Saturday, October 11, 2014

نص تحت مجهر النقد (دقيقة حُب) للكاتب / بسام الأشرم


نص يجسد(قصة المشهد) في أروع تجلياتها
أبدع الكاتب في تصوير التقاء عالمين في لحظة عابرة فكل منهما عابر في حياة الآخر!!
في قصته (دقيقة حب) يقدم القاص بسام الأشرم لوحة نابضة بالحياة ،لوحة مكتوبة بعناية كقصة قصيرة على قالب نوع من القصة تعرف بقصة المشهد أو الاسكيتش ازدهرت في منتصف القرن الماضى في بريطانيا و الولايات المتحدة الأمريكية ومن ثم عرفت طريقها للعالم العربي فيما بعد،وتقوم قصة المشهد على تقديم القصة في شكل مشهد مقتطع بعناية يجسد لحظة بالغة التعقيد في حياة انسان أو جانبا من حياة شخص أو مجموعة زلايكون في القصة بداية وذروة وعقدة وحل كما هو الحال في القصة التقليدية، بل تعتمد قصة المشهد على الايحاء بالمغزى عبر المشهد أو المشاهد المقدمة مجتمعة. قصة المشهد او الاسكيتش وهي نوع من القصة يعتمد علي الايحاء بالمعني عبر اقتطاع لحظة او مشهد من الحياة عامة او حياة شخص او جماد او حيوان وتتميز قصة المشهد بالتحرر من القالب التقليدي للقصة أي الذروة والعقدة ولحظة التنوير ويحل المشهد مكان ذلك القالب،والفكرة ان المغزي يكمن في المشهد كله.وهذا النوع من القصة انتشر في امريكا وانجلترا في نهاية الخمسينات ومن أبرز كتابه كاثرين مانسيفلد* وعندنا في السودان من كتابه الطيب زروق وعبدالله علي ابراهيم واحمد الامين البشير والزبير على.
في قصة (دقيقة حب) ثلاث مشاهد مختارة بعناية ، المشهد الأول يقدم فيه القاص بطل القصة وهو صبى فقير يعمل بائعا متجولا برغم انه طالب مجد:
(و راح يقفز مسرعاً مُتنقلاً من سائق الى سائق مُحاولاً استغلال كل ثانية من زمن تَوَقُّف الشارة المرورية في ساعة شمسٍ عمودية ليومٍ تموزيّ مُلتهب و طبقة من غبار المكان و عوادِم السيارات قد كَسَت شعره الذهبي الناعم و عرقٌ غزيرٌ يصُبُّ من جبهته في عينيه صَبّاً ..
فتراه يحاول تجفيفهما بِكُمِّ قميصه البالي ، و قدميه الحافيتين تشتكي
حَر الأسفلت المتوهج و أصابعه الصغيرة تقبض على علبة بسكوت
من النوع الرديء علَّه يجد سائقاً يُلبي نداءه قبل أن تفتح الشارة المرورية ..
(( بسكوت .. ؟ تشتري بسكوت .. ؟ بسكوت بسكو ... )
هذا الوصف الدقيق للصبي هو في الحقيقة وصف للعالم الذى ينتمى اليه( عالم الفقر المدقع والحاجة التى تسحق من يرزح تحت نيرها سحقا لاهوادة فيه ولارحمة)، يبدع الكاتب في الوصف وتصوير شقاء الصبي، فاليوم يوم من أيام الصيف الملتهبة،ومع ذلك يركض الصبي حافيا على الأسفلت محاولاً مسابقة اشارة المرور لبيع شيء من بضاعته لأصحاب السيارات العابرة قبل تغير الاشارة وتحرك السيارات.والصبي وحيد يكابد أقداره وهو حافى الأقدام وعارى الرأس مما يقيه أشعة الشمس. وسباقه مع الإشارة هو رمز لسباق الإنسان في الحياة مع الأقدار.
المشهد الثانى:
من ثم ينقلنا القاص بذكاء مستخدما عين الصبي ككاميرا الى العالم (الآخر) الذى تمثله الصبية (جميلة))
(و فجأة توقف عن القفز و النداء ، و نسيت قدماه توهج الأسفلت و راح
يتأملها من خلف زجاج نافذة المقعد الخلفي لإحدى السيارات الفارهة
المتوقفة بإنتظار تَغَيُّر لون الشارة المرورية ، و راح يُحَدِّث نفسه مُحاولاً
بلع ريقه الذي جَفَّ إلى حَدِّ التَقَطُّع ..
( إنها في مثل عمري .. فأنا في الصف الخامس الإبتدائي و ربما هي
مثلي .. و لكنها ترتدي ثياباً جميلةً و أنا لا .. و هي جالسة على أريكةٍ
مُريحةٍ و جهاز تكييف يضُخُ عليها البردُ ضَخّاًو أنا أقفز على أسفلت متوهج
و من حولي نار الشمس تشويني شوياً و هي تشرب المثلج و ربما
ما هي بِعطشى و حلقي يكاد يتقطع ظمأً ، يا إلهي ..أنا الأول على
فصلي و لا أظنها مثلي ، و لكن .. و لكنها جميلة .. ربما أجمل مني ..)
و دون شعورٍ منه راح يقترب من زجاج نافذتها حتى تَوَقَّفَ بمحاذاتها
ناظراً إليها مُتأملاً لِتنتبه إليه .. تتوقف عن الشرب من زجاجتها المثلجة ..
تتأمله ..تُحَدِّث نفسها: ..
