الجزء الأول
مقدمة: هذه محاولة لاستنطاق سطور رواية امير تاج السر (توترات القبطي)وقراءة المضمر فيهاوهي محاولة لاتدعي الاحاطة بكل مفاتيح العمل الروائي ، بل تؤمن بان كثيرا من هذه المفاتيح يبقي مفتوحا علي أكثر من قراءة وتأويل، لكننا حاولنا ان نستنطق بعض زوايا وظلال النص بغية المساعدة في قراءة مستضئية بادواتها للنص.وقد اخترت محورين لمقاربة النص/ محور دلالة المكان في الرواية، ومحور فانتازيا التاريخ في الرواية التي أعلن كاتبها صراحة أنه لايكتب تاريخا. واظن ان منجز أمير تاج السر في هذا السفر الرائع وثيق الصلة بهذين المحورين عطفا
علي الموضوع أو بالأصح جملة القضايا التي عالجتها الرواية معالجة فنية رفيعة المستوي.
وقد أضفت محورا ثالثا أقتضته ضرورة تفكيك النص وهو محور الميثولجيا في الرواية
حيث أنه محور مهم لفهم تقنية السرد وأسلوب الكاتب
أولا: المحور الأول
دلالات المكان في رواية توترات القبطي:
المكان فى الرواية ليس مكانا جغرافيا ثابتا فى المكان والزمان ، بل هو صراع متجدد فى زمانه ومكانه ، صراع ضارى يجعل المكان فى حالة تبدل دائم كنتيجة طبيعية للصراع الطاحن الذى يجرى فوق ارضه ويحدد مصير الكائنات فيه موتا وولادة وتحولات هادئة حينا وصاخبة حينا اخر .
المكان الرئيس فى الرواية هو مدينة السور باحيائها الثرية والفقيرة ذات الدلالات التى لا تخفى على احد ، فالإحياء الراقية لها اسماء اجنبية مثل (كاهير) و (لونا وراجيف) والتى يقيم فيها اليهود والاغاريق والهنود وهذه التشكيلة السكانية الاجنبية هى دلالة اخرى على ما يجرى فى المكان ، وفى المقابل هنالك احياء فقيرة تحمل اسماء وطنية مثل (كف عفريت) و (ارض الكوثر) و (آل حسان) و (الموارد ) و (ونسه ) ، ودلالات الاسماء هنا أيضا تستوجب التوقف عندها،والتركيبة السكانية لهذه الاحياء هى من السكان المحليين (اهل البلد) ومعظمهم فقراء وهناك استثناءات نادرة منها ذلك المصرى الذى يمارس مهنة تعليم علم يسمى علم (الانحطاط) ولعل المقصود هنا علم الثورة حيث ان من يطلق تلك التسمية هم الاجانب المستعمرين وهنالك إستثناء اخر وهو القواد (ولهان الخمرى) وفتياته الاجنبيات بائعات الهوى للسكان المحليين بترخيص السلطة الاستعمارية فالمعلم اداة تنوير والقواد اداة تخدير يتصارعان وسط القاعدة السكانية التى اختارت الثورة فيما بعد وهذه المفارقة هي من ضمن أساليب السرد الموجودة بالرواية.
وحتى تكتمل ملامح المكان الروائى نجد انه يوجد بمدينة السور نادى ارستقراطى يحمل اسما اجنبيا هو (يوتوبيا )يؤمه سكان الاحياء الراقية ومعظمهم من الاجانب ورجال السلطة الاستعمارية ومن بينهم بطل الرواية القبطى (ميخائيل ) متحصل الضرائب ورجل المهام السرية للحاكم الاجنبى . وهنالك مقهى يحمل اسم (خزى العين) تديره امرأى اجنبية تركية الاصل تسمى (نديمة مشغول) والمقهى إمتداد اخر لمسرات الاجانب ورجال الطبقة الحاكمة . وبالمدينة شخصيات عديدة تلقى ضوءا على المكان والصراع الذى يجرى فيه منها تاجر الذهب اليهودى (عوزى ايزاك) وتاجر الذرة القبطى (منون خمارى) والحاكم التركى (يوسف دامير) المنغمس فى ممارسة الرذيلة فى مكان خاص من المدينة ، وهنالك شخصيات من العالم الاخر فى المدينة(الطبقات المسحوقة) منها الحمال (عبادى طسم) والفراش (التقلاوى ديدام) وهاتان الشخصيتان صارتا فيما بعد من القادة العسكريين والسياسيين لحركة الثوار الوطنية المسماة ثورة المتقى وبات (ميخائيل) الذى كان يوما سيدا لهما خادما لهما نزعت هويته وصار اسمه (سعد المبروك) بعد انتصار الثورة ، وهنالك ايضا جماعة سرية معارضة تتحرك فى مسرح المكان تحت اسم الذكرى والتاريخ . هذه ملامح عامة لمسرح الاحداث (المكان) كما رسمها الروائى المبدع امير تاج السر بدقة وصبر مستعينا بمخزونه المعرفى وإستنطاقه لوقائع التاريخ الحقيقية معملا فيها مبضعا يحاكى مبضع الجراح – متأثرا ربما بخلفيته المهنية كطبيب – يدرك قواعد علم التشريح ووظائف الاعضاء – ومستخدما فى الوقت نفسه كل خبراته وقدراته الفنية وملكاته الابداعية ليحيل الوقائع الجامدة الى احداث وصراع حى يجرى امام بصر وسمع القارىء والمتلقى الذى يجد نفسه متورطا بشكل او بأخر فيما يجرى امامه من احداث ويغيب صوت الراوى وشخص الكاتب من المسرح تماما ليجد القارىء نفسه أمام بانوراما حية تحاكى تلك البانوراما الروسية الموجودة بمتحف القائد الروسى (كتوزوف) الذى قهر نابليون والتى يؤمها الزوار من كل انحاء العالم وانحاء روسيا لمشاهدة تجسيد حى للتاريخ . وهذا تمثيل مع الفارق ، ويتجلي
الفارق في ان الداخل الى تلك البانوراما يدرك منذ الوهلة الاولى انه لا يلج عالما حقيقيا بل محاكاة له ،ولكن من يلج نص امير تاج السر الروائى لا ينتابه ابدا مثل هذا الاحساس حتى بعد انتهائه من قراءة العمل يبقى مسكونا بذلك المتخيل الروائى الملحمى الذى تكاد تلامس فيه الشخوص والأمكنة المتخيلة بيدك ،وهذا وجه من وجوه عبقرية امير تاج السر وهو انه استطاع ان يخرج التاريخ من المتاحف واسر الكتب والرواة وجعله شخوصا تمشى وتتحرك بحرية وصراعا كان تفجره حتميا بين عالمين متناقضين يشغلان مكانا واحدا فى زمان واحد ، عالما مكونا من السلطة الاجنبية الحاكمة فى مدينة السور (المتخيل الروائى) المطابق لمدينة (الابيض) السودانية او فلنقل للسودان كله . وتوابع تلك السلطة الاجنبية من عناصر داخلية وخارجية موجودة فى المكان او مقحمة فيه وكل ما تمثله تلك التوابع من محاولات لطمس هوية المكان وشاغليه الاصليين ، بدءا بابتداع اسماء اجنبية للأحياء الراقية وما تحمله تلك الاسماء من مضامين ثقافية وتاريخية وأيدلوجية ، مرورا بتشجيع ونشر انشطة مثل تجارة الخمور والدعارة العلنية المرخص لها من قبل السلطة الاجنبية وما تمثله تلك الانشطة والممارسات من تصادم مع معتقدات شاغلى المكان الاصليين ، وهكذا يبرز المكان كأنه شخص من شخوص الرواية حاملا اسما روائيا معبرا عنه وهو اسم السور ، فالسور هو الحد الفاصل بين قوتين متصارعتين ، قوة داخل السور وهى سلطة الدولة الاجنبية وقوة موجودة داخل السور وخارجه وهى متمردة على تلك السلطة المهيمنة داخل السور ، اذا ملامح المكان تفصح عن مكان يعج بمحاولات لطمس هويته وإخضاعه ولكنه يقاوم وتتمثل ادوات مقاومته الداخلية فى جمعية (الذكرى والتاريخ) ، بينما تلوح فى الافق بوادر الثورة خارج المكان فى قرية تسمى (اباخيت) تقع على شاطىء النيل او تخوم الصحراء وهى التى شهدت مولد قائد ثورة (الغوغاء) حسب وصف (ميخائيل) ممثل السلطة الاستعمارية لثورة (المتقى) وهنا اشارة واضحة للثورة المهدية التى وصفها المستعمرون بأنها ثورة الرعاع ، تهب رياح تلك الثورة حتى تبلغ مدينة (السور) وتحاصرها وتسقطها وتحررها من السلطة الاستعمارية وتكون المفاجأة ان قادة الثورة الجديدة خرجوا من الاحياء الفقيرة والعمال البسطاء مثل الحمال والفراش .
ان المشهد الافتتاحى للرواية يصور ببراعة عمليات طمس الهوية التى تجرى للمكان وشاغليه ويعود الكاتب بعد انتصار ثورة السكان المحليين ليكشف عن رد الفعل الواعى وغير الواعى للثوار فى مواجهة ذلك الطمس للهوية الذى جرى فى الماضى ، ويتجلى رد الفعل فى اصرار الثوار على تبديل هوية الحكام السابقين واذنابهم الذين وقعوا فى الاسر ومدينة السور باكملها الى (الاصل) الذى يعتقدونه ، فيجرى طمس هوية ميخائيل جابى الضرائب القبطى المسيحى وذلك بالقيام باجراء عملية ختان له على الطريقة الاسلامية وتغيير اسمه الى سعد المبروك واكراهه على اعتناق الاسلام واداء الصلاة وايضا طمس هويته الاجتماعية بإحالته من مسئول كبير بالمدينة الى خادم وضيع مهمته الطبخ للحمال السابق الذى بات قائدا من قواد الثورة . وهذا المصير الذى لاقاه ميخائيل لم يسلم منه جميع ممثلى السلطة السابقة الذين وقعوا فى قبضة الثوار فيما عدا نماذج نادرة اخفت هويتها الاصلية واخترعت هوية جديدة تتماشى مع مفاهيم الثوار مثل (نديمة مشغول) صاحبة مقهى (خزى العيون) التى تقمصت شخصية جديدة وسمت نفسها (ضوء القناديل )وباتت من المجاهدات قائدات ثورة النساء ولكن حين انكشف امرها لاقت مصيرا مفجعا . وفى هذا الجزء والملمح من الرواية يقارب الكاتب مسألة التطرف من منظور جديد يقول بأن التطرف ليس صنيعة الشعوب المقهورة بل هو صنيعة الغزاة الفاتحين الذين سعوا الى طمس هوية الشعوب التى استعمروها وإحلال هويتهم مكانها فكان رد فعل الشعوب المستعمرة الطبيعى هو التمسك بهويتها ومحاولة فرضها على من حاول فرض هويته عليها عملا بمبدأ المعاملة بالمثل والحكمة التى تقول ان الدوائر تدور على الباغى وان البادى اظلم . وهذا يقودنا الى ملمح مهم اخر فى الرواية وهو كونها مكتوبة من وجهة نظر المهزوم وهو هنا (ميخائيل بك) ولا يمكن بأى حال ان تكون نظرة هذا المهزوم الى الثورة التى اطاحت بسلطته وجعلتها هشيما تذروه الرياح نظرة رضى او قبول، لذلك فان اى نقد للرواية ينطلق من كونها لم تنصف الثورة المهدية وثوارها هو نقد يتجاهل هذه الملاحظةالمهمة التى اوردناها ويتجاهل حقيقة اخرى وهى اننا امام رواية تروى ولسنا فى حصة مدرسية للتاريخ . شيء اخر ان النظرة الرومانسية للتاريخ تلك النظرة التى تعرض وجها واحدا للتاريخ وللشخصيات التاريخية من باب الاستحسان والرضي أو الاستقباح والرفض هى نظرة لا مجال لولوجها فى عالم الرواية لان الحقيقة تاريخية او غير تاريخية لها الف وجه فى عالم الرواية .التاريخ فى الرواية يكف عن كونه تاريخا ويمسى نصا نقديا ساحرا يقاربه الروائى من كل الزوايا ويرويه بكل الاصوات وعلى حسب تموضع الراوى فى الرواية وأحداثها التى تروى .
