(المفارقة دعوة لإعادة بناء المعاني المسكوت عنها في الكلام.)
قراءة النصوص الإبداعية فن وعلم جميل وملكة يتم تطويرها بالممارسة والإطلاع المستمر تماما مثل عملية الكتابة نفسها، فالنقد نص موازى يشتغل على نص آخر سابق له فى الوجود، وهو في خاتمة المطاف قراءة مستضيئة بأدواتها للنص، وأول تلك الأدوات هى وجود منهجية لقراءة النصوص وفهمها ومحاورتها واستنطاقها، ولاتتحقق تلك المنهجية الا إذا كان الناقد على إلمام بفنون الكتابة الإبداعية ومنهجية كتابتها بشكل عام ومنهجية الكاتب التى استخدمها فى كتابة النص أو النصوص موضوع الدراسة، وهذه المعرفة في الغالب تكون معرفة يقينية في بعض الجوانب ومعرفة تحليلية استنباطية فى بعضها لاتبلغ درجة اليقين وان بلغت درجة الترجيح.وهناك جانب ابداعى اصيل في الكتابة النقدية هو البصمة الشخصية للناقد وتذوقه وثقافته وإطلاعه وملكته وقدرته على التعبير عن نفسه وابراز مفاهيمه واستخلاصاته، هذا الجانب الأخير هو مايميز ناقد عن آخر، وهو ما يجعل الكتابة النقدية كتابة ملهمة وكاشفة أو كتابة باهتة لاتضيف شيئا للنص والقارئ وكاتب النص. وهى نفسها مايميز كتاب النصوص المبدعة عن بعضهم البعض.وتعتبر المفارقة هى حجر الزاوية في القص القصير والقصير جدا، ويشكل التعرف على المفارقة الموجودة بالنص مفتاحا جوهريا لفهم النص وقراءاته قراءة نشطة واستنطاقه وكشف مضمره، لذلك فان المدخل لقراءة النصوص هو كيفية التعرف على المفارقة وكيفية فهمها وفهم وظيفتها في بنية النص.للتعرف على المفارقة يجب بالطبع الإلمام بمعنى المصطلح وهو مسألة شائكة لكنها في النهاية واضحة ،ويجب على الناقد والقارئ انتهاج منهجية معينة للتعرف على المفارقة فى النص. وتتمثل العملية فيما يلى:
الخطوة الأولى: رفض المعنى الحرفى للنص: ينبغي على القارئ أن يرفض المعنى الحرفي، وليس أمرًا كافيًا أن يرفض القارئ هذا المعنى لأنه لا يوافق عليه، وليس كافيًا أيضًا أن يقوم بإضافة معانٍ أخرى من عنده. فإذا كان القارئ يقرأ قراءة دقيقة، فإنه لن يستطيع تجاهل هذا التنافر أو التعارض بين الكلمات وما يعرفه هو «أى القارئ». وفي كل الأحوال، فإن السبيل إلى معانٍ جديدة يمر عبر اقتناع صامت لا يمكن أن يتوافق مع المعنى الحرفي. وينبغي أن نلاحظ شيئين فيما يخص هذه الخطوة الأولى، وهما رفض افتراض ما، لأننا ينبغى علينا أن نرفض هذا الافتراض الصامت أو غير الواضح،. كما ينبغي على القارئ أن يتمكن من الإمساك بما يعتبره البعض مفاتيح خارجية.
الخطوة الثانية: التأويل البديل : يقترح القارئ تأويلات أو شروحًا بديلة، وسوف تكون كل هذه التأويلات متعارضة إلى حد ما مع المعنى السطحى الظاهر لما يقوله النص، ومن المحتمل أن تكون غير متوافقة، ولكنه بالتأكيد سوف يراجع نفسه. وربما يقول: إنها سقطة من الكاتب، أو أنه مجنون، أو قد مرَّ شىء في البداية لم ألاحظه، أو أن هذه قد تعني شيئًا لا علم لى به.
