجميلة حيث عسل النحل والكارواووالأناناس، هل تجلبون الحطب لأمهاتكم؟ هل تجلبون الماء من الابار البعيدة؟ هل تحفرون الأرض الصلبة لاستخراج حبر الزينة؟ هل يرسلكم الكواكيرو بعيدا لتلقي العلم بعيدا؟ لماذا لاتنطلقوا أحرارا كالغزلان كالنمور كالأطيار، لامسئوليات ، لاشقاء؟) ص 95 
عندها صاح الكواكيرو( أيها الأبرص العريان، أنت عدو الدغل الأول، عدو المستقبل) ص 95
هكذا يبدأ الصراع بين الوافد والراسخ في أخذ شكل جديد، فالوافد يستهدف المستقبل، يغير جلده وأسلوبه ولغته ووسائل عمله، فان كان يحل مستعمراً بجيشه في السابق فانه يتسلل الآن تحت ذرائع إنسانية ويتعلم لغة الناس ويحاول ان يكسب ودهم وثقتهم ، وبدلا من تحميل السفن بالرقيق الذي يقتنصه من الجبال والغابات يبدأ رحلة قنص الأرواح بدلا من قنص الرقاب والأجساد، انه يفرغ سمومه في أرواح بناة المستقبل ويشدهم اليه بخيوط من حرير بدلا من السلاسل ويجعلهم عبيدا من نوع آخر، عبيدا تم الاستيلاء التام علي أرواحهم وعقولهم وتم مسخهم وتشفيرهم واخضاعهم لعمليات غسيل ذاكرة ومخ واسعة النطاق بحيث لم يبق منهم إلا الهيكل العظمى والجلد الذي يكسوه. لذلك تتسارع الأحداث في الفصول الأخيرة للرواية نحو النهاية الحتمية لهذا الدفع وهذه العمليات الواسعة التى جرت، فيعود الأولاد الذين راهنت القيادات المحلية التقليدية مثل الكواكيرو عليهم وانفقت علي تعليمهم في الخارج ليكونوا المخرج للمكان من الظلمة والقهر، عادوا وليتهم ماعادوا، فقد عادوا غرباء الروح ، غرباء المظهر، ليفتكوا بالمكان وشاغليه بدلا من تطويره، يصف المؤلف ذلك التطور الدرامى كما يلي:( حضر بابو الغريب، بابو ابن نادية ابنة الكواكيرو الكبرى، حضر ذات عصر ممطر يقود عربة جيب 99 ذات لون أحمر، أوقف العربة تحت شجرة جوغان ضخمة وأخذ يستعمل آلة التنبيه بصورة شاذةجعلت القرية كلها تهرع اليه.، عندها نزل الأرض، يرتدى بدلة اسموكن بيجية وربطة عنق بها الوان كثيرة، ووجهه ناعم وبه رقة أنثوية تعلن عن نفسها، له حقيبة صغيرة تحتوى على جواز سفر وبعض العملات الأجنبية وله جهاز اتصال ارسال واستقبال يعمل بواسطة الأقمار الصناعية) ص187 و188
 ونكتشف ان الولد تلقى تدريبا عسكريا في كلية عسكرية اجنبية وانه برتبة جنرال وانه قادم للمكان ليشعل هو ورفاقه الذين توافدوا للمكان تباعا بعربات الجيب الأجنبية حرباً سموها حرب التحرير وليس في أولوياتهم البتة مسائل مثل التعليم والعلاج وغيرها مما يتمسك ويحلم بها أهلهم ، لذلك يصاب الكواكيرو بخيبة أمل كبيرة ولايستمع أحد اليه والي أفكاره المناهضة للحرب وتبدو سلطته الروحيةتنهار امام القادمون الجدد بسندهم ودعمهم الخارجي وآليات حربهم وأحلامهم بالثروة والسلطة والثراء ، وفي النهاية تشتعل الحرب بين أهل المكان ومحاربيه التقليديين بقيادة الكواكيرو وبين القادمين الجدد علي صهوة الدبابات وعربات الجيب، فيخسر الكواكيرو حربه وتنتصر إرادة القادمين الجدد الذين يحشدون المكان لحروب طويلة وتنتهى الرواية نهاية دائرية بعودة المشهد الأول الافتتاحي كمشهد ختامى ، كأن المؤلف يقول ان الدائرة الشريرة مستمرة وان إرادة الشر انتصرت وان الانفصال بات واقعاً، وقد كان ما رآه الكاتب أفقاً بعيداً قد بات حقيقة موجعة فرضت نفسها فبات الوطن الواحد وطنين. وهو سيناريو قابل للتكرار مرات ومرات في السودان.
الرواية حافلة بالأساطير والخرافات والمكونات المحلية التى تشكل بانوراما المكان وسطوته علي فضاء الرواية مثلما هى تعج بكل أنواع الأشجار والحيوانات والزواحف والطيور  ذات الصلة بالمكان فالتماسيح حاضرة والحية حاضرة والذئاب  والنمورحاضرة والقطط والكلاب  والثعابين والسحالى والعناكب والقراد والقرود والأفيال والأسود وفرس البحر والجاموس الحمار الوحشي والمعزة البرية واشجار الجوغان والتك والمهوجنى والموز، هومهرجان فريد يمنح الرواية عمقاً وسحراً وملمحاً فريداً ويعزز سطوة المكان فيها. الرواية أثر أدبى وفنى فريد ومميز  وهى تعكس وجها من وجوه الثقافة السودانية البارزة وهو تعدد وتداخل الهويات الثقافية وتداخلها الطوعى والقسرى وأثره علي مجمل الحياة في السودان وهى بذلك حفر عميق علي جدار الثقافة السودانىة وجذورها تحتاجه هذه الثقافة الآخذة في التشكل ويحتاجه كل من يريد معرفة ملامح المجتمع والثقافة السودانية من الداخل.
صلاح الدين سر الختم على
مروى
الخامس من نوفمبر 2013

المراجع :
رماد الماء/ رواية/ عبد العزيزبركة ساكن/الطبعةالثانية /افاق عربية/الهئية العامة لقصور الثقافة.
أساليب السرد افي الرواية العربية/ د.صلاح فضل/ دار سعاد الصباح الطبعة الأولي 1992