مقارنة بين بطل الرواية ومصطفي سعيد بطل موسم الهجرة
في موسم الهجرة كان مصطفي سعيد ممثلا للمهزوم المنسحق وهو يجول في أرض المنتصر حرا في الظاهر لكنه في الحقيقةأسير يجول حاملا أحساسه بالهزيمة واليتم ومحاولا التمرد علي الوضع الذي وجد نفسه فيه نملة تطأها اقدام فيل وفاقم من تأزمه تلك الرغبة في الثأر بشكل ما من المنتصر،أما بطل توترات القبطي فهو مهزوم آخر ينسحق و يعاني أسرا حقيقيا وعملية غسيل لمخه وهويته ولكنه مع ذلك لديه أحساس بالتفوق علي (جلاديه ) _حسب وجهة نظره _وهو يشعر أن وضعه طارئ ومؤقت وهو بشكل أو آخر جزء من المنتصرين علي بطل موسم الهجرة عند الطيب صالح ، وهكذا نلحظ ان بطل الموسم يشعر بالضآلة أمام الحضارة الغربية المنتصرة عليه حتي بعد تحرر بلاده من استعمارها، بينما ينظر مخائيل الي الثوار نظرة ملؤها الاحساس بالتفوق والتعالي ،ويجب ان نأخذ في الاعتبار انه حسب المتخيل الروائي فان احداث موسم الهجرة حدثت بعد هزيمة الثورة المهدية وسحق ثوارها وسيطرة المستعمر من جديد علي السودان وتقع الاحداث خلال الحكم الاستعماري و بعد تحرر السودان واستقلاله، بينما تدور احداث رواية امير تاج السر في فترة الاستعمار الاولي قبل الثورة المهدية وأثنائها بينما كان مسرح رواية الطيب صالح هو لندن وشمال السودان كان مسرح احداث رواية امير تاج السر هو مدينة الابيض في اقليم كردفان والتي شهدت نهوض الثورة المهدية واقوي انتصاراتها التي عجلت بنجاحها ، وقد حور الكاتب اسم الابيض في الرواية عمدا الي اسم السور وابقي علي اهم معالمها القديمة سوق ابو جهل كما هو كأشارة دالة عليها، وقد فعل الكاتب ذلك في يقيني عامدا لينفي وصف التاريخ عن عمله ويؤكد علي سمته الروائية حتي لايعتقل النص في تأويلات ساذجة وفجة تفسد متعة قراءته ومتعة المتخيل الروائي فيه ، فالنص وان تفيأ ظلال التاريخ واتكأ عليها ، فانه بحق لم يكن تأريخا او حشدا لوقائع تاريخية أو تقييما للثورة المهدية كما يظن القارئ غير المتعمق والناقد المتسرع في اطلاق الأحكام، النص هو نص روائي وظف التاريخ وظلاله لخدمة المتخيل وخدمة المغزي وهو بهذا الفهم ليس رواية تاريخية كما قد يتبادر للذهن لكنه رواية تمازج فيها الواقعي المحور لخدمة النص الروائي مع المتخيل الروائي لينفتحا علي خيال القارئ حيثما كان في فضاء طليق لاتحده صرامة البحث العلمي او مصداقية مرجوة في مؤرخ يستنطق التاريخ ويؤوله، بل يحلق النص في فضاء الرواية الفسيح عصفورا طليقا من كل قيد ناهلا من كل فانتازيا وخيال موجود في الواقع وخارجه مقاربا لموضوعه من زوايا شديدة الاتساع والدقة في آن واحد،فالبطل ليس شخصا عاديا وليس ممثلا لفئة عرقية أو دينية كما قد يبدو للوهلة الأولي، بل هو ممثل لطبقة شكلت جزءا اصيلا من تركيبة الحكم التركي المصري الاستعماري للسودان الذي ثارت عليه وعليها الثورة المهدية،وهو) ميخائيل بك (او )ميخائيل رجائي رشدي السحالي( وهو قبطي سوداني بالميلاد(ولد في مدينة السور التي تقع غرب البلاد، ) حسب قوله( التي كانت في يوم من الايام مدينتي التي ولدت فيها، عشت فيها سنوات الخصب كلها، وفقدتها) ص 13
لاحظوا المفارقة هنا في استخدام وصف الخصب كوصف لفترة الاستعمار ، كانت سنوات خصب فعلا بالنسبة للراوي مخائيل بك متحصل الضرائب ولكنها سنوات بؤوس وشقاء وذل بالنسبة للوطنيين الذين ثاروا ضد ظلم الحكم الاستعماري، التعبير هنا عبارة عن كاريكتير ساخر،ولاحظوا تعبير( فقدتها)الذي استخدمه مخائيل، فالاستقلال الذي هو نصر للثوار هو فقد وخسارة للمستعمر
الطمس للهوية والطمس المضاد
وحين سقطت المدينة في يد الثوار الذين يتزعمهم( المتقي) والاشارة هنا للثورة المهدية كان نصيب مخائيل
الوقوع في الأسر والتعرض لعملية محاولة محو هويته الدينية والثقافية ابتداء من تغيير اسمه الي سعد المبروك مرورا بختانه وتغيير ديانته دون رضاءه يقول ميخائيل الذي صار سعد:(هو الذي انتقاني بنفسه من زمرة اذلاء المدينة كلها، حين سقطت بعد ثلاثة اشهر من الحصار المر، وعرض سكانها من اليهود والنصاري وهنود البنيان، وكل من صنف عاصيا أو ذيلا للكفر والإلحاد في وسط السوق الكبير، ليركلهم أو يشتمهم أو يمتطي لحم نسائهم السبايا من اراد، هو الذي اشرف علي ختاني الصعب الذي مت فيه وحييت، دربني علي شعائر الدين الجديد، وترديد الهتافات والتكبير، سماني سعد المبروك دون علمي أو رضائي، ملغيا اسم ميخائيل الذي عمدت به.) ص13
هكذا يبين من السطور الأولي للرواية ان هناك طمسا لهوية مهزوم يجري وأن الحدث المروي يروي من وجهة نظر المهزوم الذي تموضع داخل الرواية كراوي ، ومن الطبيعي ان تروي الرواية من وجهة نظره للأشياء، وهذه نقطة مهمة جدا، ففي كتابة التاريخ يحاسب الكاتب علي الرؤي والمواقف والمواقع التي يكتب منها التاريخ، ولكن كتابة الرواية عمل له تقنيات وقوانين تختلف كل الاختلاف عن كتابة التاريخ، فالرواي ليس مطلوبا منه ان يتفق تصوره وموقفه مما هو مروي مع رؤية وموقف القارئ أو الكاتب، بل المطلوب من الكاتب ان يعمل صرامة فنية محكمة علي نصه فاصلا بين ما يعتقده وما يراه هو وبين ما يعبر عنه شخوصه حسب موقع كل شخص وتكوينه والمؤثرات علي مواقفه ورؤيته، لهذا يبدو تحذير الكاتب في مدخل الرواية مفهوما ومعبرا عن أدراكه أمكان حدوث الالتباس لدي بعض القراء والنقاد ،فهذا النص نص مخادع لايكتب التاريخ فعلا، لكنه يتخذ منه مادة خام للعمل الروائي، ويدخل عليها الكاتب معالجاته لتصبح أحداثا تضج بالحياة وظلال التاريخ وتتواتر متلاحقة ممسكة بعضها بتلابيب البعض لاهثة متوترة، فالنص ليس خيالا محضا، ولكنه ليس كتابة تاريخية تتحري الوقائع وتستقصيها وتنقحها وتحشد المصادر وتستنطق الرواة والأمكنة، بل علي العكس من ذلك يحرر الكاتب نصه من كل قيود وقواعد كتابة التاريخ ويحشد المتخيل والأسطوري ويعجنه مع وقائع التاريخ في عجينة واحدة يستحيل التفرقة فيما بعد بين الواقعي المدقق المحقق وبين المتخيل والأسطوري الذي انبت للنص أجنحة حلقت به من سراديب التاريخ المظلمة ووقائعه غير القابلة للتحوير الي فضاء السرد الطليق بحيث بات عسيرا التفرقة بين الاجزاء المكونة للحدث المروي. يكف الحدث عن كونه تاريخا يروي، ويتحول الي دراما رفيعة المستوي تتصارع فيها مصائر الشخوص وتذوب الحدود الفاصلة بينها علي مسرح الحياةوتتعري علنا.وتترك للقارئ حرية الاندماج فيما يروي واختيار موقعه في النص فاعلا أو متفاعلا أو مفعول به هو في حقيقته فاعل بشكل أو آخر، مثلما أن الفاعل مفعول به بشكل أو آخر، لذلك جاءت الرواية مشحونة بالإحداث والمفاجآت المتلاحقة غير المتوقعة، وكفت تماما عن ان تكون وقائع محنطةحدثت في ماض ما ، وباتت أحداثا تجري بسرعة مذهلة يعجز الراوي عن ملاحقتها وهي تتنقل بين الأمكنة والشخوص في خفة وانسيابية مذهلة. وتلك هي عبقرية الكاتب الذي مزج بين عدة فنون وعلوم ليخرج منجزا روائيا فريدا عصيا علي التكرار.ولعله يجدر بنا التوقف عند ملاحظة مهمة في بناء الرواية وهو كونها مروية بضمير المتكلم وعلي لسان راو وحيد علي أمتداد الرواية وهو ما يعرف بالراوي العليم والذي قال عنه بعضهم :(الراوي العليم بكل شئ، الموجود في كل مكان في نفس الوقت، الذي يرمق في اللحظة ذاتها الاشياء يمنةويسرة معا، ويري باطن وظاهر الاشخاص،لايمكن ان يكون سوي آله.)* ، ولكن الكاتب استطاع ببراعة التغطية علي عيوب الاعتماد علي راو عليم عن طريق قدرته الفائقة علي استخدام تقنيةمنظور الشخصيات المتعددة المتراكبة، وهي تقنية معروفة في الرواية العالمية وهي تسمح بتقديم أحداث متعددة المستويات. وتتحقق تلك التقنية بتوافر شرط وحيد وهو أن يستقل المؤلف من وظيفة الراوي ومعني ذلك :(أنه_أي الكاتب_ لايقول، بل يجعل شخصياته في السرد والحوار معا هي التي تقول، وهذا ليس أمرا هينا،)** وعن طريق قول الشخصيات الصريح بالقول و المضمربالأفعال والمواقف الدالة يصبح السرد مشتركا بالرغم من وجود راو واحد. وهذه هي التقنية التي اتبعها أمير تاج السر في منجزه موضوع البحث. وقد اعتمد كذلك علي المفارقةوهي في تعريف النقاد( أن تقول شئيا وتقصد شئيا آخر) فلايمكن الاكتفاء بالمعني الحرفي وتصديقه بشكل مباشر، فالمفارقة تنفيس فني عن ذكاء الانسان وتعبير عن قدرته علي رفض مايقال له ونقده وتأويله وتفكيكه حتي يتسق مع ما لديه من وعي ومعارف. ويبدو ذلك بارزا في كون المكان في الرواية له أهمية في الفضاء الروائي فاختار الكاتب مجموعة من المفارقات الدرامية المتصلة به، وقد عددنا بعضها بالإشارة الي اسماء الاحياء ووصفها وأسماء الاشخاص وحقيقتهم المتناقضة مع الاسماء وغير ذلك. من ذلك اسم خزي العيون وتناقضه مع كون المكان مقهي أو مرقص، واسم خميلة أو نعناعة وتعارضه مع صيرورتها وعاء ناقلا لجرثومة مرض فتاك، واسم ضو القناديل وتعارضه مع طبيعة نديمة مشغول وحقيقتها، واسم مقهور الذي بات منصورا من المتقي شخصيا، وغير ذلك من المفارقات التي برع فيها المؤلف وجملت النص وأكسبته حيوية لاحدود لها.
صلاح الدين سر الختم علي
الثامن عشر من ابريل2012
نواصل الدراسة في الجزء الثاني تحت: عنوان ظلال التأريخ ومداخل
الخروج. ونلقي الضوء فيه علي الاسطورة والخرافة في النص ونعقد مقاربة مهمة بين بطل الروايةوشخصية تاريخية معروفة.
الهوامش:
* روب جريبة.
** د. صلاح فضل / اساليب السرد.
توترات القبطي / رواية للروائي السوداني أمير تاج السر***
الطبعة الأولي2009
عن دار ثقافة للنشر والتوزيع
دولة الامارات العربية المتحدة
ابوظبي
مطابع الدار العربية للعلوم
الجزء الثاني من دراسة توترات القبطي : امير تاج السر وظلال التاريخ هل الرواية ترجمة لسيرة سلاطين باشا؟
19 أبريل، 2012، الساعة 07:23 مساءً
دراسة نقدية
أمير تاج السر ومغازلة التاريخ و
فانتازيا المكان في توترات القبطي
صلاح الدين سرالختم علي
الجزء الثاني من الدراسة: ظلال التاريخ في توترات القبطي
هل الرواية ترجمة لسيرة سلاطين باشا؟ وهل بطل الرواية هو تجسيد له؟
هذا سؤال مركزي تطرحه القراءة النشطة لرواية (توترات القبطي) ، سؤال يحرك السطور ويكشف عن بعض المضمر فيها وبعض القول الذي قالته الرواية. لذلك تكتسب المقاربة النقدية لهذا السؤال أهمية كبيرة. ويقتضي الأمر التعريف بالشخصية التاريخية موضوع الدراسة والشخصية الروائية المتخيلة موضوع المقاربة ومن ثم عرض السياق النظري للمسألة ومحاولة التعرف علي منهجية أمير تاج السر في هذا المنجز الروائي المهم.