الخطوة الثالثة :التعرف على القصد المحتمل أو المرجح للكاتب:
وبناء عليه يجب أن نتخذ قرارًا بشأن معتقدات الكاتب، فعندما يقول فولتير: «إنها تمطر»، فإن ثقتنا في أن فولتير كان يستخدم المفارقة تكون عظيمة لدرجة ترقى إلى مرتبة الحقيقة، ونعتمد على قناعتنا بأنه مثلنا، يرى ويرفض ما تتضمنه العبارة «كلا الجانبين يستطيع أن يكسب الحرب نفسها». إن هذا الحكم على معتقدات الكاتب يتماشى مع تأويل المفارقة الثابتة Stable Irony ولا يتم إدراك المفارقة الثابتة بدون الوصول إلى هذا الحكم.
ونلاحظ أن الخطوتين الأولى والثانية في حد ذاتيهما لا تستطيعان أن تقولا إن العبارة بها مفارقة.
ولا يهم إلى أي مدى نكون مقتنعين اقتناعًا راسخًا بأن العبارة غير منطقية وغير معقولة وأنها محض زيف واضح. ويجب علينا أن نقرر: هل الأمر الذي نرفضه مرفوض أيضًا من وجهة نظر الكاتب؟ وهل للكاتب سبب منطقي يجعله يتوقع أن نتفق معه؟. من البديهي أن الكاتب الذي يثير اهتمامنا به ليس إلا الشخص المبدع المسئول عن الاختيارات التي صنعت العمل، وهو ما يسمى بـ «المؤلف الضمنى» Implied Author الموجود في العمل. والحديث عن «المغالطة المتعمدة» أو «المقصودة» حديث صحيح لكنه لا يستطيع أن يحل مشكلاتنا النقدية، فنطلب الكاتب على الهاتف ونسأله ماذا كان يقصد بعبارته تلك أو هذه. إن أفضل دليل على النوايا الخفية التي تكمن خلف أية عبارة في نص هو النص كله. ولأجل بعض الأهداف النقدية، سوف يكون من المعقول أن نتحدث عن مقاصد «النص» وليس عن مقاصد «الكاتب». ولكن التعامل مع المفارقة يجعلنا نشعر بأن الحكم - بشكل نهائي - على دعوتنا ما يزال متجسدًا في وعي الكاتب حينما نكون مدفوعين باتجاه التأويل الصحيح. وفي نهاية الأمر: ينبغي أن نقول إنه ليس من المنطقي أن يكون الكاتب قد وضع هذه الكلمات بهذا الترتيب دون أن يكون قد قصد هذه المفارقة الدقيقة.
الخطوة الرابعة/استنباط معنى جديد بواسطة الناقد
بعدما نكون قد اتخذنا قرارًا بشأن معرفة ومعتقدات الكاتب أو المتحدث، نستطيع في نهاية الأمر أن نختار معنى جديدًا أو نختار حزمة من المعانى التي نشعر معها بالاطمئنان. وعلى عكس الافتراض الأوَّلى، فإن المعاني التي يعاد بناؤها يجب أن تكون متوافقة مع المعتقدات الخفية غير المعلن عنها التي قرر الكاتب أن يعزوها إلى المؤلف. وهنا تلعب ثقافة الناقد وقدراته وخبراته والمامه بالموضوع وبيئة النص دورا كبيرا فى تاويل النص وترجيح هذا المعنى أو ذاك، ويجب الوضع فى الاعتبار ان شرط الاجادة في استنباط معان جديدة ليس هو موافقة الكاتب على التأويل أو رفضه، بل العبرة بمنطقية التحليل حسب عبارة النص وظروف انتاجه، وقد يكشف الناقد معان خفية حتى على كاتب النص نفسه ، وتلك هى ميزة من ميزات النقد الأمين العميق. إن استنباط المعانى الخفية المضمرة هو فى حد ذاته عملية انتاج لنص جديد واعادة انتاج لنص مقروء، وحتى عملية إعادة الإنتاج في الحقيقة هى إبداع أصيل للناقد مثلها فى ذلك مثل عملية بناء لحن موسيقي لقصيدة ليست للملحن ومثلها مثل اداء المغنى للقصيدة واللحن ففى العمليات الثلاث هناك بصمة شخصية لكل من الناقد والملحن والمغنى وهناك منتوج إبداعى خاص به لايلغيه كونه يشتغل على نص آخر. وهذا هو مايعرف بالحقوق المجاورة فى الملكية الفكرىة. ومثلما تتطلب كتابة النصوص الإبداعية المقرؤة ثقافة عالية وإلماما بشروط انتاجها من كاتبها ، تتطلب ذات الشئ مضافا اليه ملكة خاصة وذائقة نقدية ومعارف مفهومىة لدى الناقد تمكنه من فك شيفرة النص ومحاورته وإستنطاقه.