( مامي .. ! ما أجمل هذا الولد .. ! و لكن لماذا يقف تحت الشمس
المُحرقة ؟ و ما هذا القميص المُمَزَّق و ماذا يفعل بعلبة البسكوت
التي يُمسك بها ؟)
هنا يستخدم الكاتب تقنية المقابلة أو المقارنة بينن ( العالمين) عالمها وعالمه، فهى تجلس داخل سيارة مكيفة تقيها شر الحر وأشعة الشمس وليست مثله هائمة في العراء، وأقدامها لاتلامس الأسفلت حافية مثله،وهى ترتدى ثيابا جميلة وهو يلبس ملابس بالية رثة،وهو ظامئ وهى تشرب المثلجات، وثمة جدار بينهما، صحيح انه شفاف يسمح لكل منهما برؤية الآخر، لكنه جدار حقيقي بين عالمين، يصوره الكاتب عبر الإشارة الى زجاج السيارة وفتحها له ثم اغلاقها له تحت تأثير الأب الارستقراطي الذى شكا افساد الزجاج المفتوح لمتعة التكييف،ويستخدم الكاتب التساؤلات التى تلمع في ذهن الصبي والصبية كوسيلة لإبراز الهوة بين العالمين والفوارق بينهما . فحين تتساءل الصبية:(مامي .. ! ما أجمل هذا الولد .. ! و لكن لماذا يقف تحت الشمس المُحرقة ؟ و ما هذا القميص المُمَزَّق و ماذا يفعل بعلبة البسكوت التي يُمسك بها ؟)
تبدو كمن شاهد انسانا قادما لتوه من القمر، فهى لاتعرف العالم خارج زجاج سيارتها، ولاتعرف كيف يعيش مثل الصبى (جميل) اليتيم الذى لايتمتع مثلها بدفء العائلة، فوجودها في سيارة مع عائلتها ووجوده في العراء بلا عائل، هى مقابلة أخرى بين العالمين ، عالمان التقيا في حر الظهيرة لثوان معدودة عند إشارة مرور، ثم أختفى كل منهما عن نظر الآخر كالحلم بالنسبة للصبي ، وكالكابوس بالنسبة للصبية. هكذا كان اللقاء لقاء
( جميل وجميلة)،وكانت المسافة واسعة بين عالمها وعالمه،عالمها البلورى المحمى بالتكييف والزجاج،وعالمه تحت الشمس بلا حماية،
عالمها عالم الرفاهية والكماليات والترف والنظر للناس عبر الجدار،عالمه عالم الافتقار الى الضروريات والركض تحت الشمس وانتظار فرص ضيقة لكسب الرزق، فرص مهددة بإشارة المرور وعمرها القصير الذي لايسمح بإبرام صفقة تفتقر لمقومات النجاح فركاب السيارات الفارهة لن يشتروا بسكويت الفقراء ولو وقفت سيارتهم النهار بأكمله في الاشارة. هى سيارات عابرة بأناس عابرين لاتأبه لهم كثيرا، لاتعطيهم سوى أسوأ ماعندها( دخان عوادمها) فقط. لذلك فان اللقاء يكون مستحيلا ويكون عبر الحواجز والأسلاك الشائكة والجدر الفاصلة كما صوره الكاتب في المشهد الختامى الذى يحكم فيه على امكانية التواصل بين العالمين بالإعدام:
(و دون شعورٍ منها راحت تُنزِل زجاج نافذتها ليتقابل وجهاهُما ..
يكادان يتلامسان ، تسأله ..
( شو إسمك ؟ )
( جميل )
مامي .. ! و أنا جميلة ..بأي صف أنت ؟ )
( خامس )
( ياي .. ! و أنا خامس مثلك .. مِش عطشان و إنته تحت الشمس ؟ )
( عطشان )
تَمُد إليه زجاجتها المثلجة
( إشرب )
( لا .. شكراً )
( إنته ليش ماسِك البسكوت و واقِف هان ؟ )
( عشان فِشي عِندنا خبز و طبيخ )
( آه .. قصدك يعني بابا ما راح على السوبرماركت اليوم ؟ )
( أبوي مات من زمان )
( إرفعي الزجاج أضعتي التكييف يلا .. )
صاح بها والدها و عيناه تَرقُبان الشارة المرورية مُتَحَفِّزاً للإنطلاق ..
فَتُسارِع بِرفع الزجاج حتى تغلقه و تضغط جبهتها و أرنبة أنفها و شفتاها
على الزجاج الحائل بينها و بينه لِيدنو رويداً رويداً بِجبهته و أرنبة أنفه
و شفتاه حتى ألصقهما بالزجاج الذي تحوَّل لِفاصِل شفاف بين الجِباه و الشِفاه و يسيل اللعاب على الزجاج من شفتيها و في شفتيه ما مِن لُعاب
..
و تغمُره السيارة فجأةً بِغيمةٍ من عادمها الأسود مُنطلقة كالسهم إلى عالمها ، لِيبقى مكانه تحت الشمس يتأملها و هي تَتَوارى وسط الزحام) .