سلاطين باشا شخصية تاريخية حقيقية أثارت لغطا كبيرا في مسرح السودان التاريخي ولعبت دورا مهما ، وشخصية سلاطين باشا لديها ملامح شبه وتقاطعات كثيرة مع بطل رواية توترات القبطي وهي مسألة لم تأت بمحض الصدفة ، ولكن في الوقت نفسه يخطئ من يذهب الي القول بتماثل الشخصيتين أو الي القول بان الرواية تسجيل لسيرة سلاطين باشا كما رواها في مؤلفه ذائع الصيت ( السيف والنار) الذي حكي فيه قصته مع الثورة المهدية وترجمه الي الانكليزية السير ونجت باشا حاكم عام السودان وتم طباعة الكتاب وتعريبه بواسطة جريدة البلاغ المصرية في العام 1930 نورد بعض المعلومات المهمة حول سلاطين باشا ، من هو، وماهي سيرته؟ سلاطين باشا ضابط نمساوي ولد بفينا عاصمة النمسا في 1857 وجاء الي مصر في 1878 ودخل في خدمتها ، وعينه غردون متحصلا للضرائب في بعض انحاء السودان ومن ثم عينه حاكما علي دارفور في 1884 .
لقد عاش سلاطين باشا ستة عشر عاما في السودان، منها أربعة أعوام موظفا وحاكما علي أقليم دارفور، وأثنتي عشر عاما أسيرا وعاملا مع المهدي والخليفة عبدالله. ولا شك أن مرارة الأسر، قد ولدت لديه دافعا قويا للأنتقام سيما وأنه ختم كتابه بكلمة معبرة أكد فيها أن الخليفة عبدالله هو عدوه اللدود، وأعدي أعداءه ما دام علي قيد الحياة، وظل يحرض القوي الأروبية في محاضراته وفصول كتابه للقضاء علي المهدية وأعادة أستعمارالسودان كما سنبين في هذا المقال.
منذ أن أعلن سلاطين أسلامه في دارفور وسط جنوده ، لكسب قلوبهم وولائهم ليتقوي بهم ضد تمرد القبائل وأنتصارات المهدي الساحقة في كردفان، كان يدرك أن المعركة بينه وبين المهدية هي معركة ذكاء من أجل البقاء في المقام الأول.وكان أحد قواده أبلغه سرا أن سبب تذمر جنوده لا يعود الي سحنته وجنسيته الأروبية بل الي مسيحيته، سيما وأن جنوده أظهروا تعاطفا مع ثورة المهدي الدينية . ويعترف سلاطين أن أسلامه الزائف حقق له مكاسب فاقت توقعاته،حيث أظهر له الجنود ولاءا كبيرا، كما أصدر المهدي عفوا عنه إذا ما وافق علي تسليم دارفور دون قتال
وقد عمد سلاطين الي اعلان اسلامه علي سبيل الخداع امام جنوده وفاوض ثوار المهدية واستسلم متظاهرا بالاسلام والانضمام للمهدية وهو كاره للاسلام والمهدية في داخله.وحسب رواية سلاطين فان الخليفة عبدالله التعايشي هو من أسماه سلاطين :(كان يسميني عبد القادر فاذا كان أحد آخر قاعدا وله هذا الاسم فانه كان يناديني باسم عبد القادر صلاح الدين أي سلاطين)** أي ان سلاطين هو تحريف لاسم صلاح الدين نجم من نطق سلاطين للعربية ولم يصحح المؤرخين الاسم رغم وضوح رواية صاحبه.السيف والنار ص40
وقد بقي سلاطين (صلاح الدين) في أسر الخليفة منتظرا فرصة للهرب والانتقام ، حانت له فهرب الي مصر وعاد غازيا مع الجيش الغازي الذي هزم الثورة المهدية واعاد احتلال السودان. وبعد ذلك نشر كتابه هذا وهو كتاب حافل بصور قاتمة عن الثورة المهدية والخليفة وهو كتاب فاقد للمصداقية لان صاحبه تخلي عن دينه علنا خلافا لما يبطن ونافق عدوه وتظاهر بالايمان به في حين انه لايستطيع اخفاء مشاعره العدائية حيث اورد في كتابه صراحة:( عندما يسمح الله باستخدام معلوماتي ومجهوداتي في سبيل ابادة الظلم الدرويشي وإزالة حكم سيدي الجائر وعدوي عبد الله الذي سيظل الد اعدائي طوال الحياة التي احياها في الدنيا. بعد ان يزول ذلك العهد الجائر ادعوا الي تأسيس الحكومة العادلة التي تمنيت كثيرا ظهورها في السودان.) هذا النص المقتبس لايخلو من مفارقة درامية: المستعمر يصف عهد التحرر منه بانه عهد جائر ويبشر بحكومة عادلةوينسي ان ظلم حكومته الاستعمارية كان سببا للثورة! نفس المفارقة سنجد ها في الرواية في أكثر من موقع.
وقال سلاطين في كتابه (من الواجب أن أقر ليس مدفوعا بنزعة الثأر لنفسي مما قاسيت من ويلات ، ولكن مدفوع بوازع الضمير ، بأني لا أستطيع ذكر أمة ظلمت في حياة المدنية أكثر من نصف قرن ، ثم هبطت في الدرك الأسفل من الهمجية غير السودان،حيث أصبحت المهدية عقبة كأداء في سبيل المدنية الناهضة). وأمعانا في أضفاء بعد درامي علي ما أسمهاه الهمجية والبربرية في السودان ، قال أن 75% من سكان السودان ماتوا نتيجة للحروب والمجاعات والأمراض ، وتبقي 25% يعيشون تحت الظلم والعسف والأضطهاد. وأشار الي أن المهدية أوقفت المدنية الناشئة في السودان، وردته الي الظلام، ، في الوقت الذي أخذت فيه المناطق الأفريقية الأخري في التطور والنمو والتمدن نتيجة للحكم الأروبي المستنير!
مع أهمية الأسباب التي سردتها أسفار التاريخ عن أعادة غزو السودان، ولكن يظل سلاطين باشا، وكتابه (السيف والنار في السودان) العامل الأهم الذي دفع البرلمان البريطاني لأجازة قرار الغزو من جديد. كما جدت عزيمة مصر لأستعادة نفوذها بعد أن زين لها أهمية مصالحها الأستراتيجية في السودان. وحين تحقق الغزوعاد سلاطين في جيش كتشنر الغازي،
تلك هي ملامح جوهرية لشخصية سلاطين باشا ودوره علي مسرح التاريخ، فماهي اوجه الشبه بينه وبين بطل توترات القبطي للروائي امير تاج السر؟ اين نقاط الالتقاء واين نقاط الافتراق؟ وماهي أهمية استقصاء هذه النقطة؟
أوجه الشبه عديدة بين الشخصيتين، لذلك نبدأ بها، مع تحذير مهم، أن الكثرة لاتعني التطابق أو التما ثل، نجد ان القاسم المشترك بين الشخصيتين كون كل منهما يدين بالمسيحية، وكون كل منهما كان جزءا مهما من سلطة استعمارية ثارت عليها ثورة وطنية ذات ابعاد دينية في ارض واحدة هي أرض السودان، وكل منهما عاني من الوقوع في الأسر وتغيير الهوية الدينية والأسم التابع لها الي هوية دينية هي هوية المنتصرواسم مستمد منها وكذلك تبدل المركز الاجتماعي الكبير الي مركز الخادم الذليل المقيد حتي في التعبير عن حقيقة مشاعره، وعمد كل منهما الي ممارسة الخداع والتظاهر بانه بات من اتباع الدين والمذهب السياسي الجديد، عاش كل منهما المجد الشخصي والصعود مع سلطة آفلة وعاش الهزيمة والانكسار ومرارة الأسر مع سلطة صاعدة وظل قلبيهما عامران بالكراهية والاحتقار للعدو ومنتظران فرصة للانتقام،حتي في تفاصيل الحياة في الأسر هناك تماثل مدهش في بعض التفاصيل، مثلا اعترف سلاطين بانه تزوج من ابنة احد الجنود المصريين وتسمي فاطمة البيضاء ارسلهااليه الخليفة ولكن الزواج لم يستمر طويلا، نجد ان مخائيل بطل الرواية الأسير الذي سماه القائد الذي اتخذه خادما له سعد المبروك زوجه ذلك القائد من امرأة تركية هي نديمة مشغول زواج لم يستمر طويلا ايضا!! فهل هي الصدفة؟ وقد كان مخائيل بطل الرواية متحصلا للضرائب وهي وظيفة شغلها سلاطين أيضا قبل ان يصير حاكما. ونجد مخائيل في الرواية يصف عهد الحكم الاستعماري بسنوات الخصب بصورة مطابقة لوصف سلاطين الذي اوردناه حين تحدث بصفاقة عن الظلم الدرويشي ودعوته لحكومة عادلة في السودان هي الاستعمار
ولكن اوجه الاختلاف موجودة ، فمخائيل بطل الرواية سوداني بالميلاد وسلاطين اجنبي كلية عن السودان، وسلاطين ضابط ومخائيل جزء من السلطة المدنية ، وسيرة سلاطين الذاتية تختلف عن سيرة ميخائيل في جوانب اخري كثيرة وهي كون سلاطين خاض معاركا وقاد قوة عسكرية وامتدت خدمته الي دارفور ، بينما تشير سيرة ميخائيل الي كونه لم يبارح مسقط رأسه حتي بعد وقوعه في الأسر، فمسرح احداث حياة ميخائيل مساحته محدودة نسبيا،ونهاية سيرة ميخائيل مفتوحة علي كل الاحتمالات ، بينما سيرة سلاطين امتدت بعد الاسر في الزمان فتضمنت مغامرة فراره وذهابه مصر وعمله محرضا ضد حكم المهدية وعودته الظافرة بالنسبة له مع جيش كتشنر الغازي بما في ذلك الانتقام من الخليفة. أذا يمكن القول ان ميخائيل بطل الرواية ليس هو سلاطين الشخصية التاريخية وليس تجسيدا دراميا لفترة من حياتها وليست الرواية سردا للسيرة الذاتية لسلاطين باشا. ولكن ظلال السيرة السلاطينية موجودة علي ضفاف سيرة سعد المبروك أو ميخائيل،وقعقعة سيوف ثوار المهدية موجودة في خلفية المشهد الروائي الذي يقدمه أمير تاج السر في توترات القبطي، بل نذهب الي ابعد من ذلك ونقول ان السيرة السلاطينية وتاريخ المهدية كانا أحد مصادر العمل الروائي الذي قدمه أمير تاج السر.ان منهجية أمير تاج السر في كتابة الرواية تتجلي في نصه موضوع الدراسة بشكل احترافي كبير، فكتابة الرواية هي كتابة بحثية يجمع فيها الكاتب مادته من مصادرها المتنوعة ، مخيلة، واقعا، تاريخا،سيرة جمعية او ذاتية، ويختار الكاتب موضوعه وزاوية تناوله، ومن ثم يعمل كل خبراته وملكاته الابداعية وتجاربه ومعارفه في هذه المادة الخام المتنوعة المصادر منطلقا في فضاء الرواية مازجا تلك المصادر بشكل يستحيل فيما بعد التمييز فيه بين تلك المصادر، فالتاريخ حين يلج الرواية يكف عن كونه تاريخا .(أن التاريخ لايكون تاريخا الا عندما يكون في حقله ونظامه الذي وجد من أجله، خاضعا لضغوطه و قوانينه الصارمة، لكنه حين يغادره باتجاه الرواية تنتفي حقيقته الأولي التي كانت الي وقت قريب تبدو ثابتة ويصبح فعل القراءة الروائية،من حيث هو فعل منتج، مشروطا بنظام الرواية واتساع المتخيل وحريته،أي ان علي التاريخ أن يقبل بترك ثوابته وصرامته عند عتبات الرواية ويحتمي بالنسبية والهشاشة التي تسبغ الفعل الروائي الذي لايرتكن ابدا إلي اليقين)*
نقصد بالتاريخ أذن تلك المادة المنجزة المنتهية التي مر عليها زمن مناسب، يضمن حدود المسافة التأملية بيننا وبين المادة المعنية. ونقصد بالمتخيل ضمن هذه العلاقة الثنائية: تاريخ / رواية، المادة السردية المنجزة التي تنشأ من خلال العلاقة النشيطة والخلاقة مع حدث ما وتعطيه أمتدادات كبيرة في الزمان والمكان.
واذا كان المتخيل ينشأ من المادة التاريخية أو الفعل المنجز بشكل عام ، فهو لايعطي قيمة كبيرة للحقيقة التاريخية كحقيقة مطلقة ولكن كأستعارة لشئ تسيد وأنتفي وصار جزءا من الذاكرة الجمعية ووظيفته في النص الروائي هي أقرب الي الايهام والإحتمال البعيد منها للحقيقة الثابتة. لهذا فاختبار هذه الحقيقة ومساءلتها خارج السرد يعد ضربا من الاستحالة.* لهذا تقوم السيرورة السردية داخل النص بمحو الحدود والفواصل وتؤسس لعالم ينتفي فيه التاريخ كجقيقة وتحيل الرواية بذلك إلي ذاتها علي الرغم من حفاظها علي بعض علامات التاريخ كأحالات إيهامية في الأغلب الأعم تقرب القارئ من عالم يعرفه أو يحسه،أي التاريخ الذي لم يعد تاريخا بالمعني العلمي للكلمة، نتيجة لفعل الكتابة والسرد المتملص من الحقائق.