تعريف المفارقة:
مصطلح المفارقة،وهي أن تفهم لفظ على عكس معناه أو تكّوِّن فكرة عن شيء على عكس حقيقته .والمفارقة فيما شرحه البعض ‘إنها تشبه التورية ولا تماثلها. أن مفهوم المفارقة ليس جديدا لا على النقد الغربي ولا على الثقافة العربية . تعتبر المفارقة من أهم مقومات النص الإبداعي ، خاصة في الرواية والدراما. سواء كانت مفارقة في اللغة بين الدال والمدلول والدلالة؛ أقصد مرونة الدلالة بين اللفظ والمعنى. أو مفارقة في الموقف بين التصور أو المعرفة والفهم لعكس الحقيقة . أو مفارقة في الحركة بين الحركة الطبيعية للإنسان والحركة غير الطبيعية ،سواء كانت آلية أو حيوانية أو معوقة ( و هذه عادة توظف في الكوميديا ). وكما تقع المفارقة ـ بأنواعها ـ في المأساة ، تقع أيضا في الملهاة ..
.عند الرجوع إلى «قاموس أكسفورد» وجدناه يشير إلى أن مصطلح(Irony ) مشتق من الكلمة اللاتينية (Ironia) التي تعني التخفي تحت مظهر مخادع، والتظاهر بالجهل عن قصد، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
١- هو شكل من أشكال القول يكون المعنى المقصود منه عكس المعنى الذي تعبر عنه الكلمات المستخدمة، ويأخذ - عادة - شكل السخرية حيث تستخدم تعبيرات المدح، وهي تحمل في باطنها الذم والهجاء.
٢- نتاج متناقض لأحداث كما في حالة السخرية من منطقية الأمور.
٣- التخفي تحت مظهر مخادع أو الادعاء والتظاهر، وتستخدم الكلمة - بشكل خاص - للإشارة إلى ما يسمى بـ «المفارقة السقراطية» من خلال ما عُرف بفلسفة السؤال، وكان سقراط يستخدمها ليدحض حجة خصمه.
أما «معجم تاريخ الأفكار» فإنه يعرف ((Irony)) بأنها ذلك التصارع بين معنيين الذي يوجد في البنية الدرامية المتميزة لذاتها: بداية؛ المعنى الأول هو الظاهر الذي يقدم نفسه بوصفه حقيقة واضحة، لكن عندما يتكشف سياق هذا المعنى، سواء في عمقه أو في زمنه، فإنه يفاجئنا بالكشف عن معنى آخر متصارع معه، هو في الواقع في مواجهة المعنى الأول الذي أصبح الآن وكأنه خطأ، أو معنى محدود على أقل تقدير، وغير قادر على رؤية موقفه الخاص.يمكن التلخيص من عندى وحسب تجربتى مع الكتابة القصصية والكتابة النقدية بأن المفارقة هى الحيلة الفنية التى يستخدمها كاتب النص ، كوسيلة لغاية جوهرىة هى توصيل رسالة النص الخفية، عن طريق اخفائها خلف مظاهر خارجية تقول الشئ وتقصد قول ضده أو قول شئ خفى لم يصرح به النص،ولو صرح به النص فقد عنصرا الإثارة والمشاركة، وهما عنصران لايكتمل القص وهدفه بدون تحققهما، فالقاص في القول الشفوى والمكتوب لابد له من قارئ ومستمع، بدونهما يصبح قوله هراء ومناجاة للذات، لذلك تعمل المفارقة على جذب القارئ والمستمع للنص من خلال إثارة فضوله وتشجيع تفكيره وحفز خياله للإنطلاق فى عملية تفاعل مع النص ينفتح فيها خياله على النص ، فيضيف خياله للنص أبعادا جديدة ربما لم تخطر ببال مبدع النص نفسه عند الكتابة، وبذلك يتحقق التنوير والكشف وتمسى عملية الكتابة والقراءة مغامرة جماعية مشتركة لاحدود للذتها ومضمرها الذى يستنطق ويكتشف فى كل قراءة جديدة، فكل قراءة جديدة للنص المبدع بالضم للميم هى ولادة جديدة له وبعث جديد على يد قارئ جديد.