هذه الدقيقة في الحقيقة ليست دقيقة حب، بل هى دقيقة إثبات ذات، فهو قال لها عبر هذه الدقيقة ان عالمها البلورى عالم زائف لا يمكنه أن يلغى وجود عالمه الحقيقي بكل جراحه وندوبه ومعاناته، وهى قالت له عبر هذه الدقيقة أن ثمة عالم آخر موجود خارج الدائرة الشريرة الى يرزح فيها، عالم شفاف محروس بالإشارات الفاصلة بين العالمين ( عالم الحفاة الراجلين وعالم الأثرياء المتخمين الراكبين على رقاب البشر)، عالم محمى بالفواصل والجدران والزجاج، عالم لايتنازل أصحابه عن رفاهيتهم لثانية واحدة لصالح ضحايا العالم الآخر( والدها لم يطق فتحها للزجاج ثوان معدودة لأن الانفتاح على من هم تحت الشمس أفسد عليه متعة التكييف)!! فإن كانت هى لاتزال بمقدورها رؤية جميل ولو عبر الزجاج فإن والدها لايري فيه سوى ذبابة تطن في أذن فيل ولفحة حر تفسد عليه متعة التكييف.
هكذا يحكم بسام الأشرم رسم لوحته البديعة ويبوح من غير بوح، مكتفيا بعرض المشهد من الخارج ومن داخل أغوار النفس البشرية لبطليه( الطفل والطفلة) اللذان يبدوان أسيرين لواقع ليسا مسؤلين عنه، فهو مسجون في العراء وهى مسجونة في قفص من ذهب منهوب من عالمه الذى يرزح تحت الشمس والفقر والبؤس.عبر المشاهد الثلاثة يدعو الكاتب القارئ للتعرف على مايجري تحت سمعه وبصره كل يوم دون التوقف عند مغزاه، إنها دعوة الى فضح القبح في عالمنا المعاصر عبر دقيقة واحدة هى نصيب (جميل وجميلة) اللذان يرمزا للمسقبل من الجمال في عالم يمشي القبح فيه على قدمين. القصة ذكرتنى بقصة رائعة للقاص السودانى الرائد( الزبير علي) اسمها( البرميل) نشرت في الستينات في مجلة القصة السودانية تنتمى لقالب القصة المشهد تحكى لحظات في حياة أطفال مشردين في قلب العاصمة الخرطوم يتشاجرون حول محتويات برميل قمامة بجوار معرض أنيق في شارع فخم بالخرطوم، المقارنة بين العالمين نفسها موجودة، وهذا التناص يشير بجلاء الى أن هموم المثقفين والكتاب واحدة مهما اختلفت البلدان والأزمان.القصة تعكس اهتماما أصيلا لدى الكاتب بأحوال الناس من حوله وغوصه عميقا في إشكاليات عصره وهمومه وما يميزه هو هذه البساطة العبقريةفي تصوير الواقع في صور صغيرة مكثفة غنية بالدلالات.
يبقي من المهم القول بأهمية الصورة في السرد الحديث الى الحد الذى دفع فيلسوفا معاصرا للقول:** (فالصورة الشعرية، حين تبدو كائنًا جديدًا من كائنات اللغة، فإنها لا تقارَن، وذلك باتباع طريقة الاستعارة الشائعة، مع صمام ينفتح ليطلق غرائز مكتومة. فالصورة الشعرية تضيء بنورها الوعيَ. وإنه لمن العبث أن تبحث لها عن سابق في اللاوعي. )
صلاح الدين سر الختم علي
الخرطوم
الحادى عشر من اكتوبر 2014
المراجع:
1/(قصة دقيقة حب) للكاتب بسام الأشرم/ منشورة بمجموعة نون وقاف الالكترونية.
2/ بحث لكاتب السطور عن القصة القصيرة بالسودان نشر بصحيفة الصحافة السودانية.
3/ قصة (البرميل) للكاتب السودانى/ الزبير على/ منشورة بمجموعة النازحان والشتاء القصصيةوبمجلة القصة السودانية 1960 .
* كاترين مانسفيلد(1888 ـ 1923م). كاتبة بريطانية. تُشبَّه بالكاتب الروسي أنطون تشيخوف في تملكها لناصية الكتابة في مجال القصص القصيرة. وتعد معظم كتاباتها دراسات عن الطفولة مستقاة من تجاربها الشخصية في سنواتها الأولى، عندما كانت في ولنجتون بنيوزيلندا. وقد اتخذت من نفسها ومن شخصية أخيها نماذج، أو رموزًا لشخصيات قصصها.
نشر لكاترين قصص بعناوين: في بنسيون ألماني (1911م)؛ استهلال (1918م)؛ السعادة (1920م)؛ حفل الحديقة (1927م)؛ المجلة (1927م). وهذه القصص تقدم صورة عن أفكارها وتطور كتاباتها.
وُلِدَت كاترين مانسفيلد باسم كاثلين مانسفيلد بوشامب بولنجتون في نيوزيلندا، وبدأت نشاطها الأدبي بعد انتقالها إلى بريطانيا عام 1908م. وقد عانت من داء الدرن وقضت معظم وقتها بين المستشفيات والمصحات.
**غاستون باشلار. (شعرية حلم اليقظة )- يعتبر «غاستون باشلار» اهم فيلسوف في القرن 20 ذلك بأبحاثه الابستملوجية التي أسست خطاباً جديداً تم بمقتضاه القطع مع التصورات السابقة. سواء في تاريخ العلم أو في تكوين المعرفة العلمية وفتح من خلال نحته لمفاهيم إجرائية جديدة أبواباً متسعة لمفكرين آخرين في مجالات علمية متعددة. ولأن هذا الزخم المعرفي والمفاهيمي الذي حوطنا به وارتبط اسمه في أكثر الجامعات بريقاً هو المجال الابستملوجي الذي كان احد اقطابه الأساسيين.