لما تقدم يبدو أمير تاج السر واعيا بهذه الاشكالية والمنهجية النقدية وهو يمارس فعل الكتابة وتحويل وقائع التاريخ الي سرد روائي فيقول محذرا في مدخل الرواية:( هذا النص رواية وليس تاريخا...لذا لزم التنويه
يقول الدكتور واسيني الأعرج كأنه يصف حالة أمير تاج السر مع توترات القبطي(قد يلبس الروائي قناع المؤرخ مؤقتا أو بشكل أدق، قناع القارئ المحترف للتاريخ، الذي يحفر بعمق في الأشياء بحثا عن أجابات لفرضيات تشغله، ويحاول أن يجد مكانا في الأشياء المنسية في صلب التاريخ، وهذه الوظيفة هي أقرب الي نقد التاريخ ووعيه، تصبح الرواية هنا، ليست كرديف للتاريخ بمسلماته المختلفة وجيوبه السرية ولكنها بحث مستميت وصعب في العناصر المنسية والقلقة. عمل حفري منتهاه النهائي الرواية وليس مطابقة التاريخ.)
وفرضية هذه الدراسة أن امير تاج السر، حين نقب وحفر ونبش في التاريخ، كان يمارس قراءة احترافية للتاريخ ، وانتهي ذلك التنقيب الي ابداع منجز روائي غني بالدلالات والمضامين والأسئلة،ولم يكن هدف هذا البحث هو البحث في مدي مطابقة الرواية للتاريخ بقدر ما كان هو تجنيب الرواية مثل هذه المزالق وعرض منهجية الكاتب حسبما بانت لنا بشكل يمكن من قراءات مستضئية للنص تحرره من الأحكام المسبقة والقراءات التي تنطلق من فروض في مخيلة النقاد وليس لها وجود داخل السرد نفسه، وتلك هي صورة أخري من صور الصمت الذي يهدد النصوص المبدعة. في اجتهاده وكده لايأخذ امير تاج السر في روايته المادة التاريخية كحقيقة مطلقة وليس شرطا ان يأخذها مادة للاختبار، لكنه يبحث في عمقهاعما يمكن أن ينتظم داخل النسق الروائي مضيفا شئيا جديدا إلي التاريخ، وبذلك تتحول الرواية مع غزارة ثقافة الكاتب الي ميدان للبحث، ولعله من البديهي القول انه لايمكن كتابة رواية تتصف بالتاريخية ونحن نبني كل شئ علي الفرضيات وغزارةالمتخيل الشخصي، بل نحتاج لفعل مثل هذا الي تعب القراءة والمتابعة والتقصي والغرق في التفاصيل التاريخية ، ومن ثم اعادة انتاج تلك المعارف بشكل جديد، وذلك ما فعله امير تاج السر في هذا المنجزالذي افضل القول انه رواية تتصف بالتاريخية متجنبا تصنيفها بانها رواية تاريخية ، فالرواية رواية ، هذا هو وصفها الأمثل والأكثر انضباطا من ناحية المصطلح. ان العمل الذي قام به امير تاج السر في هذه الرواية أقرب الي عمل الفنان الشعبي الذي يشتغل علي السيرالشعبية الشهيرة مثل السيرة الهلالية وسيرة سيف بن ذي يزن وسيرة فاطمة السمحة في السودان وهي سير ذات بنية أسطورية تكون فيها الحقيقة التاريخية شيئا أشبه بالهيكل العظمي فيكسوها الفنان الشعبي بخياله الفني لحما، وينفخ فيها من روحه الابداعية وتطلعات مجتمعه وأناته، روحا جديدة، فاذا بالحدث المجرد_ تاريخيا أو غير تاريخي _قد أستوي كائنا حيا، بفضل المخيلة الابداعية، فالفنان الشعبي يأخذ الحدث التاريخي ويضيف اليه من خياله وقائع واحداثا كثيرة، معتمدا علي بقايا الاساطير والخرافات اعتمادا كبيرا. فحتي لو كانت سيرة سلاطين جزءا من مصادر الرواية التاريخية وأميل الي القول بذلك بناء علي شواهد كثيرة، فأن أمير قد عالج المادة التاريخية معالجة نموذجية وأدمجها في لحمة السرد الروائي بشكل خلاق استحال معه التعرف علي العناصر المكونة للنص الروائي وتمييزها وردها الي أصولها، بل بتنا بازاء أثر فني رفيع سيؤثر علي مخيلة كل قارئ له ووعيه ويخلق معه حواره العميق وتلك سمة الأعمال الكبيرة.
انتهي الجزء الثاني من الدراسة ويليه جزء ثالث بإذن الله.
المراجع:
1/توترات القبطي / رواية / أمير تاج السر/ دار ثقافة للنشر
2/شعرية التناص في الرواية العربية/ د. سليمة عذراوي. دار رؤية للنشر. 2012-
3/ البنية الاسطورية في سيرة سيف بن ذي يزن./ د خطري عرابي/ نوارة للترجمة والنشر
4/ السيف والنار/ سلاطين باشا/ دار البلاغ/ 1930
5/ زيارة جديدة للتاريخ 2/ المسكوت عنه في تاريخ سلاطين باشا/خالد موسي دفع الله / نقلا عن الاحداث/ منشور بمنابر الجالية السودانية الاميريكية. الرابط http://www.sacdo.com/forum/forum_posts.asp?TID=6700
صلاح الدين سر الختم علي
القاهرة اليوم الحادي والعشرين من ابريل 2012
فانتازيا المكان/ مظاهر الميثولوجيا في رواية توترات القبطي / الجزء الثالث من الدراسة
21 أبريل، 2012، الساعة 11:00 صباحاً
دراسة نقدية
أمير تاج السر ومغازلة التاريخ و
3 فانتازيا المكان في توترات القبطي
صلاح الدين سرالختم علي
الجزء الثالث من الدراسة
مظاهر الميثولوجيا فى رواية توترات القبطى
في هذا المحور من الدراسة نتابع تحليل وتفكيك بنية نص توترات القبطي لامير تاج السر وفق منهجية محددة تبتغي بالاشتغال علي النص الروائي انتاج معرفة بالنص من خلال محاورته والكشف فيه عن مضمره وعن آليات وشروط انتاجه، ومحور الحكايات الاسطورية أو العجيبة أو العجائبية(الميثولوجيا) محور مهم للتعرف علي النص والتعريف به ، فالنص يعج بالاساطير ومظاهرها وتجلياتها وهي لم تحشد حشدا عشوائيا،كما سنبين، بل لها وظيفة محددة، في هذا المحور من الدراسة.نحاول التعريف بالمصطلح والبحث عن مظاهر وتجليات الميثولوجيا فى رواية توترات القبطى وبعد ذلك نستعين بالنص الروائى في تتبعنا لتلك التجليات والمظاهر، قاصدين بذلك أبراز منهجية البحث وفروضه وما آلت اليه في الختام.
والميثولوجيا تعنى الاساطير والكرامات والخرافات وكل فكر مناقض للفكر العقلانى ) (1)واذا ارتبطت الميثولوجيا بحياة العوام اساسا الا انها وظفت حتى فى العصر الحديث فى السياسة لدرجة انها شكلت على سبيل المثال لب المشروع الصهيونى الذى تمخض عن تأسيس دولة اسرائيل ، وبرغم إستنادها الى الخيال فهى تنطوى على حقائق تاريخية ثانويةفى طياتها الامر الذى اهلها لتكون احد مصادر علم التاريخ ، ومع انها وليدة تفكير العوام ، فقد عبرت عنه فى لغات رامزة لها ، وقد اعتبرها البعض نوعا من الفلسفة البدائية تـأسيسا على شمولية رؤاها . لذلك اصبحت موضوعا للبحث والدرس والاستقصاء والتحليل والاستنباط من قبل المؤرخين والفلاسفة وعلماء النفس باعتبارها معرفة غاية فى الثراء والتعقيد ، وبالغة الاهمية فى دلالاتها كابداع جمعى عرفته المجتمعات الانسانية قاطبة طوال تاريخها . وهى تجمع بين المعقول والا معقول ، وبين الواقع والخيال ، وبين الوقائع السلوكية والمثل العليا.
وتنطوى الميثولوجيا علي بعد ديني، خصوصا ما تعلق ب(الكرامة) التي هي وثيقة الارتباط بالاسطورة، من حيث نشأتهما معا في مناخ اجتماعي واحد، تبادلا من خلاله آلية التأثير والتأثر، هذا فضلا عن تمحور كل منهما حول (البطل) ذي القدرات الخارقة التي تتجاوز منطق الواقع وقوانين الزمان والمكان،ليحقق الحلم الجمعي وفق ارادته المطلقة. كما اشتركتا في الطابع الخيالي واللغة الرامزة المقنعة والموحية دون تصريح. وقد تناول ابن خلدون في مقدمته موضوع الكرامات والسحر والشعوذة واعتبرها علما سماه ( علوم السحر والطلسمات). وآمن ميكافيلي بان المنجمين وقراء الطالع استطاعوا التنبؤ بالكوارث الكبري قبل حدوثها.
وتعد السير والملاحم الشعبية أهم ما ابدعه العقل الجمعي والوجدان الشعبي صلة بالتاريخ ، بالرغم مما تنطوي عليه من خيال، اذ تدور حول سير ابطال وملاحم شعوب كان لهم وجود حقيقي في صياغة التاريخ.(2(
1– د . محمود اسماعيل / الاسطغرافيا و الميثولوجيا / رؤية للنشر 2009
2-أرنست كاسيرو/ الدولة والاسطورة/ الترجمة العربية.
الحكاية العجائبيةأوالعجيبةأو الاسطورة وكيفية بنائها:
ثمة ارتباك بين النقاد في استخدام المصطلح لوصف الاسطورة أو الحكاية الخرافية، فبعضهم أستخدم مصطلح الحكاية العجائبية* أوالحكاية العجيبة وبعضهم أستخدم مصطلح (الحكاية العجيبة ) فقط** وبعضهم أستخدم مصطلح الميثولوجيا***، ويفسر الناقد سعد يقطين الحكي العجائبي بانه الخرافي حين يقول:( يقصد بالحكي العجائبي (الخرافي) مختلف الأنماط الحكائية السردية التي تتشكل منها الحكاية العجائبية، العجائبي نمط سردي يمكن ان يحضر في الحكاية العجيبة أو السيرة الشعبية أو الرواية أو افلام الرعب.)****
وتبني الحكاية الخرافية أو العجيبة أو الميثولوجية من حيث الشكل الهيكلي علي بناء ثلاثي المظهر، حيث تبتدئ بحدوث نقص ما يؤدي الي خروج البطل عن عالمه المألوف الي العالم المجهول.
ويكون ذلك النقص مرضا أو حادثا أو مسخا......الخ.
ثم تبني الحكاية العجيبة علي الفعل الخارق للبطل كرد فعل علي النقص، وتستند علي تركيب سردي يقوم علي المصادفة التي لاتنتقص من قيمة البناء الداخلي للحكاية بقدر ما تدفع الاحداث المتراكمة الي تحقيق الوحدة الملحمية المثالية، مثال ذلك مصادفة ان الغول الذي ينام عاما كاملا في سيرة فاطمة السمحة كان نائما عند حضور أبني عمها حسن وحسين لتحريرها من أسره.
وتقوم الحكاية العجيبة علي تكرار بعض الوحدات الدلالية، الضرر ورفع الضرر، لتبرز قانون التناقض بين القيم الانسانية: الشجاعة والجبن/ التسامح والغيرة/ القناعة والطمع.
أن موضوع رواية(توترات القبطي) بطبيعته موضوع تحفه الأساطير التي ظلت ترافق سيرة الثورة المهدية علي طول الطريق منذ ان كانت نطفة في رحم التاريخ حتي اشتعالها وصيرورتها واقعا وانتصارها وخبو جذوتها وانكسارها وهزيمتها،وحتي بعد ان باتت في ذمة التاريخ، فظلت الأساطير والخرافات تطاردها وتلاحق سيرتها وسيرة ابطالها وقائدها.وأختلطت بعض أكاذيب الحرب النفسية وتزوير التاريخ لخصومها بتلك الاساطير.لذلك فأن الشئ الطبيعي أن يجئ أي نص أدبي يتكئ عليها ويتخذ منها أو من مسرح أحداثها موضوعا له، حافلا
*د سعيد يقطين/السرد العربي/ دار رؤية/2012 .يمثل هذا الاتجاه.