عناصر المفارقة:
للمفارقة عند النقاد ثلاثة عناصر تميزها:
١- تضاد المخبر والمظهر
The Contrast of Reality and Appearance
حيث نجد أن صاحب المفارقة يقول شيئًا لكنه في الواقع يقول شيئًا آخر مختلفًا تمامًا، وضحية المفارقة مطمئن إلى أن الأمور هى على ما تبدو عليه ولا يحس أنها حقيقة مختلفة تمامًا؛ إذ إن المفارقة تتطلب تضادًا أو تنافرًا بين الحقيقة والمظهر وأنها تكون أشد وقعًا عندما يشتد التضاد.
٢- العنصر الكوميدي The Comic Element
هذا العنصر الكوميدي يكمن في الخصائص الشكلية للمفارقة: التضاد أو التنافر الأساسى بالإضافة إلى غفلة مطمئنة فعلية أو مصطنعة. وليس هناك امرئ يناقض نفسه عن قصد (إلا عندما يريد حل تناقض على مستوى آخر: الأمر الذي لا يكون فيه تناقض فعلى)؛ وينجم عن ذلك ظهور تناقض مقصود يقيم توترًا نفسيًا لا يسرى عنه سوى الضحك. ويحدث أن يكون العنصر الكوميدى ضعيفًا في بعض أمثلة المفارقة إذ يكون العنصر المؤلم شديدًا، لكن المفارقة قد تكون أكثر تأثيرًا إذا اجتمع فيها العنصر الكوميدى والعنصر المؤلم.
٣- عنصر التجرد The Element of Detachment
وهو يوجد أحيانًا في الأسلوب المصطنع لدى صاحب المفارقة، وأحيانًا يوجد في الموقف الفعلى لدى صاحب المفارقة أو المراقب المتصف بها.
أما ميوك فقد قسم المفارقة في كتابه «مجال المفارقة» The Compass of Irony عدة تقسيمات انطلق بعضها من ناحية الأنواع أو الأنماط، وبعضها من ناحية درجاتها، وبعضها من ناحية الطرائق والأساليب، وبعضها من ناحية تأثيرها، والبعض الآخر من ناحية الموضوع.
وهي تنقسم عنده إلى مفارقة لفظية ومفارقة موقف.
المفارقة اللفظية Verbal Irony
وقد ذكر منها نمطين، أطلق على الأول منهما: أسلوب «الإبراز»
High - Relief، أما الثاني فقد أطلق عليه: أسلوب «النقش الغائر» Intaglio.(24)
كما قسم مفارقة الموقف Situational Irony إلى خمسة أنماط هي:
١- مفارقة التنافر البسيط Irony of Simple Incongruity
هذه المفارقة في أبسط أنواعها وأشكالها تكون غير معقدة من جانب تقديم الحدث أو الشخصية أو وجود مفهوم للضحية. وتتحقق مفارقة التنافر البسيط حينما يكون هناك تجاور بين ظاهرتين بينهما تنافر شديد، يمكن إدراكه بسهولة.