Wednesday, October 8, 2014

تقنية النهاية المتوهجة في القصة القصيرة جدا(د.مصباح حجاوي) أنموذجاً

نصوص تحت مجهر النقد

مقدمة: للبداية في القصة والرواية أهمية فنية كبري، فهى الوسيلة الفنية التى يضمن بها الكاتب عملية الانتقال بالقارئ من خارج النص الى داخله،ويجب القول ان الأهمية نفسها  تتوفر لكل مفصل من مفاصل النص المبدع بضم الميم، سواء تعلق الأمر بعتبات النص(العنوان،صورة الغلاف، الإهداء)أو بعنصري البداية والنهاية، للبداية وظائف مهمة:(افتتاح النص،جذب إهتمام القارئ( وظيفة الإغراء)، وضع الخيال على مسرح الحدث، بناء العالم الخيالي، تحريك القصة.)
بالنسبة للنهاية يعرفها النقاد بأنها( حالة خروج القارئ من النص)، إن محور العمل السردي هو نهايته، فالنهاية إضافة الى أنها ذروة ولحظة تنوير، فهى محور أو بؤرة( تتجمع حولها أو فيها معظم عناصر العمل الأقصوصي أو الروائي) والخاتمة أو النهاية هي الموضع الأخير الذي يصل إليه القارئ،حيث يرفع عينه عن النص ويشرع بعدها في تأمله ومحاولة فهمه وتأويله، ومن ثم فإن هذا الموضع هو صاحب التأثير الأخير الذي تتركه القصة علي قارئها. هكذا تمثل النهاية في السرد موضع إكتمال الدورة الحدثية، بالنسبة للكاتب والقارئ. وفي القصة القصيرة جدا تحتل الخاتمة أو النهاية مكانة خاصة جدا فهى عنصر جوهرى من عناصر القصة القصيرة جدا، لذلك تجئ هذه الدراسة متمحورة حول النهاية في نصوص أحد مبدعى هذا الفن في العالم العربي. هو الدكتور مصباح حجاوى.
النهاية متعة تسلق القمم :
نصوص هذا الكاتب مثيرة للإهتمام وتجبر كل قارئ لها على التوقف عندها طويلا، ففضلا عن روعة السرد وقوة الحبكة القصصية فيها والتى تتجه في خط صاعد نحو النهاية التى تشكل محور الثقل في النص وزبدته وذروته وسنامه، النص عند دكتور مصباح تشبه قراءته صعود الجبل، ففيها رهق جميل ومتعة لايدركها إلا عشاق فن تسلق الجبال، وتزداد المتعة كلما أقترب المتسلق من قمة النص الشاهقة( نهايته) فكل خطوة نحو الأعلى تزيد من التشوق لبلوغ القمة وتهيئ القارئ للقادم، القصة القصيرة جدا هنا لاتعتمد على التكثيف، بل تعتمد على التشويق وقوة الخاتمة التى تماثل قرع الطبل في السكون، بل تماثل توهجاً ينجم عن تفجير هائل فيضئ المكان كله ويبرزالتوهج تفاصيل المكان و حتى شقوق الأرض فيه ثم يخبو بذات السرعة، منسحباً من المكان، تاركاً وهجه في الروح والعقل باقياً الى الأبد مثل نيران المجوس التى تضئ من المهد الى اللحد. قصة دكتور مصباح هى نموذج محكم لقصة النهاية المتوهجة التى يسهب النقاد في وصفها ويشرحها أي نص للكاتب مصباح حجاوى شرحاً مستفيضاً دون أن ينبس ببنت شفة. وهذا مايميز الكاتب القصصي عن الناقد( كونه يؤسس لتنظيره بالعمل على نصوصه لا على نصوص الآخرين)، في نصه الموسوم(على الشَّجَرَة )ِ تجسيد عملى للنهاية المتوهجة واتجاه خيط السرد الصاعد نحو قمة الجبل:
تَسَمَّرَ تَحتَ الشَّجَرَة ِالباسِقة ِ، ينظُرُ إلَيْها مُشْفِقاً ،)
وقَدْ أوشَكَتْ على السُّقوط ِ،
هاتَفَ رجالَ الإنقاذ ِيَسْتَعْجِلُهُمْ .
تكاثَرَ الجَمْعُ ، ازدَحَمَت ِالمَركَباتُ ، .. إنَّها بأعلى الشَّجَرَة ِ !
ألنّاسُ يسألونَ : منْ تَكونُ ؟ كيفَ صَعدَتْ للأعلى ؟ هلْ تريدُ الإنتِحارَ ؟
هلْ هيَ شابَّة ٌ ؟ هلْ هيَ جميلة ٌ ؟ .... يسألونَ وينصرفونَ !
صَفَّقَ الحُضورُ ، وَضَجّوا بالضَّحِك ِ،حينَ رَأوا المُنقِذ َ يهبط ُ السُّلَّمَ ،
وَعَلى كَتِفِهِ قِطَّة ٌ شَقراء ُ)

فالنص يبدأ بانفتاح على مشهد صاخب ومثير للفضول والخوف والرعب (تَسَمَّرَ تَحتَ الشَّجَرَة ِالباسِقة ِ، ينظُرُ إلَيْها مُشْفِقاً ،وقَدْ أوشَكَتْ
على السُّقوط ِ، هاتَفَ
رجالَ الإنقاذ ِيَسْتَعْجِلُهُمْ)