**د سعاد مسكين/ خزانة شهر زاد الأنواع السردية في الف ليلة وليلة/ دار رؤية/ استخدمت هذا المصطلح فقط.
*** د محمود اسماعيل/ الاسطغرافيا والميثولوجيا/ دار رؤية.
****سعد يقطين / الكلام والخبر/ مقدمة للسرد العربي .
بالأساطير هو الآخر، والا حكم علي نفسه بالموت وفقد قدرته علي الأيهام بواقعيته.فالأسطورة أذا موظفة في رواية (توترات القبطي) توظيفا محكما وتمثل استجابة واعية لشرط من شروط الكتابة الروائية ، وليست ترفا أو استعراضا لعضلات الكاتب، أو شيئا مقحما علي النص من خارجه. نتتبع مظاهر الميثولوجيا في الرواية من داخلها لشرح الأطار النظري عمليا وتبيين مدي مقدرة الرواية ومبدعها علي الاستجابة للأطار النظري.
أولا/شخصية المتقي والتجليات الصوفية
حرص الكاتب حرصا ظاهرا علي ابراز شخصية المتقي قائد الثورة كشخصية أسطورية بحتة،فعلي أمتداد الرواية لم يبرز المتقي بشخصه في أي مشهد، بل ظل دوما مفهوما وصورة متجلية في ذهن أتباعه وصوتا يأتي من المجهول ليدغدغ مشاعرهم ويلهبها، وظل دوما محورا للحكايات، حتي بالنسبة لمقهور الذي ادعي بنوته له، المتقي ليس أبا عاديا، بل هو صورة ورؤيا وحلم،وهذا التصوير يقارب المفهوم الصوفي للمهدي المنتظر، وقد ظهر التصوف منذ عصر صدر الاسلام متخذا صورة الزهد في الدنيا وترفها، والأمعان في التطهر والنسك والمبالغة في العبادة كرد فعل للأسراف في التمتع بالمباهج الحسية علي إثر الفتوحات الأسلامية وما أسفر عنها من نزعات دنيوية. وخلال القرن الثالث الهجري ،تحول الزهد المتطور الي عقيدة فلسفية تقول بوحدة الوجد وتجعل من الذوق أداة للمعرفة بدلا من العقل عند علماء الكلام والنص عند الفقهاء. وبفضل الحلاج تحول التصوف الي مفهوم ثوري أسلامي يستهدف مواجهة الظلم وتحقيق العدالة. وخلال القرن السادس ظهرت الفرق الصوفية وجندت المريدين والاتباع علي نطاق واسع. وعلي الرغم من انطلاق التصوف من الأسلام إلا انه تحول الي فلكلور في عصور انحطاط الحضارة العربية الاسلامية، فغص بالخرافات والشعوذة والأسراف في تقدير الأولياء الي حد التقديس.
نقتبس من نص التوترات:(و الأسئلة تنكتب في كل ذهن..لماذا لايظهر المتقي لأحبابه علنا، ولماذا يستعرضهم من بين الشقوق، ويجلدهم بالصوت من خلف خيمة، ولايمنحهم نوره الذي يودون أن يمسكوا به)*
(الكارور يفح معلنا بداية خطبة الإمام المتقي، وتحول الجميع الي أذن واحدة تود أن تمتص، وترتبط بذلك الحبل المبارك.)*
ويصر الراوي علي وصف صوت المتقي بأنه حبل وليس صوتا بشريا:( لم يكن صوتا كصوتي ولاصوت أبي ايام كان يملك صوتا، ولاصوت الأمير عبادي طلسم، ولا أي صوت آخر أستمعت اليه في حياتي كلها، كان حبلا غزير الأمتار، شدنا من أعماقنا، ومرغنا في التراب، شدنا من ثيابنا وعرانا، شدنا من رئات التنفس ، ولهث بنا، ورأيت المجندين وقد ترنحوا بلا مرؤة، والمعسكر الكبير، مجرد علبة من علب الصفيح، يتلاعب بها موج بحر هادر.)*
*توترات القبطي / ص154
عندما يصير الصوت حبلا يشد الناس فان صاحب الحبل يصبح أسطورة خارقة وليس أنسانا من لحم ودم
وهكذا يرتفع الراوي بالمتقي الي مصاف الأسطورةويجعل منه شئيا هلاميا غامضا
ويورد الراوي تفسير المتقي لعدم ظهوره لاتباعه فنجد تفسيرا صوفيا بحتا مفاده اتباعه للرؤيا:
(لا نضن عليكم بوجهنا طوعا يا أحباب... ولكن نتبع الرؤيا...نتبع الأمر...حتي يعم الخير..)*
ولايجب ان يغيب عن ذهن من يقرأ وصف المتقي ان الراوي هو عدو المتقي الذي يروي عنه، لذلك يجب ألا نتقبل كل صورة ووصف، بل ندقق فيما هو كامن من سم في الدسم. ولكن اللافت للنظر ان الكاتب اختار عامدا استبدال اسم المهدي باسم المتقي وفعل الشئ نفسه باسماء الأمكنة والشخوص في الرواية عامدا تحرير الرواية من قيود التاريخ وضيقه ليتثني للرواية محاورة التاريخ بحرية.
ان الكاتب يرسم صورة أسطورية لقائد الثورة عمدا حتي يحقق للنص ثراءه ويصبح للمغزي ظلال تشي به دون بوح ودون مصادرة لخيال القارئ الفسيح.
أسطورة الصبي مقهور المنصورأبن الحلم
وتحتوي الرواية علي أسطورة أخري تشكل أمتدادا لأسطورة المتقي، هي أسطورة الصبي مقهور الذي كان جنديا عاديا في كتيبة من كتائب الثوار، وفجأة أخذ يعلن انه ابن المتقي استنادا علي رؤيا حضرته ، فهو ابن الحلم المشترك وليس ابنا صلبيا مثل سائر بني البشر والمقصود هنا تكثيف ظلال أسطورة المتقي نفسه بهذه الكرامة من كراماته، ترد السيرة هكذا:( في سرية حاملي القوس والنبال، صبي ذو وجه طفولي مليح، لم يكن يعرف أحد من أين جاء، ولا دلت ملامحه الطفولية المليحة، عن قبيلته ينتمي اليها، وقد تردد همسا وسط جنود الكتيبة، ان مقهور حلم مرات عدة، بأنه ابن منسي للامام المتقي، ولد وتربي بعيدا عنه، وقد اخبره الحلم بانه سيجتمع بأبيه في أحد الايام.)**
يكون رد السلطة الزمنية ممثلة في قواد الكتيبة هو القبض علي الصبي وتعذيبه لاجباره علي الكف عن الهذيان، ويكف الصبي عن الهذيان مؤقتا ثم يقتل حارسا ويهرب، وبعد فترة من الزمن يعلنه المتقي قائدا للجيش محققا بذلك حلمه ومؤكدا مصداقيته ومصداقية الرؤيا التي أدعاها.وهكذا تكتمل الصورة الأسطورية بكرامة من الكرامات.دلالة الاسم مقهور الذي بات منصورا دلالة عميقة تضاف الي جملة المفارقات التي اعتمدها الكاتب في كتابة النص بأكمله.
*توترات القبطي 154
**توترات القبطي 155
ملامح أخري للأسطورة في الرواية
تشابه مصير أنسان وجواد
هناك ملامح أخري لتجليات الأسطورة في الرواية من خلال مقارنة صامتة بين مصير جواد وأنسان هما ميخائيل بك (الراوي) و(مصبح )حواد الحاكم التركي الهالك، قصة جواد القائد التركي يوسف دامير الذي قتله الثوار في معركة تحرير مدينة السور التي كانت مقرا له،ترد في الرواية في ص 162 حين يكتشف ميخائيل بك الذي صار اسيرا اسمه سعد المبروك وهو يهئ حصان سيده الجديد القائد عبادي طلسم الحمال السابق، ان ذلك الحصان هو ذاته (مصبح) جواد سيده السابق التركي يوسف دامير حاكم مدينة السور.يقول الراوي لحظة الاكتشاف:(تعرفت علي الجواد، وتعرف علي، وبكينا في صمت..انا اخون دمي الجديد، وأبكي بالدم النصراني القديم ، والجواد يخون اسراجه لحمل الجهادي، ويحن لسيده الذي رحل)*
فالجواد وقع في الأسر مثله مثل ميخائيل وانتقلت ملكيته لممثل السلطة الجديدة
،وهو القائد عبادي طلسم
و هذه صورة أخري
بها مفارقة ولاتخلو من سخرية مريرةو
البعد الجمالي الاخر للنص انه يمكن القارئ من الوقوف علي طبيعة ميخائيل المراوغة المنافقة ودخيلته المملؤة حقدا علي ثورة
سحقت سلطته التي يدين بالوفاء لها ويكتمه.
حكاية الطفل الصيني الذي ولد بحي ونسة
في الرواية ملمح آخر للاسطورة ممثلا في قصة طفل صيني الملامح ولد في حي ونسة الفقير الكائن باطراف مدينة السور والذي تنشط به بيوت البغاء العلنية:( في تلك البقعة، ولد طفل صيني، لايعرف أحد من أبوه، ولم يدخل السور منذ انشائها صيني قط، ولا استطاع أحد تفسير تلك الملامح، شك علماء الدين في كونه المسيح الدجال الذي يظهر عند نهاية الدنيا، ووزعوا الاضطراب في خطب المساجد، وفي النهاية سموه الغريب.)**
وفي هذه الحكاية أشارة تربط المتقي بفكرة المسيح الدجال بلا شك. وهي أشارة مقصودة فالسلطة الآفلة ممثلة في مخائيل بك لاتريد ان تقبل بالتفسير البسيط المباشر لاسباب نجاح ثورة( المتقي) عليها وهو كونها سلطة استعمارية نهبت خيرات البلاد وطمست هويتها وأرهقت كاهل أهلها بالضرائب، وتريد السلطة المهزومة اللجوء الي تفسيرات غيبية للظواهر الاجتماعية، انكارا للثابت والحقيقي والظاهر.
*التوترات /ص 162
**التوترات ص 166
وهناك تجليات أخري كثيرة للاسطوري في الرواية منها اعتقاد الناس بان صديد جرح الجندي الذي جرحه الصبي مقهور يشفي المرضي ويحقق المعجزات فيتهافتون علي ذلك الصديد ويروجون قصصا خيالية عنه، ومن ذلك الشحصية الأسطورية (ضو القناديل) التي تسترت خلفها (نديمة مشغول) التي صعدت بها من حضيض صاحبة مقهي للملذات الي صورة زاهية لمجاهدة تروي حولها الروايات وويرصد بعد ذلك تحولها في نظر الثوار زنديقة تستحق الموت عند اكتشاف ماضيها ثم ارتفاعها الي مرتبة الشهيدة بعد اعلان المتقي ذلك وعدم جواز محاكمتها بماضيها. ومن مظاهر الأساطير ذلك العطر المسمي ريح الجنة الذي يتداوله اتباع المتقي معتقدين في ذلك. وهناك أسطورة النعناعة (خميلة جماري) سابقا التي باتت وعاء ناقلا لمرض عجيب فتك بعبادي طلسم ثم أصابت جرثومته الراوي ميخائيل بك نفسه في الخاتمة.
وهكذا نجد الرواية محاطة من كل الاتجاهات بالعناصر الأسطورية ووقائع التاريخ الحقيقي المحور داخل النص ليخدم النص ويحقق أهدافه، والرواية بذلك تتماهي مع موضوعها الذي أختارته ويلتحم متخيلها مع واقعها المحور بحيث يصعب فض الاشتباك وهو ما اراده الكاتب. لكن سفره في التاريخ والاسطورة والخيال لم يكن سفرا بلا غاية ولاهدف بل كان سفرا لاعادة قراءة التاريخ والحاضر وهو تاريخ ممتد في مستقبل بات حاضرا وسيمسي تاريخا في قريب عاجل.أن اختيار الكاتب لشخصية الراوي ميخائيل بك وتسليمه دفة السرد من بداية الرواية حتي ختامها لم يأت اعتباطا، بل هو أمر مقصود، فشخصية ميخائيل بك شخصية كاركتيرية، وقد أعتمد الكاتب المفارقة في السرد المروي بلسانها، لذلك فان من يصدق كل ما تقوله هذه الشخصية تغيب عنه رسالة النص الجمالية والمعرفية، فالجلاد لايصلح شاهدا علي الضحية، والخصم لايصلح حكما،ولايصلح راوية للتاريخ، لان روايته للتاريخ ، مهما حاول ان يكون منصفا هي شهادة بعين واحدة وصوت واحد عن حدث متعدد الجوانب والشخوص والسير والأحداث.