٢- مفارقة الأحداث Irony of Events
تتحقق مفارقة الأحداث عندما يكون هناك تناقض أو تعارض بين ما نتوقعه وبين ما يحدث وحينما يكون لدينا وضوح أو ثقة فيما تؤول إليه الأمور، لكن تسارعًا غير متوقع للأحداث يغلب ويخيب توقعاتنا أو خططنا.
٣- المفارقة الدرامية Dramatic Irony
ارتبطت المفارقة الدرامية بالأساس بالمسرح، فهى متضمنة بالضرورة في أي عمل مسرحى، لكن هذا لا يعنى عدم وجودها خارج المسرح، وهى تكون أبلغ أثرًا عندما يعرف المراقب ما لا تعرفه الضحية.
كذلك تتحقق المفارقة الدرامية عندما يعرف المراقب ما لا تعرفه الضحية. وهذا النمط من المفارقة متداخل بشكل أو بآخر مع ما يعرف بمصطلح «مفارقة الأحداث». ولكي يفرق ميوك بينهما، يضرب مثلاً بالمدرس الذي قام بترسيب طالب في الامتحان، في الوقت الذي ظل فيه الطالب يعلن بيقين تام، أنه أدى الامتحان بشكل جيد، وأنه يتوقع النجاح دون شك، فالحالة هنا تمثل حالة مفارقة، ولا يوجد بالنسبة للآخرين شىء من هذه المفارقة إلا بعد أن تظهر نتيجة الطالب.
وعلى هذا الأساس يتم التفريق بين المفارقة الدرامية ومفارقة الأحداث. فمفارقة الأحداث تتحقق بظهور خيبة أمل الضحية (ويمثلها الطالب هنا) بينما المفارقة الدرامية موجودة قبل ظهور النتيجة.
ويرجع ميوك اختياره لهذا المصطلح دون غيره، لكونه يبدو بالنسبة له أكثر ملاءمة وأقل حيادية من أية مصطلحات أخرى يمكن أن نطلقها.
٤- مفارقة خداع النفس Irony of Self - Betrayal يشير ميوك إلى أن هذا النوع من المفارقة تم تجاهله من قبل المتخصصين في المفارقة، وأنهم ربما قد فشلوا في التمييز بينه وبين المفارقة الدرامية. ويتمثل هذا النوع من المفارقة حينما يكشف شخص ما بشكل - غير واعٍ - جهله أو ضعفه أو خطأه أو حماقته بما يقول أو بما يفعل وليس بما يحدث له. وقد وجد هذا النوع في الدراما الإغريقية ومحاورات أفلاطون ولوسيان. كذلك وجد في أعمال شكسبير وموليير.
٥- مفارقة الورطة Irony of Dilemma
يذهب ميوك إلى أنه يوجد في هذا النوع من المفارقة مستويان. المستوى الأدنى، وتكون فيه ضحية المفارقة، والمستوى الأعلى، ويكون فيه صاحب المفارقة، أو المراقب. وهذان المستويان يتعارض أحدهما مع الآخر، حيث تأخذ المفارقة فيه أشكال التناقض الظاهري أو المنطقي أو شكل الورطة.
وقد قسم ميوك المفارقة من ناحية الدرجات إلى ثلاث: صريحة وخفية وخاصة، ورأى أن المفارقة المركبة هي التي تكون داخل مجموعة من المفارقات، وهي تشبه العبارة التي توجد داخل جملة مركبة. وأن درجات المفارقة الثلاثة، يتم تحديدها حسب درجة ظهور المعنى الحقيقي:
أ- المفارقة الصريحة Overt Irony
يكون فيها الضحية Victim أو القارئ Reader أوكلاهما على وعي وإدراك بالمعنى الحقيقي الذي يعنيه صاحب المفارقة ويدركانه في الحال. وما يميز (المفارقة الصريحة) هو ظهور التنافر أو التناقض فيها بشكل واضح.