فنحن أمام رجل وقف مشدوها تحت شجرة باسقة وهو ينظر مشدوها ومشفقا على (أنثى) بأعلى الشجرة مشار اليها بضمير الغائبة( الهاء) في كلمة(إليها) وبتاء التأنيث في كلمة( أوشكت). وهذه الإشارات هى تمهيد ضرورى لمفاجأة الختام ، وهى تمويه محكم لاتستقيم الحبكة بدونه، ولا تتحقق المفاجأة الصادمة بدونه.
وحتى يكتمل التمويه وتتناسل الأسئلة ويزداد الفضول يحرك الكاتب الكاميرا في لقطة خارجية تصور المشهد أسفل الشجرة:(  تكاثَرَ الجَمْعُ ، ازدَحَمَت ِالمَركَباتُ ، .. إنَّها بأعلى الشَّجَرَة ِ !ألنّاسُ يسألونَ : منْ تَكونُ ؟ كيفَ صَعدَتْ للأعلى ؟ هلْ تريدُ الإنتِحارَ ؟هلْ هيَ شابَّة ٌ ؟ هلْ هيَ جميلة ٌ ؟ .... يسألونَ وينصرفونَ ). في هذا المشهد الثانى يخطو الكاتب خطوة الى الأمام، صاعدا نحو أعلي الجبل، فيجعل الناس الذين استبد بهم الفضول يصدقون (إشارات الراوى) في المشهد الأول ويسلمون بان التى بأعلى الشجرة أنثى آدمية، ويبدأوا في نسج القصص من خيالهم حول هويتها وسبب صعودها بأعلي الشجرة وكيفية صعودها، ويتساءلون عن شكلها وسبب تفكيرها في الانتحار( ظنوا أنها أنثى بائسة قررت الانتحار بالقفز من أعلى الشجرة)
وهكذا يقترب القاص بالنص من قمة الجبل ويثير غبارا كثيفاً ويذر رمادا في العيون ومن ثم وقبل أن يفيق الحالمون من أحلامهم وتفسيراتهم البعيدة كل البعد عن الحقيقة يقذف بالحقيقة في وجوههم عارية كما ولدتها أمها مستمتعا بدهشتهم وربما خيبة أملهم، مقدما الحل بعد ان أحكم العقدة، ليكتشفوا أن الحل بسيط جدا وبعيدا عن كل خيال:(   صَفَّقَ الحُضورُ ، وَضَجّوا بالضَّحِك ِ،حينَ رَأوا المُنقِذ َ يهبط ُ السُّلَّمَ ،وَعَلى كَتِفِهِ قِطَّة ٌ شَقراء ُ)
فالأنثى لم تك سوى قطة شقراء!!! وهكذا يبدو المشهد في خاتمته صادماً وساخرا وموجعا،تماما كما تبدو الأشياء من أعلى صغيرة وتافهة ومغايرة لصورتها من أسفل.أن القطة هنا تجسد الحقيقة وجوهر الأشياء في الحقيقة، وهو دوما مختلف عن المظهر الخارجى واعتقادات الناس وظنونهم وتفسيراتهم التى تبني على أنصاف الحقائق ونتفاً من الوقائع ، ثم يتكفل خيالهم بنسج ماتبقي والتعامل معه على أنه الحق الذى لايأتيه الباطل من أى جهة، فكون من بأعلى الشجرة ( أنثى) هو نصف الحقيقة ، وليس كل الحقيقة، لكن خيالات الناس صنعت جبالا من الأوهام بناء على نصف الحقيقة وصدقتها وبنت عليها أوهاما جديدة حتى صفتعهم الحقيقة صفعة موجعة بقصد إعادتهم الي رشدهم . وبذلك تحققت رسالة النص عبر النهاية المتوهجة الصادمة.
ويواصل الكاتب نفس منهجية الكتابة وبنية النص القصصي القصيرجدا في نصوص أخرى ، منها نصه الموسوم(صورة) الذى يمارس فيه هواية تسلق القمم
صورَة ٌ...)
نافذَتي تُطلُّ على بِرْكَة ِسباحة ٍفي حديقَة ِبيْت ٍكبير ٍمُجاور ٍ.
رَأَيْتُها .. سَمْراءَ ، رشيقَة ً ، تقفزُ في الماءِ بِخِفَّة ٍ.
تَغوصُ وتَختفي ، فأموتُ انتظاراً حتّى تَظْهَرَ . ظَلَّتْ تُشاغلني ، وأنا أرقُبُ مَشْدوهاً
.. الحارسُ الذي ضَبَطني ألتَقطُ بِهاتفي صورةً ، والذي هَمَّ أنْ يُوَبِّخني ،انفجَرَ ضاحكاً وهوَ يرى في الماءِ تلكَ البّطَّة السَّمراءَ الجميلة) .
فالنص متماثل مع النص السابق في كونه مبنياً من عدة مشاهد، المشهد الأول الساذج البرئ ظاهرياً يحتوى على التمويه المتعمد والإشارات المضللة الى (أنثى مفترضة) يتلصص عليها الراوى وهى تسبح في بركتها الخاصة، التمويه يبدأ بجملة( رأيتها) فضمير الغائبة هنا يشير الى المتلصص عليها الغافلة عمن يراقبها بدءا، ثم  يتصل التمويه باستخدام أوصاف تنسب للمرأة دون الرجل ( سمراء/ رشيقة) ويكتمل التمويه باستخدام أفعال منسوبة الى أنثى (تقفز/ تغوص/تختفى/ تشاغلنى)
ثم يظهر الحارس في المشهد الثانى ويضبط الراوى بجرم مشهود، ليس هو التلصص فحسب، بل التلصص ومحاولة التقاط صورة للمتلصص عليها، هنا بلغت الأحداث ذروتها، ومن ثم تجئ المفاجأة الصادمة في جملة الختام حيث يكشف الراوى عن هوية المتلصص عليها، فيغدو الأمر نكتة  بدلا عن جرم فالمتلصص عليها هى ( مجرد بطة)!! وهكذا يحدث الإنفجار في وعى المتلقي فيكتشف كم أساء الظن بالراوى وكم كانت نفسه مظلمة وهو يظنه يتلصص على جارته الحسناء، في حين أنه محب للطبيعة البكر وللطيور، يشعر القارئ بالخجل عندها ،ومن المتوقع أن يعيد النظر في كامل الحالات المماثلة التى اساء فيها الظن بغيره بناء على أنصاف الحقائق والأقاويل.وتلك هى رسالة النص. ولايفوتنا الإشارة الى عدم اهتمام الكاتب بالتكثيف وسبب ذلك اهتمامه الشديد بالنهاية على حساب التكثيف، فالتمويه في الاستهلال اقتضى الإسهاب في تفاصيل يكتمل بها التمويه. وفي الحقيقة يمكن ان يعتمد الكاتب التمويه والتكثيف معا، وبذلك تتحقق متعة القراءة والتأويل بلذة أكبر.
ويتكرر الأمر في نص ثالث للكاتب نفسه هو نصه الموسوم( رجل وامرأة)
( رجُلٌ .. وامرأةٌ
.. جَميلةٌ ، التَقَطَها منَ الشّارع ِ، أمضّيا يومين جميلين ،
عامَلَها كأجملِ ما يليقُ بأُنثى ، وَكأرقى ما يكونُ الرِّجالُ .
أحسَّتْ بالدِّفْءِ بينَ أحضانِهِ ، واستشْعرتْ معهُ الأمانَ .
وَدَّعها صباحاً مُتوجِّها لعملِهِ بعدَ أن اتَّفقا أن تبقى في منزلِهِ ، وكَمْ أسْعَدَها ذلك .
عِنْدَ الباب ِ التَفَتَ إليها ، وفَتَحَ محفظتَهُ .. مادتِ الأرضُ تَحتَ قَدَمَيها ..
.. حٓتّى سمعتْهُ يقولُ : نسيتُ أن أكتبَ لكِ رقمَ هاتف ِالعمل ِ...)
فالكاتب يستخدم تقنية النهاية الصادمة نفسها التى استخدمها من قبل،  مع فارق ان النص هنا يدور حول سوء الظن المباشر، بين شخصين ، في تفسير موقف لم يكتمل،فالمرأة التى التقطها البطل من الشارع وتعامل معها كأنثى حقيقية، وليس كشئ له قيمة مادية فقط، ظنت حين أخرج الرجل محفظته أنه سيعيدها من حلمها بأنها عوملت كأنثى  معززة ومكرمة الى واقعها المر كأمرأة تبيع نفسها مقابل المال، لكنه فاجأها بانه لم يكن ينوى منحها نقودا، بل اراد اعطائها هاتفه في العمل لتتصل به مثلها مثل زوجة تفتقد زوجها حين تحتاجه. هكذا كانت المفارقة في النهاية الصادمة كونه كان يريد السمو بها ، وظنت انه يريد الرزاية بها، مابين ظنها وفعله تكمن المفارقة في سوء ظنها به وحسن ظنه بها. وفي الحقيقة هذا النص ينقصه التكثيف، فالنص يمكن الاستغناء عن كثير من زوائده ليصبح هكذا(جَميلةٌ ، التَقَطَها منَ الشّارع ِ، أمضّيا يومين جميلين ،عِنْدَ الباب ِ التَفَتَ إليها ، وفَتَحَ محفظتَهُ .. مادتِ الأرضُ تَحتَ قَدَمَيها .... حٓتّى سمعتْهُ يقولُ : نسيتُ أن أكتبَ لكِ رقمَ هاتف ِالعمل ِ...)، فالتكثيف  يسمو بالنص ، والتفاصيل تقتله، وصدق تشيخوف حين قال( الإيجاز صنو الإبداع.).