صلاح الدين سر الختم علي
القاهرة فانتازيا المكان/ مظاهر الميثولوجيا في رواية توترات القبطي / الجزء الثالث من الدراسة
21 أبريل، 2012، الساعة 11:00 صباحاً
دراسة نقدية
أمير تاج السر ومغازلة التاريخ و
مظاهر الميثولوجيا فى رواية توترات
3 فانتازيا المكان في توترات القبطي
صلاح الدين سرالختم علي
الجزء الثالث من الدراسة
القبطى
تبتغي بالاشتغال علي النص الروائي انتاج معرفة بالنص من خلال محاورته والكشف فيه عن مضمره وعن آليات وشروط انتاجه، ومحور الحكايات الاسطورية أو العجيبة أو العجائبية(الميثولوجيا) محور مهم للتعرف علي النص والتعريف به ، فالنص يعج بالاساطير ومظاهرها وتجلياتها وهي لم تحشد حشدا عشوائيا،كما سنبين، بل لها وظيفة محددة، في هذا المحور من الدراسة.نحاول التعريف بالمصطلح والبحث عن مظاهر وتجليات الميثولوجيا فى رواية توترات القبطى وبعد ذلك نستعين بالنص الروائى في تتبعنا لتلك التجليات والمظاهر، قاصدين بذلك أبراز منهجية البحث وفروضه وما آلت اليه في الختام.
والميثولوجيا تعنى الاساطير والكرامات والخرافات وكل فكر مناقض للفكر العقلانى ) (1)واذا ارتبطت الم
في هذا المحور من الدراسة نتابع تحليل وتفكيك بنية نص توترات القبطي لامير تاج السر وفق منهجية محدد
ةيثولوجيا بحياة العوام اساسا الا انها وظفت حتى فى العصر الحديث فى السياسة لدرجة انها شكلت على سبيل المثال لب المشروع الصهيونى الذى تمخض عن تأسيس دولة اسرائيل ، وبرغم إستنادها الى الخيال فهى تنطوى على حقائق تاريخية ثانويةفى طياتها الامر الذى اهلها لتكون احد مصادر علم التاريخ ، ومع انها وليدة تفكير العوام ، فقد عبرت عنه فى لغات رامزة لها ، وقد اعتبرها البعض نوعا من الفلسفة البدائية تـأسيسا على شمولية رؤاها . لذلك اصبحت موضوعا للبحث والدرس والاستقصاء والتحليل والاستنباط من قبل المؤرخين والفلاسفة وعلماء النفس باعتبارها معرفة غاية فى الثراء والتعقيد ، وبالغة الاهمية فى دلالاتها كابداع جمعى عرفته المجتمعات الانسانية قاطبة طوال تاريخها . وهى تجمع بين المعقول والا معقول ، وبين الواقع والخيال ، وبين الوقائع السلوكية والمثل العليا.
لهم وجود حقيقي في صياغة التاريخ.(2(
1– د . محمود اسماعيل / الاسطغرافيا و الميثولوجيا / رؤية للنشر 2009
2-أرنست كاسيرو/ الدولة والاسطورة/ الترجمة العربية.
الحكاية العجائبيةأوالعجيبةأو الاسطورة وكيفية بنائها:
ثمة ارتباك بين النقاد في استخدام المصطلح لوصف الاسطورة أو الحكاية الخرافية، فبعضهم أستخدم مصطلح الحكاية العجائبية* أوالحكاية العجيبة وبعضهم أستخدم مصطلح (الحكاية العجيبة ) فقط** وبعضهم أستخدم مصطلح الميثولوجيا***، ويفسر الناقد سعد يقطين الحكي العجائبي بانه الخرافي حين يقول:( يقصد بالحكي العجائبي (الخرافي) مختلف الأنماط الحكائية السردية التي تتشكل منها الحكاية ال
وتنطوى الميثولوجيا علي بعد ديني، خصوصا ما تعلق ب(الكرامة) التي هي وثيقة الارتباط بالاسطورة، من حيث نشأتهما معا في مناخ اجتماعي واحد، تبادلا من خلاله آلية التأثير والتأثر، هذا فضلا عن تمحور كل منهما حول (البطل) ذي القدرات الخارقة التي تتجاوز منطق الواقع وقوانين الزمان والمكان،ليحقق الحلم الجمعي وفق ارادته المطلقة. كما اشتركتا في الطابع الخيالي واللغة الرامزة المقنعة والموحية دون تصريح. وقد تناول ابن خلدون في مقدمته موضوع الكرامات والسحر والشعوذة واعتبرها علما سماه ( علوم السحر والطلسمات). وآمن ميكافيلي بان المنجمين وقراء الطالع استطاعوا التنبؤ بالكوارث الكبري قبل حدوثها.
وتعد السير والملاحم الشعبية أهم ما ابدعه العقل الجمعي والوجدان الشعبي صلة بالتاريخ ، بالرغم مما تنطوي عليه من خيال، اذ تدور حول سير ابطال وملاحم شعوب كا
نعجائبية، العجائبي نمط سردي يمكن ان يحضر في الحكاية العجيبة أو السيرة الشعبية أو الرواية أو افلام الرعب.)****
وتبني الحكاية الخرافية أو العجيبة أو الميثولوجية من حيث الشكل الهيكلي علي بناء ثلاثي المظهر، حيث تبتدئ بحدوث نقص ما يؤدي الي خروج البطل عن عالمه المألوف الي العالم المجهول.
ويكون ذلك النقص مرضا أو حادثا أو مسخا......الخ.
ثم تبني الحكاية العجيبة علي الفعل الخارق للبطل كرد فعل علي النقص، وتستند علي تركيب سردي يقوم علي المصادفة التي لاتنتقص من قيمة البناء الداخلي للحكاية بقدر ما تدفع الاحداث المتراكمة الي تحقيق الوحدة الملحمية المثالية، مثال ذلك مصادفة ان الغول الذي ينام عاما كاملا في سيرة فاطمة السمحة كان نائما عند حضور أبني عمها حسن وحسين لتحريرها من أسره.
وتقوم الحكاية العجيبة علي تكرار بعض الوحدات الدلالية، الضرر ورفع الضرر، لتبرز قانون التناقض بين القيم الانسانية: الشجاعة والجبن/ التسامح والغيرة/ القناعة والطمع.
لأسطورة أذا موظفة في رواية (توترات القبطي) توظيفا محكما وتمثل استجابة واعية لشرط من شروط الكتابة الروائية ، وليست ترفا أو استعراضا لعضلات الكاتب، أو شيئا مقحما علي النص من خارجه. نتتبع مظاهر الميثولوجيا في الرواية من داخلها لشرح الأطار النظري عمليا وتبيين مدي مقدرة الرواية ومبدعها علي الاستجابة للأطار النظري.
أولا/شخصية المتقي والتجليات الصوفية
حرص الكاتب حرصا ظاهرا علي ابراز شخصية المتقي قائد الثورة كشخصية أسطورية بحتة،فعلي أمتداد الرواية لم يبرز المتقي بشخصه في أي مشهد،
أن موضوع رواية(توترات القبطي) بطبيعته موضوع تحفه الأساطير التي ظلت ترافق سيرة الثورة المهدية علي طول الطريق منذ ان كانت نطفة في رحم التاريخ حتي اشتعالها وصيرورتها واقعا وانتصارها وخبو جذوتها وانكسارها وهزيمتها،وحتي بعد ان باتت في ذمة التاريخ، فظلت الأساطير والخرافات تطاردها وتلاحق سيرتها وسيرة ابطالها وقائدها.وأختلطت بعض أكاذيب الحرب النفسية وتزوير التاريخ لخصومها بتلك الاساطير.لذلك فأن الشئ الطبيعي أن يجئ أي نص أدبي يتكئ عليها ويتخذ منها أو من مسرح أحداثها موضوعا له، حافلا
*د سعيد يقطين/السرد العربي/ دار رؤية/2012 .يمثل هذا الاتجاه.
**د سعاد مسكين/ خزانة شهر زاد الأنواع السردية في الف ليلة وليلة/ دار رؤية/ استخدمت هذا المصطلح فقط.
*** د محمود اسماعيل/ الاسطغرافيا والميثولوجيا/ دار رؤية.
****سعد يقطين / الكلام والخبر/ مقدمة للسرد العربي .
بالأساطير هو الآخر، والا حكم علي نفسه بالموت وفقد قدرته علي الأيهام بواقعيته.ف
ابل ظل دوما مفهوما وصورة متجلية في ذهن أتباعه وصوتا يأتي من المجهول ليدغدغ مشاعرهم ويلهبها، وظل دوما محورا للحكايات، حتي بالنسبة لمقهور الذي ادعي بنوته له، المتقي ليس أبا عاديا، بل هو صورة ورؤيا وحلم،وهذا التصوير يقارب المفهوم الصوفي للمهدي المنتظر، وقد ظهر التصوف منذ عصر صدر الاسلام متخذا صورة الزهد في الدنيا وترفها، والأمعان في التطهر والنسك والمبالغة في العبادة كرد فعل للأسراف في التمتع بالمباهج الحسية علي إثر الفتوحات الأسلامية وما أسفر عنها من نزعات دنيوية. وخلال القرن الثالث الهجري ،تحول الزهد المتطور الي عقيدة فلسفية تقول بوحدة الوجد وتجعل من الذوق أداة للمعرفة بدلا من العقل عند علماء الكلام والنص عند الفقهاء. وبفضل الحلاج تحول التصوف الي مفهوم ثوري أسلامي يستهدف مواجهة الظلم وتحقيق العدالة. وخلال القرن السادس ظهرت الفرق الصوفية وجندت المريدين والاتباع علي نطاق واسع. وعلي الرغم من انطلاق التصوف من الأسلام إلا انه تحول الي فلكلور في عصور انحطاط الحضارة العربية الاسلامية، فغص بالخرافات والشعوذة والأسراف في تقدير الأولياء الي حد التقديس.
نقتبس من نص التوترات:(و الأسئلة تنكتب في كل ذهن..لماذا لايظهر المتقي لأحبابه علنا، ولماذا يستعرضهم من بين الشقوق، ويجلدهم بالصوت من خلف خيمة، ولايمنحهم نوره الذي يودون أن يمسكوا به)*
(الكارور يفح معلنا بداية خطبة الإمام المتقي، وتحول الجميع الي أذن واحدة تود أن تمتص، وترتبط بذلك الحبل المبارك.)*
المنصورأبن الحلم
وتحتوي الرواية علي أسطورة أخري تشكل أمتدادا لأسطورة المتقي، هي أسطورة الصبي مقهور الذي كان جنديا عاديا في كتيبة من كتائب الثوار، وفجأة أخذ يعلن انه ابن المتقي استنادا علي رؤيا حضرته ، فهو ابن الحلم المشترك وليس ابنا صلبيا مثل سائر بني البشر والمقصود هنا تكثيف ظلال أسطورة المتقي نفسه بهذه الكرامة من كراماته، ترد السيرة هكذا:( في سرية حاملي القوس والنبال، صبي ذو وجه طفولي م
ويصر الراوي علي وصف صوت المتقي بأنه حبل وليس صوتا بشريا:( لم يكن صوتا كصوتي ولاصوت أبي ايام كان يملك صوتا، ولاصوت الأمير عبادي طلسم، ولا أي صوت آخر أستمعت اليه في حياتي كلها، كان حبلا غزير الأمتار، شدنا من أعماقنا، ومرغنا في التراب، شدنا من ثيابنا وعرانا، شدنا من رئات التنفس ، ولهث بنا، ورأيت المجندين وقد ترنحوا بلا مرؤة، والمعسكر الكبير، مجرد علبة من علب الصفيح، يتلاعب بها موج بحر هادر.)*
*توترات القبطي / ص154
عندما يصير الصوت حبلا يشد الناس فان صاحب الحبل يصبح أسطورة خارقة وليس أنسانا من لحم ودم
وهكذا يرتفع الراوي بالمتقي الي مصاف الأسطورةويجعل منه شئيا هلاميا غامضا
ويورد الراوي تفسير المتقي لعدم ظهوره لاتباعه فنجد تفسيرا صوفيا بحتا مفاده اتباعه للرؤيا:
(لا نضن عليكم بوجهنا طوعا يا أحباب... ولكن نتبع الرؤيا...نتبع الأمر...حتي يعم الخير..)*
ولايجب ان يغيب عن ذهن من يقرأ وصف المتقي ان الراوي هو عدو المتقي الذي يروي عنه، لذلك يجب ألا نتقبل كل صورة ووصف، بل ندقق فيما هو كامن من سم في الدسم. ولكن اللافت للنظر ان الكاتب اختار عامدا استبدال اسم المهدي باسم المتقي وفعل الشئ نفسه باسماء الأمكنة والشخوص في الرواية عامدا تحرير الرواية من قيود التاريخ وضيقه ليتثني للرواية محاورة التاريخ بحرية.
ان الكاتب يرسم صورة أسطورية لقائد الثورة عمدا حتي يحقق للنص ثراءه ويصبح للمغزي ظلال تشي به دون بوح ودون مصادرة لخيال القارئ الفسيح.