ويرى ميوك أن السخرية Sarcasm يمكن أن تكون أكثر أشكال المفارقة قسوة، لكنه يشير إلى أنه ليس كل سخرية مفارقة. وهذا قول مهم جدا نذكر به من يظنون ان النكتة مطلقا هى قصة قصيرة ويتجاهلون أركان القصة القصيرة والقصيرة جدا.
وهناك أشكال من السخرية، لا تعد من المفارقة. ويضرب ميوك مثلاً على ذلك: عندما يقول الأستاذ: حسنًا... بالطبع لم أكن أتوقع منك أن تصل إلى الإجابة الصحيحة، يعد هذا القول قولاً ساخرًا وليس من المفارقات. فنبرة الساخر هنا، تظهر المعنى الحقيقي - بشكل واضح - لا يقبل التردد، بحيث لا يغدو من الممكن التظاهر بأنه لا يعي قصده في ذلك المعنى، بينما نجد أن من شروط المفارقة الإحساس بقوة المعنى الظاهر والحقيقي معًا.ب- المفارقة الخفية Covert Irony
يتميز هذا النوع من المفارقة بخاصية التعمد في إخفائها وجعلها غير مرئية، وصاحب المفارقة فيها يتجنب أية إشارة من شأنها أن تكشف مفارقته بشكل مباشر وواضح، سواء أكانت هذه الإشارة في النغمة أم السلوك أم الأسلوب. فهو يحاول أن يمرر ما يريد أن يقوله دون أن يُكتشف. والمفارقة الخفية ربما تكون هي الأفضل والأكثر ملاءمة للتعبير، وغالبًا ما يتم ذلك عن طريق استخدام التعليقات والمقتطفات القصيرة. لكن هذا النوع من المفارقة يفقد قوته إذا صار مبهمًا أو طويلاً أو مسهبًا، كما أنه يعتمد أكثر على فطنة القارئ وذكائه.
المفارقة الخاصة Private Irony
تكمن غالبًا المفارقة الخاصة وراء المفارقة الخفية، وليس الهدف منها أن تدركها الضحية أو أي شخص آخر، والكاتب الذي ينخرط في «المفارقة الخاصة» ينبغي عليه أن يمتلك دليلاً خارجيًا أو إضافيًا يستخدمه هو - وحده - بصورة متفردة؛ فهو يستطيع أن يمتدح أحد رجال السياسة علانية، وهو يعرف أن هذا السياسي يمارس الفساد، و يكون هذا الكاتب قادرًا على الاعتماد على ضحيته التي ليس بإمكانها رؤية هذا التناقض الداخلي
أما «واين بوث» Wayne C. Booth في كتابه المهم «بلاغة المفارقة» The Rhetoric of Irony فإنه يركز جهوده التطبيقية على ما يدعوه بالمفارقة الثابتة Stable Irony. ويستبعد في دراسته المفارقات غير اللفظية Non Verbal Irony، وكل المفارقات الكونية Cosmic Ironies، ومفارقات القدر Ironies of fate ومفارقات الحدث Ironies of Event.)
ورغم أن «واين بوث» يعترف في هذه الدراسة هو الآخر، بصعوبة مصطلح المفارقة، ويرى أنه موضوع يتسم بالغموض إلى حد بعيد، إلا أنه يعترف بأهمية الموضوع.
ويقدم «بوث» نماذج متعددة من الأمثلة على المفارقة الثابتة التي يجعل لها أربع خصائص تميزها هي:
١- أن المفارقات كلها مقصودة، وهي أُبدعت أو «خُلقت» بواسطة كائنات بشرية كي تُسمع أو تُقرأ ولكي تُفهم بالدقة نفسها من قبل كائنات بشرية أخرى. فهي ليست مقدمات، جاءت عفوية، أو تعبيرات جاءت بمحض المصادفة، تسمح لمن يبحث عن المفارقة أن يقرأها على أنها انعكاسات لأفكار في مواجهة المؤلف.