وفي نصه الموسوم (أبجدية)يواصل الكاتب نهايته المتميزة بتفاصيل أقل:
(    أبْجَدِيَّة ٌ
(وَقَفَ مذْعوراً ، تُسابقُ دقّاتُ قلبِهِ دَقائِقَ الإنتظار ِ،
خَرَجَ مُديرُ الإمتحانات ِإلى الشُّرفٓة ِ،
أدَرَكَ ( يحيى ) أنَّهُ سيموتُ انتِظاراً ، فسوفَ تُقرأ ُالأسماء ُ بالترتيب ِالأبجَدِيِّ ،
تَنَحْنَحَ المُديرُ ، شربٓ مِنْ كاس ِ الماءِ امامٓهُ ... النّتيجٓة ُ: لَمْ   
يرسب أحد)
 يقدم الكاتب نموذجا مختلفا للنهاية المتوهجة وغير المتوقعة، فيبدو النص مثل مسابقة في فن التوقع يخيب فيها أمل المتوقع الذى توقع كل شئ وأى شئ وعجز عن توقع الخاتمة التى حدثت بالفعل، فالتلميذ الخائف من الرسوب توقع أن يقرأ المدير اسماء التلاميذ حسب الترتيب الأبجدى ، واذا فعل الناظر ذلك فسينتظر التلميذ طويلا حتى الختام لان أسمه يبدأ بالياء وهى في آخر الترتيب، لكن المفاجأة كانت ان المدير اختار اعلان النتيجة جرعة واحدة بجملة واحدة( لم يرسب أحد). وهذا الخبر السعيد كان وقعه كا لصاعقة، ليس بسبب كونه خارج نطاق التوقع فحسب، بل بسبب ان طريقة القول نفسها كانت غير مألوفة وغير متوقعة. في النص جماليات أخرى زادته بهاءاً: (وقف مذعورا، تسابق دقات قلبه دقائق الانتظار) برغم غياب التكثيف هنا، حيث كان يكفي القول (وقف مذعوراً) فقط أو القول( وقف ودقات قلبه تسابق دقائق الانتظار) فقط، الا أن الجملة كانت مدخلا قويا للنص خدم النهاية وجعلها منطقية مع هذا الكم الهائل من التوجس. وهناك استخدام جميل لأسم التلميذ( يحي) والقول ( انه سيموت انتظاراً) فهنا عزف على سلم التضاد بين دلالة الأسم وفعل الموت. وهناك تصوير جيد لهدوء المدير( تنحنح المدير وشرب من كأس الماء أمامه)، فتوجس التلميذ يقابله هدوء المدير، لذلك جاءت جملة المدير( لم يرسب أحد) معبرة عن ادراكه لتوتر التلاميذ ومحاولته احتوائه. القصة هنا مبنية على تخير لحظة دقيقة جدا مشحونة بالقلق والتوتر العالى ومن ثم تسلق جبل الحدث الشاهق وصولا للنهاية الصادمة والمتوهجة التى نشبه الى حد كبير كلمة النهاية التى كانت تكتب في الافلام القديمة بكل اللغات.هي نصوص شاهقة عادت بالسرد القصير جدا الى ينابيعه ومنابعه الأصيلة وخلصته من كثير مما علق به مما ليس له أصل فيه.فالسرد القصير جدا هو فن إقتناص اللحظة الهاربة والسلم الصاعد نحو الأعلى والنهاية المتوهجة التى لاتتحقق إلا بعدم الإسراف والإقتصاد في كل شئ، وقبل ذلك وجود الحكاية المروية.