أسطورة الصبي مقهور
ليح، لم يكن يعرف أحد من أين جاء، ولا دلت ملامحه الطفولية المليحة، عن قبيلته ينتمي اليها، وقد تردد همسا وسط جنود الكتيبة، ان مقهور حلم مرات عدة، بأنه ابن منسي للامام المتقي، ولد وتربي بعيدا عنه، وقد اخبره الحلم بانه سيجتمع بأبيه في أحد الايام.)**
يكون رد السلطة الزمنية ممثلة في قواد الكتيبة هو القبض علي الصبي وتعذيبه لاجباره علي الكف عن الهذيان، ويكف الصبي عن الهذيان مؤقتا ثم يقتل حارسا ويهرب، وبعد فترة من الزمن يعلنه المتقي قائدا للجيش محققا بذلك حلمه ومؤكدا مصداقيته ومصداقية الرؤيا التي أدعاها.وهكذا تكتمل الصورة الأسطورية بكرامة من الكرامات.دلالة الاسم مقهور الذي بات منصورا دلالة عميقة تضاف الي جملة المفارقات التي اعتمدها الكاتب في كتابة النص بأكمله.
*توترات القبطي 154
**توترات القبطي 155
ملامح أخري للأسطورة في الرواية
تشابه مصير أنسان وجواد
هناك ملامح أخري لتجليات الأسطورة في الرواية من خلال مقارنة صامتة بين مصير جواد وأنسان هما ميخائيل بك (الراوي) و(مصبح )حواد الحاكم التركي الهالك، قصة جواد القائد التركي يوسف دامير الذي قتله الثوار في معركة تحرير مدينة السور التي كانت مقرا له،ترد في الرواية في ص 162 حين يكتشف ميخائيل بك الذي صار اسيرا اسمه سعد المبروك وهو يهئ حصان سيده الجديد القائد عبادي طلسم الحمال السابق، ان ذلك الحصان هو ذاته (مصبح) جواد سيده السابق التركي يوسف دامير حاكم مدينة السور.يقول الراوي لحظة الاكتشاف:(تعرفت علي الجواد، وتعرف علي، وبكينا في صمت..انا اخون دمي الجديد، وأبكي بالدم النصراني القديم ، والجواد يخون اسراجه لحمل الجهادي، ويحن لسيده الذي رحل)*
فالجواد وقع في الأسر مثله مثل ميخائيل وانتقلت ملكيته لممثل السلطة الجديدة
،وهو القائد عبادي طلسم
و هذه صورة أخري
بها مفارقة ولاتخلو من سخرية مريرةو
قدين في ذلك. وهناك أسطورة النعناعة (خميلة جماري) سابقا التي باتت وعاء ناقلا لمرض عجيب فتك بعبادي طلسم ثم أصابت جرثوم
البعد الجمالي الاخر للنص انه يمكن القارئ من الوقوف علي طبيعة ميخائيل المراوغة المنافقة ودخيلته المملؤة حقدا علي ثورة
سحقت سلطته التي يدين بالوفاء لها ويكتمه.
حكاية الطفل الصيني الذي ولد بحي ونسة
في الرواية ملمح آخر للاسطورة ممثلا في قصة طفل صيني الملامح ولد في حي ونسة الفقير الكائن باطراف مدينة السور والذي تنشط به بيوت البغاء العلنية:( في تلك البقعة، ولد طفل صيني، لايعرف أحد من أبوه، ولم يدخل السور منذ انشائها صيني قط، ولا استطاع أحد تفسير تلك الملامح، شك علماء الدين في كونه المسيح الدجال الذي يظهر عند نهاية الدنيا، ووزعوا الاضطراب في خطب المساجد، وفي النهاية سموه الغريب.)**
وفي هذه الحكاية أشارة تربط المتقي بفكرة المسيح الدجال بلا شك. وهي أشارة مقصودة فالسلطة الآفلة ممثلة في مخائيل بك لاتريد ان تقبل بالتفسير البسيط المباشر لاسباب نجاح ثورة( المتقي) عليها وهو كونها سلطة استعمارية نهبت خيرات البلاد وطمست هويتها وأرهقت كاهل أهلها بالضرائب، وتريد السلطة المهزومة اللجوء الي تفسيرات غيبية للظواهر الاجتماعية، انكارا للثابت والحقيقي والظاهر.
*التوترات /ص 162
**التوترات ص 166
وهناك تجليات أخري كثيرة للاسطوري في الرواية منها اعتقاد الناس بان صديد جرح الجندي الذي جرحه الصبي مقهور يشفي المرضي ويحقق المعجزات فيتهافتون علي ذلك الصديد ويروجون قصصا خيالية عنه، ومن ذلك الشحصية الأسطورية (ضو القناديل) التي تسترت خلفها (نديمة مشغول) التي صعدت بها من حضيض صاحبة مقهي للملذات الي صورة زاهية لمجاهدة تروي حولها الروايات وويرصد بعد ذلك تحولها في نظر الثوار زنديقة تستحق الموت عند اكتشاف ماضيها ثم ارتفاعها الي مرتبة الشهيدة بعد اعلان المتقي ذلك وعدم جواز محاكمتها بماضيها. ومن مظاهر الأساطير ذلك العطر المسمي ريح الجنة الذي يتداوله اتباع المتقي مع
تته الراوي ميخائيل بك نفسه في الخاتمة.
وهكذا نجد الرواية محاطة من كل الاتجاهات بالعناصر الأسطورية ووقائع التاريخ الحقيقي المحور داخل النص ليخدم النص ويحقق أهدافه، والرواية بذلك تتماهي مع موضوعها الذي أختارته ويلتحم متخيلها مع واقعها المحور بحيث يصعب فض الاشتباك وهو ما اراده الكاتب. لكن سفره في التاريخ والاسطورة والخيال لم يكن سفرا بلا غاية ولاهدف بل كان سفرا لاعادة قراءة التاريخ والحاضر وهو تاريخ ممتد في مستقبل بات حاضرا وسيمسي تاريخا في قريب عاجل.أن اختيار الكاتب لشخصية الراوي ميخائيل بك وتسليمه دفة السرد من بداية الرواية حتي ختامها لم يأت اعتباطا، بل هو أمر مقصود، فشخصية ميخائيل بك شخصية كاركتيرية، وقد أعتمد الكاتب المفارقة في السرد المروي بلسانها، لذلك فان من يصدق كل ما تقوله هذه الشخصية تغيب عنه رسالة النص الجمالية والمعرفية، فالجلاد لايصلح شاهدا علي الضحية، والخصم لايصلح حكما،ولايصلح راوية للتاريخ، لان روايته للتاريخ ، مهما حاول ان يكون منصفا هي شهادة بعين واحدة وصوت واحد عن حدث متعدد الجوانب والشخوص والسير والأحداث.
صلاح الدين سر الختم علي
القاهرة 22/4/2012
فانتازيا المكان/ مظاهر الميثولوجيا في رواية توترات القبطي / الجزء الثالث من الدراسة
21 أبريل، 2012، الساعة 11:00 صباحاً
دراسة نقدية
أمير تاج السر ومغازلة التاريخ و
3 فانتازيا المكان في توترات القبطي
صلاح الدين سرالختم علي
الجزء الثالث من الدراسة
مظاهر الميثولوجيا فى رواية توترات القبطى
في هذا المحور من الدراسة نتابع تحليل وتفكيك بنية نص توترات القبطي لامير تاج السر وفق منهجية محددة تبتغي بالاشتغال علي النص الروائي انتاج معرفة بالنص من خلال محاورته والكشف فيه عن مضمره وعن آليات وشروط انتاجه، ومحور الحكايات الاسطورية أو العجيبة أو العجائبية(الميثولوجيا) محور مهم للتعرف علي النص والتعريف به ، فالنص يعج بالاساطير ومظاهرها وتجلياتها وهي لم تحشد حشدا عشوائيا،كما سنبين، بل لها وظيفة محددة، في هذا المحور من الدراسة.نحاول التعريف بالمصطلح والبحث عن مظاهر وتجليات الميثولوجيا فى رواية توترات القبطى وبعد ذلك نستعين بالنص الروائى في تتبعنا لتلك التجليات والمظاهر، قاصدين بذلك أبراز منهجية البحث وفروضه وما آلت اليه في الختام.
والميثولوجيا تعنى الاساطير والكرامات والخرافات وكل فكر مناقض للفكر العقلانى ) (1)واذا ارتبطت الميثولوجيا بحياة العوام اساسا الا انها وظفت حتى فى العصر الحديث فى السياسة لدرجة انها شكلت على سبيل المثال لب المشروع الصهيونى الذى تمخض عن تأسيس دولة اسرائيل ، وبرغم إستنادها الى الخيال فهى تنطوى على حقائق تاريخية ثانويةفى طياتها الامر الذى اهلها لتكون احد مصادر علم التاريخ ، ومع انها وليدة تفكير العوام ، فقد عبرت عنه فى لغات رامزة لها ، وقد اعتبرها البعض نوعا من الفلسفة البدائية تـأسيسا على شمولية رؤاها . لذلك اصبحت موضوعا للبحث والدرس والاستقصاء والتحليل والاستنباط من قبل المؤرخين والفلاسفة وعلماء النفس باعتبارها معرفة غاية فى الثراء والتعقيد ، وبالغة الاهمية فى دلالاتها كابداع جمعى عرفته المجتمعات الانسانية قاطبة طوال تاريخها . وهى تجمع بين المعقول والا معقول ، وبين الواقع والخيال ، وبين الوقائع السلوكية والمثل العليا.
وتنطوى الميثولوجيا علي بعد ديني، خصوصا ما تعلق ب(الكرامة) التي هي وثيقة الارتباط بالاسطورة، من حيث نشأتهما معا في مناخ اجتماعي واحد، تبادلا من خلاله آلية التأثير والتأثر، هذا فضلا عن تمحور كل منهما حول (البطل) ذي القدرات الخارقة التي تتجاوز منطق الواقع وقوانين الزمان والمكان،ليحقق الحلم الجمعي وفق ارادته المطلقة. كما اشتركتا في الطابع الخيالي واللغة الرامزة المقنعة والموحية دون تصريح. وقد تناول ابن خلدون في مقدمته موضوع الكرامات والسحر والشعوذة واعتبرها علما سماه ( علوم السحر والطلسمات). وآمن ميكافيلي بان المنجمين وقراء الطالع استطاعوا التنبؤ بالكوارث الكبري قبل حدوثها.
وتعد السير والملاحم الشعبية أهم ما ابدعه العقل الجمعي والوجدان الشعبي صلة بالتاريخ ، بالرغم مما تنطوي عليه من خيال، اذ تدور حول سير ابطال وملاحم شعوب كان لهم وجود حقيقي في صياغة التاريخ.(2(
1– د . محمود اسماعيل / الاسطغرافيا و الميثولوجيا / رؤية للنشر 2009
2-أرنست كاسيرو/ الدولة والاسطورة/ الترجمة العربية.
الحكاية العجائبيةأوالعجيبةأو الاسطورة وكيفية بنائها:
ثمة ارتباك بين النقاد في استخدام المصطلح لوصف الاسطورة أو الحكاية الخرافية، فبعضهم أستخدم مصطلح الحكاية العجائبية* أوالحكاية العجيبة وبعضهم أستخدم مصطلح (الحكاية العجيبة ) فقط** وبعضهم أستخدم مصطلح الميثولوجيا***، ويفسر الناقد سعد يقطين الحكي العجائبي بانه الخرافي حين يقول:( يقصد بالحكي العجائبي (الخرافي) مختلف الأنماط الحكائية السردية التي تتشكل منها الحكاية العجائبية، العجائبي نمط سردي يمكن ان يحضر في الحكاية العجيبة أو السيرة الشعبية أو الرواية أو افلام الرعب.)****
وتبني الحكاية الخرافية أو العجيبة أو الميثولوجية من حيث الشكل الهيكلي علي بناء ثلاثي المظهر، حيث تبتدئ بحدوث نقص ما يؤدي الي خروج البطل عن عالمه المألوف الي العالم المجهول.
ويكون ذلك النقص مرضا أو حادثا أو مسخا......الخ.
ثم تبني الحكاية العجيبة علي الفعل الخارق للبطل كرد فعل علي النقص، وتستند علي تركيب سردي يقوم علي المصادفة التي لاتنتقص من قيمة البناء الداخلي للحكاية بقدر ما تدفع الاحداث المتراكمة الي تحقيق الوحدة الملحمية المثالية، مثال ذلك مصادفة ان الغول الذي ينام عاما كاملا في سيرة فاطمة السمحة كان نائما عند حضور أبني عمها حسن وحسين لتحريرها من أسره.
وتقوم الحكاية العجيبة علي تكرار بعض الوحدات الدلالية، الضرر ورفع الضرر، لتبرز قانون التناقض بين القيم الانسانية: الشجاعة والجبن/ التسامح والغيرة/ القناعة والطمع.
أن موضوع رواية(توترات القبطي) بطبيعته موضوع تحفه الأساطير التي ظلت ترافق سيرة الثورة المهدية علي طول الطريق منذ ان كانت نطفة في رحم التاريخ حتي اشتعالها وصيرورتها واقعا وانتصارها وخبو جذوتها وانكسارها وهزيمتها،وحتي بعد ان باتت في ذمة التاريخ، فظلت الأساطير والخرافات تطاردها وتلاحق سيرتها وسيرة ابطالها وقائدها.وأختلطت بعض أكاذيب الحرب النفسية وتزوير التاريخ لخصومها بتلك الاساطير.لذلك فأن الشئ الطبيعي أن يجئ أي نص أدبي يتكئ عليها ويتخذ منها أو من مسرح أحداثها موضوعا له، حافلا
*د سعيد يقطين/السرد العربي/ دار رؤية/2012 .يمثل هذا الاتجاه.