٢- أن كل أشكال المفارقة الثابتة خفية، حتى يتم إعادة بنائها بمعانٍ مختلفة عن المعاني السطحية، فهي ليست محض تعبيرات صريحة مثل: «إنه من المفارقة أن...» أو أية إشارة مباشرة مثل القول بأن«هذه الأشياء» ترجع إلى المفارقة أو أنه عالم ذو مفارقة.
٣- وهي كذلك تتصف بالثبات، بمعنى أن إعادة بناء المعنى بمجرد أن يوُضع، فإن القارئ ليس مطالبًا بأن يقوِّضه أو يُحرِّفه بوسائل تدمره. وإذا ما اختار القارئ أن يفعل، فإنه بذلك يحول أي نوع من المفارقة الثابتة إلى مفارقة غير ثابتة. لكننا طالما سوف نأخذ العلاقة الأولى على محمل الجد، فإنه ينبغي علينا أن نبقى مهتمين فقط بالمفارقة المقصودة.
٤- وهي كذلك أيضًا محددة عند التطبيق، على عكس تلك المفارقات غير المحددة منها، الثابتة أو غير الثابتة.
ويعتقد بوث أن هذه العلامات الأربع التي تميز السخرية الثابتة تفتح أمامنا موضوعًا يمكن دراسته بشكل متعمق، حيث إن هذه العلامات لا تميز بوضوح بين المفارقة والمقاصد الأخرى المقصودة وغير الحرفية والمضللة. وهي دعوة لقراءة ما بين السطور. وثمة حيل لفظية كثيرة: «تقول شيئًا» وتعنى «شيئًا آخر»، وبذا فهي تدعو القارئ لإعادة بناء المعاني المسكوت عنها في الكلام.
ملخص الدراسة:
تلخيصا يمكن القول ان المفارقة في القصة القصيرة جدا هى الركن الجوهرى في نسيج القصة وتركيبتها وهى التى تدفع بالمغزى من القاع الى السطح ومن السفح الى القمة ومن العتمة الى الضوء، وهى التى تكسب السرد القصير جدا حيويته الدافقة وحركته وسحره وهى التى تدفع بفضول القارئ وشغفه الى أبعد الحدود الممكنة وتجعله يتفاعل مع النص تفاعلا يملأ الفراغات والمساحات بين خياله وخيال المؤلف فتنفتح مخيلته على النص باتساع لاحدود له، فتمسى القراءة عملية ممتعة وكاشفة وساحرة ومشروعا مشتركا بين الكاتب والقارئ ، مشروعا يجعل النص متجددا ومنفتحا على آفاق جديدة مع كل قراءة جديدة له. ومن المهم جدا القول ان كل قارئ في علاقته بالنص ناقد ولو لم يقرأ حرفا فى النقد، وكل كاتب في علاقته بنصه هو الناقد الأول له، لكنه ليس الأفضل، كونه ليس محايدا فى قراءته وشرحه أحيان يكون من داخله هو وليس من داخل النص . وأظن كل قارئ للدراسة ربما يراجع منهجيته فى النقد فيندهش كونه كان ملما بالمنهجية بالسليقة دون إلمام بالقوانين النظرية وتفسير ذلك هو أن كل كاتب هو قارئ وكل قارئ ناقد بالسليقة.
في الجزء الثانى من هذه الدراسة سنتناول بعض النماذج القصصية بالتطبيق لما تقدم ذكره من أحكام نظرية بشأن المفارقة ومنهجيتنا في قراءة النصوص.
صلاح الدين سر الختم على
مروى19 نوفمبر 2013
١- The Shorter Oxford English Dictionary on Historical Principles, Prepared By William little, H. W. Fowler, J. Coulson, Revised and Edited by C.T. Onios, Oxford, At the Clareendon Press, (1956), p.1045
٢-Dictionary of the History of Ideas, Studies of Selected Pivotal Ideas, Volume ?, Charles Scribner s Sons, New York, (1973), p. 626Muecke, D. C; Irony and The Ironic, Methuen, London and New York, (1982)
- Booth, Wayne c; The Rhetoric of Irony, Chicago: University of Chicago Press, (1975); p
No comments:
Post a Comment