المراجع:
1/ صبري حافظ( البدايات ووظيفتها في النص القصصي) مجلة الكرمل عدد 21/22 ، 1986.
2/عبد الملك أشهبون( البداية والنهاية في الرواية العربية) دار رؤية للنشر القاهرة 2013.
3/لطيف زيتونى / معجم مصطلحات نقد الرواية/ دار النهار للنشر/ بيروت 2002.
4/ سيد بحراوى/ دراسات في القصة العربية/ مؤسسة الأبحاث العربية بيروت 1986.
5/ ياسين النصير/ الاستهلال في البدايات في النص الأدبي/ الهئية العامة لقصور الثقافة/ كتابات نقدية،.القاهرة1998.

6/ نصوص قصصية قصيرة جدا للدكتور مصباح حجاوى نشرت بموقع الكترونى موسوم بملتقي القصة القصيرة جدا بالاردن. https://www.facebook.com/groups/286642554843500/

Friday, September 26, 2014

نص تحت مجهر النقد الكنز/ الاستاذ يحي أبو عرندس بقلم صلاح الدين سر الختم على



النص ( الكنز) للاستاذ يحي أبو عرندس
(ثمة صوت خافت يصدر من حجرة جدتي , تسللت على أطراف أصابعي ,أزحت الباب قليلاً, رأيتها تجلس القرفصاء , أشارت لى بيدها , جلست على مقربة منها , أخرجت مفتاح الخزنة من تحت وسادتها, فتحتها وألقت لى صرة نقودها الذهبية , وقعت عيني على خلخال , رمقتني بنظرة عتاب , هزت رأسها بالنفي ؛ هذاكل ماتبقى من رائحة جدك.)
التحليل:
في هذا النص يقدم القاص مشهدا منتزعا من الذاكرة الشخصية، مشهدا يستدعى في ذاكرة كل قارئ سحر الطفولة والصبا، وتلك العلاقة السحرية بين الجدة والسرد والفانتازيا،لكن الجدة هنا لاتروى قصة من الخيال كما هى العادة، بل تهب الحفيد مالا، ولكنها تبخل عيليه بالتذكار العزيز المتبقي من زوجها الراحل( الخلخال)، وهى بذلك تعلم الطفل درسا مهما في الوفاء وهو أن بعض الأشياء غير قابلة لللتخلى عنها ليس بسبب قيمتها المادية ، بل بسبب قيمتها المعنوية وما تمثله. النص مشع بالانسانية والصدق الفنى والإنسانى وقد تخير الكاتب لحظة فريدة ليعبر عن معنى عظيم. ما يميز النص وجود الحكاية وبساطتها وعمقها.
النص يعود بالقصة الى منابعها الأصيلة: كونها حكاية ذات مغزى أعمق من ظاهرها . القصة مشهدية، بمعنى أنها تتكون من عدة مشاهد:
المشهد الأول: صوت خافت يصدر عن غرفة الجدة. يثير الصوت الفضول في الطفل والقارئ معا.
المشهد الثانى: يتسلل الطفل على أطراف أصابعه نحو مصدر الصوت فضولا، يزداد التشويق، ننتظر لنعرف معه مايجري.
المشهد الثالث: يزيح الطفل الباب الموارب قليلا، تبدو الجدة جالسة القرفصاء.
المشهد الرابع: تشير الجدة للطفل بالدخول.
المشهد الخامس: يجلس الطفل على مقربة من جده( الماضى والحاضر والمستقبل يجتمعون في المشهد).
المشهد السادس :تخرج الجدة مفتاح خزنتها من تحت الوسادة( المفتاح يرمز الى اقتراب اماطة اللثام وكشف السر، والوضع تحت الوسادة يرمز الى الحرص وأهمية السر ومكانته عند الجدة)
المشهد السابع: تفتح الجدة الخزانة، وتخرج منها صرة بها نقودها الذهبية( الكنز المخبوء) حسبما ظن الطفل. فقد انصرف ذهنه الى شئ يقيم بالنقود والمادة.
المشهد السابع:يلمح الطفل خلخالا بين الأشياء، يظنه أقل الأشياء قيمة بحسب طبائع الأشياء، فيهم بأخذه. لكن الجدة ترمقه بنظرة عتاب وتهز رأسها علامة عدم الموافقة على أخذه. يندهش الطفل ونندهش معه.
المشهد الثامن: تكشف الجدة السر العزيز موضحة للطفل أن الخلخال الذي استخف به هو أكثر قيمة عندها من كل مال الدنيا وذهبها، لأنه هدية عزيزة من زوجها الراحل( الجد) قائلة انه ما تبقي لها من رائحته الانسانية. هكذا تجئ النهاية تتويجا لما قبلها وكاشفة للسر، والسر هو ان قيمة الاشياء الحقيقية ليست ماتساويه النقود ، بل بما تمثله
عند الناس من مشاعر. هذه هى رسالة النص ووصية الحاضر والماضي للمستقبل
انه نص جميل في مبناه ومعناه. وينبغى ان نلاحظ ان المشاهد الثمانية مترابطة وصاعدة بقوة نحو النهاية التى تمثل لحظة التنوير الحاسمة الكاشفة لما قبلها.
صلاح الدين سر الختم على