**د سعاد مسكين/ خزانة شهر زاد الأنواع السردية في الف ليلة وليلة/ دار رؤية/ استخدمت هذا المصطلح فقط.
*** د محمود اسماعيل/ الاسطغرافيا والميثولوجيا/ دار رؤية.
****سعد يقطين / الكلام والخبر/ مقدمة للسرد العربي .
بالأساطير هو الآخر، والا حكم علي نفسه بالموت وفقد قدرته علي الأيهام بواقعيته.فالأسطورة أذا موظفة في رواية (توترات القبطي) توظيفا محكما وتمثل استجابة واعية لشرط من شروط الكتابة الروائية ، وليست ترفا أو استعراضا لعضلات الكاتب، أو شيئا مقحما علي النص من خارجه. نتتبع مظاهر الميثولوجيا في الرواية من داخلها لشرح الأطار النظري عمليا وتبيين مدي مقدرة الرواية ومبدعها علي الاستجابة للأطار النظري.
أولا/شخصية المتقي والتجليات الصوفية
حرص الكاتب حرصا ظاهرا علي ابراز شخصية المتقي قائد الثورة كشخصية أسطورية بحتة،فعلي أمتداد الرواية لم يبرز المتقي بشخصه في أي مشهد، بل ظل دوما مفهوما وصورة متجلية في ذهن أتباعه وصوتا يأتي من المجهول ليدغدغ مشاعرهم ويلهبها، وظل دوما محورا للحكايات، حتي بالنسبة لمقهور الذي ادعي بنوته له، المتقي ليس أبا عاديا، بل هو صورة ورؤيا وحلم،وهذا التصوير يقارب المفهوم الصوفي للمهدي المنتظر، وقد ظهر التصوف منذ عصر صدر الاسلام متخذا صورة الزهد في الدنيا وترفها، والأمعان في التطهر والنسك والمبالغة في العبادة كرد فعل للأسراف في التمتع بالمباهج الحسية علي إثر الفتوحات الأسلامية وما أسفر عنها من نزعات دنيوية. وخلال القرن الثالث الهجري ،تحول الزهد المتطور الي عقيدة فلسفية تقول بوحدة الوجد وتجعل من الذوق أداة للمعرفة بدلا من العقل عند علماء الكلام والنص عند الفقهاء. وبفضل الحلاج تحول التصوف الي مفهوم ثوري أسلامي يستهدف مواجهة الظلم وتحقيق العدالة. وخلال القرن السادس ظهرت الفرق الصوفية وجندت المريدين والاتباع علي نطاق واسع. وعلي الرغم من انطلاق التصوف من الأسلام إلا انه تحول الي فلكلور في عصور انحطاط الحضارة العربية الاسلامية، فغص بالخرافات والشعوذة والأسراف في تقدير الأولياء الي حد التقديس.
نقتبس من نص التوترات:(و الأسئلة تنكتب في كل ذهن..لماذا لايظهر المتقي لأحبابه علنا، ولماذا يستعرضهم من بين الشقوق، ويجلدهم بالصوت من خلف خيمة، ولايمنحهم نوره الذي يودون أن يمسكوا به)*
(الكارور يفح معلنا بداية خطبة الإمام المتقي، وتحول الجميع الي أذن واحدة تود أن تمتص، وترتبط بذلك الحبل المبارك.)*
ويصر الراوي علي وصف صوت المتقي بأنه حبل وليس صوتا بشريا:( لم يكن صوتا كصوتي ولاصوت أبي ايام كان يملك صوتا، ولاصوت الأمير عبادي طلسم، ولا أي صوت آخر أستمعت اليه في حياتي كلها، كان حبلا غزير الأمتار، شدنا من أعماقنا، ومرغنا في التراب، شدنا من ثيابنا وعرانا، شدنا من رئات التنفس ، ولهث بنا، ورأيت المجندين وقد ترنحوا بلا مرؤة، والمعسكر الكبير، مجرد علبة من علب الصفيح، يتلاعب بها موج بحر هادر.)*
*توترات القبطي / ص154
عندما يصير الصوت حبلا يشد الناس فان صاحب الحبل يصبح أسطورة خارقة وليس أنسانا من لحم ودم
وهكذا يرتفع الراوي بالمتقي الي مصاف الأسطورةويجعل منه شئيا هلاميا غامضا
ويورد الراوي تفسير المتقي لعدم ظهوره لاتباعه فنجد تفسيرا صوفيا بحتا مفاده اتباعه للرؤيا:
(لا نضن عليكم بوجهنا طوعا يا أحباب... ولكن نتبع الرؤيا...نتبع الأمر...حتي يعم الخير..)*
ولايجب ان يغيب عن ذهن من يقرأ وصف المتقي ان الراوي هو عدو المتقي الذي يروي عنه، لذلك يجب ألا نتقبل كل صورة ووصف، بل ندقق فيما هو كامن من سم في الدسم. ولكن اللافت للنظر ان الكاتب اختار عامدا استبدال اسم المهدي باسم المتقي وفعل الشئ نفسه باسماء الأمكنة والشخوص في الرواية عامدا تحرير الرواية من قيود التاريخ وضيقه ليتثني للرواية محاورة التاريخ بحرية.
ان الكاتب يرسم صورة أسطورية لقائد الثورة عمدا حتي يحقق للنص ثراءه ويصبح للمغزي ظلال تشي به دون بوح ودون مصادرة لخيال القارئ الفسيح.
أسطورة الصبي مقهور المنصورأبن الحلم
وتحتوي الرواية علي أسطورة أخري تشكل أمتدادا لأسطورة المتقي، هي أسطورة الصبي مقهور الذي كان جنديا عاديا في كتيبة من كتائب الثوار، وفجأة أخذ يعلن انه ابن المتقي استنادا علي رؤيا حضرته ، فهو ابن الحلم المشترك وليس ابنا صلبيا مثل سائر بني البشر والمقصود هنا تكثيف ظلال أسطورة المتقي نفسه بهذه الكرامة من كراماته، ترد السيرة هكذا:( في سرية حاملي القوس والنبال، صبي ذو وجه طفولي مليح، لم يكن يعرف أحد من أين جاء، ولا دلت ملامحه الطفولية المليحة، عن قبيلته ينتمي اليها، وقد تردد همسا وسط جنود الكتيبة، ان مقهور حلم مرات عدة، بأنه ابن منسي للامام المتقي، ولد وتربي بعيدا عنه، وقد اخبره الحلم بانه سيجتمع بأبيه في أحد الايام.)**
يكون رد السلطة الزمنية ممثلة في قواد الكتيبة هو القبض علي الصبي وتعذيبه لاجباره علي الكف عن الهذيان، ويكف الصبي عن الهذيان مؤقتا ثم يقتل حارسا ويهرب، وبعد فترة من الزمن يعلنه المتقي قائدا للجيش محققا بذلك حلمه ومؤكدا مصداقيته ومصداقية الرؤيا التي أدعاها.وهكذا تكتمل الصورة الأسطورية بكرامة من الكرامات.دلالة الاسم مقهور الذي بات منصورا دلالة عميقة تضاف الي جملة المفارقات التي اعتمدها الكاتب في كتابة النص بأكمله.
*توترات القبطي 154
**توترات القبطي 155
ملامح أخري للأسطورة في الرواية
تشابه مصير أنسان وجواد
هناك ملامح أخري لتجليات الأسطورة في الرواية من خلال مقارنة صامتة بين مصير جواد وأنسان هما ميخائيل بك (الراوي) و(مصبح )حواد الحاكم التركي الهالك، قصة جواد القائد التركي يوسف دامير الذي قتله الثوار في معركة تحرير مدينة السور التي كانت مقرا له،ترد في الرواية في ص 162 حين يكتشف ميخائيل بك الذي صار اسيرا اسمه سعد المبروك وهو يهئ حصان سيده الجديد القائد عبادي طلسم الحمال السابق، ان ذلك الحصان هو ذاته (مصبح) جواد سيده السابق التركي يوسف دامير حاكم مدينة السور.يقول الراوي لحظة الاكتشاف:(تعرفت علي الجواد، وتعرف علي، وبكينا في صمت..انا اخون دمي الجديد، وأبكي بالدم النصراني القديم ، والجواد يخون اسراجه لحمل الجهادي، ويحن لسيده الذي رحل)*
فالجواد وقع في الأسر مثله مثل ميخائيل وانتقلت ملكيته لممثل السلطة الجديدة
،وهو القائد عبادي طلسم
و هذه صورة أخري
بها مفارقة ولاتخلو من سخرية مريرةو
البعد الجمالي الاخر للنص انه يمكن القارئ من الوقوف علي طبيعة ميخائيل المراوغة المنافقة ودخيلته المملؤة حقدا علي ثورة
سحقت سلطته التي يدين بالوفاء لها ويكتمه.
حكاية الطفل الصيني الذي ولد بحي ونسة
في الرواية ملمح آخر للاسطورة ممثلا في قصة طفل صيني الملامح ولد في حي ونسة الفقير الكائن باطراف مدينة السور والذي تنشط به بيوت البغاء العلنية:( في تلك البقعة، ولد طفل صيني، لايعرف أحد من أبوه، ولم يدخل السور منذ انشائها صيني قط، ولا استطاع أحد تفسير تلك الملامح، شك علماء الدين في كونه المسيح الدجال الذي يظهر عند نهاية الدنيا، ووزعوا الاضطراب في خطب المساجد، وفي النهاية سموه الغريب.)**
وفي هذه الحكاية أشارة تربط المتقي بفكرة المسيح الدجال بلا شك. وهي أشارة مقصودة فالسلطة الآفلة ممثلة في مخائيل بك لاتريد ان تقبل بالتفسير البسيط المباشر لاسباب نجاح ثورة( المتقي) عليها وهو كونها سلطة استعمارية نهبت خيرات البلاد وطمست هويتها وأرهقت كاهل أهلها بالضرائب، وتريد السلطة المهزومة اللجوء الي تفسيرات غيبية للظواهر الاجتماعية، انكارا للثابت والحقيقي والظاهر.
*التوترات /ص 162
**التوترات ص 166
وهناك تجليات أخري كثيرة للاسطوري في الرواية منها اعتقاد الناس بان صديد جرح الجندي الذي جرحه الصبي مقهور يشفي المرضي ويحقق المعجزات فيتهافتون علي ذلك الصديد ويروجون قصصا خيالية عنه، ومن ذلك الشحصية الأسطورية (ضو القناديل) التي تسترت خلفها (نديمة مشغول) التي صعدت بها من حضيض صاحبة مقهي للملذات الي صورة زاهية لمجاهدة تروي حولها الروايات وويرصد بعد ذلك تحولها في نظر الثوار زنديقة تستحق الموت عند اكتشاف ماضيها ثم ارتفاعها الي مرتبة الشهيدة بعد اعلان المتقي ذلك وعدم جواز محاكمتها بماضيها. ومن مظاهر الأساطير ذلك العطر المسمي ريح الجنة الذي يتداوله اتباع المتقي معتقدين في ذلك. وهناك أسطورة النعناعة (خميلة جماري) سابقا التي باتت وعاء ناقلا لمرض عجيب فتك بعبادي طلسم ثم أصابت جرثومته الراوي ميخائيل بك نفسه في الخاتمة.
وهكذا نجد الرواية محاطة من كل الاتجاهات بالعناصر الأسطورية ووقائع التاريخ الحقيقي المحور داخل النص ليخدم النص ويحقق أهدافه، والرواية بذلك تتماهي مع موضوعها الذي أختارته ويلتحم متخيلها مع واقعها المحور بحيث يصعب فض الاشتباك وهو ما اراده الكاتب. لكن سفره في التاريخ والاسطورة والخيال لم يكن سفرا بلا غاية ولاهدف بل كان سفرا لاعادة قراءة التاريخ والحاضر وهو تاريخ ممتد في مستقبل بات حاضرا وسيمسي تاريخا في قريب عاجل.أن اختيار الكاتب لشخصية الراوي ميخائيل بك وتسليمه دفة السرد من بداية الرواية حتي ختامها لم يأت اعتباطا، بل هو أمر مقصود، فشخصية ميخائيل بك شخصية كاركتيرية، وقد أعتمد الكاتب المفارقة في السرد المروي بلسانها، لذلك فان من يصدق كل ما تقوله هذه الشخصية تغيب عنه رسالة النص الجمالية والمعرفية، فالجلاد لايصلح شاهدا علي الضحية، والخصم لايصلح حكما،ولايصلح راوية للتاريخ، لان روايته للتاريخ ، مهما حاول ان يكون منصفا هي شهادة بعين واحدة وصوت واحد عن حدث متعدد الجوانب والشخوص والسير والأحداث.
صلاح الدين سر الختم علي
القاهرة 22/4/2012
No comments:
Post a Comment