سبتمبر 2014

Sunday, September 21, 2014

نص تحت مجهر النقد وشذرات عن مميزات القصة القصيرة جدا (صلاح الدين سر الختم على)


النص:
من مأمنهم.سجنوه مخافة فكره؛ نشره حراسه.
الكاتب /عبدالله الشويلان
بقعة ضوء:
نص الكاتب عبد الله الشويلان نص ساحر ونموذجى ويستدعى الوقوف عنده طويلا ومحاولة تشريحه واستنطاقه ومحاورته.
النص يعتمد على المفارقة بين سجن الشخص وسجن الفكرة، فالفكرة عصفور لايمكن السيطرة عليه، وهى حرة مثل الهواء لايمكن اعتقالها والحجر عليها، فالسلطة خافت من أفكار الرجل، فحبسته حتى لاينتشر فكره، لكن الفكر عبر القضبان عبر الحراس الذىن أُ ريد لهم أن يكونوا ادوات لقمع الفكرة وقتلها ، فباتوا ادوات للتنوير بالفكرة ونشرها، فهم بشر قابلين للعدوى( عدوى الفكر) وهم حامل ثقافى للأفكار وتلك طبيعة الإنسان منذ الأزل فهو الناقل الأول للأفكار. النص كذلك يعتمد المفارقة بين شعور السلطة بالأمان(من مأمنهم) في عتبة النص وهو شعور زائف بالأمان يغشى جميع الطغاة فهم يظنون ان موت المناضل وحبسه موت القضية وحبسها، ويقابل هذا الشعور الزائف بالأمان حدوث الذى تخشاه السلطة برغم اجراءاتها ففى الخاتمة(نشره حراسه) والضمير هنا يرجع الى الفكر الذى خشت السلطة انتشاره، فالسجن لم يمنعه من الإنتشار. فتدبير السلطة( حبس المفكر) أدى الى عكس مقصودها، فقد ارادت به( وأد الفكر) فحدث العكس( انتشر الفكر).
مميزات النص: تميز النص بمايلى: قلة الكلمات، وضوح الفكرة، التكثيف،وجود حكاية مكتملة الأركان حافلة بالدراماوصراع الارادات واضح جدا فيها، وجود بداية متقنة وواعدة وخاتمة متوهجة وصادمة، استخدام  الكاتب للتضاد والمتضادات لخلق حيوية في النص. النص قصة قصيرة جدا نموذجية.
 مميزات القصة القصيرة جدا


البداية المتقنة في القصة القصيرة جدا يجب ان تكون قوية مهما كانت هادئة فهى جسر مخادع ينتهى بهاوية وصرخة داوية عند النهاية، البداية في القصة القصيرة جدا مفخخة بطبيعتها وهى استهلال مخادع يأخذ القارئ من عالمه برفق واعدا إياه بالسكون ثم يلقي به في قلب العاصفة، البداية تمهيد للتشظى والإنفجار والتنوير الذى يبلغ قمته في الخاتمة الصادمة المتوهجة التى لاتعود  الأشياء بعدها هى الأشياء. والبداية جسر غير مكتمل، فلو اكتمل الجسر انعدمت المفاجأة والدهشة والصدمة،فالبداية تماثل جسراً بين جبلين تتوسطهما هاوية،يمضى فيه القارئ مطمئنا، وبغتة يجد نفسه يهوى نحو الأسفل، تحرره الحقيقة فيسمو بها وينجو بلا جسر ولاحبال. وبذلك يحل التنوير محل الجسر ومحل الأجنحة وأحزمة الأمان.وقلة الكلمات هى التى تجعل النهاية صادمة، فكلما ترهل النص قل وقع الصدمة على قارئه، بل قد ينصرف عنه الى شأن آخر وبالتالى ينتفى تأثير البداية المتقنة عليه، لذلك يجب ان تكتب القصة القصيرة جدا كجرعة تؤخذ برشفة واحدة ولا فواصل فيها أو فرصة لالتقاط الأنفاس، وقلة الكلمات هنا مسألة نسبية لاتقاس بصورة مطلقة، بل يحكمها النص وموضوعه ولغته وقوة التشويق فيه.والتشويق والحركة في النص يخلقهما عادة الإضمار واستخدام المتضادات للإيحاء بالمغزى الخفى.القصة القصيرة جدا هى فن قول كل شئ دون قول شئ، هى فن الإيجاز الناطق أكثر من كل الثرثارين.وهى نقيض الرواية التى تقول القليل عبر الكثير، ينفق كاتب الرواية وقتا أطول وجهدا أكبر للتعبير عن أفكار صغيرة وربما فكرة واحدة من خلال أحداث كبيرة وكثيرة، وعلى النقيض يقول القاص في القصة القصيرة جدا أفكارا كثيرة وكبيرة عبر مشهد وحيد وكلمات بخيلة.في الرواية قد تعلق بالذاكرة الشخوص والأحداث وتغيب الفكرة عن الأنظار ، في القصة القصيرة جدا، تتوهج الفكرة وتبلغ القارئ فور الفراغ من قراءة النص وتأخذه من عالمه المحدود الى فضاء الفكرة الفسيح فيسبح فيه متلاعبا بالنص كيفما شاء مستولدا إياه أفكارا أخرى جديدة، وهذه السمة التفاعلية للنص أعلى إيقاعا في القصة القصيرة جدا من الروايةبسبب طول الأخيرة وتوزع الفكرة فيها على كامل الرواية فذلك يشتت القارئ ويقلل من قدرته التفاعلية مقارنة بالقصة القصيرة جدا.